مفهوم الآخر

الاستاذ زكي الميلاد

بين المعنى السلبي والمعنى الإيجابي

يعد مفهوم الآخر أحد أكثر المفاهيم حضوراً وتداولاً في عالمنا اليوم, ويجري الحديث عنه في مختلف المجتمعات والثقافات والحضارات, وبات يتصل بالعديد من المجالات والميادين ويتلون بها, ففي المجال السياسي هناك حديث عن الآخر السياسي, وفي المجال الديني هناك حديث عن الآخر الديني, وفي المجال الفلسفي هناك حديث عن الآخر الفلسفي, وهكذا في المجال الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها.

 كما يرتبط هذا المفهوم ويتداخل بالعديد من الحقول المعرفية كالفلسفة, والدراسات الثقافية, والنقد الثقافي والأدبي, والتحليل النفسي وغيرها, ويدرس ويعتنى به في هذه الحقول, ودخل حديثاً في المعاجم الثقافية والأدبية والفلسفية, بوصفه مفهوماً ومصطلحاً له ملامحه وبنيته المفهومية والدلالية والتاريخية.

وعقدت حول هذا المفهوم وما تزال تعقد العديد من الندوات والمؤتمرات والحلقات, وعلى النطاقات كافة, الوطنية والعربية والإسلامية والدولية, ففي سنة 2005م كان هذا المفهوم موضوع اللقاء الفكري للحوار الوطني الخامس الذي نظمه في مدينة أبها مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني, كما نشرت حول هذا المفهوم وما تزال تنشر العديد من الكتابات والدراسات والمؤلفات بصور ومقاربات مختلفة, وبلغات العالم المختلفة.

ولا شك أن العولمة والتطورات المذهلة في ثورة المعلومات وشبكات الإعلام وتقنيات الاتصال, أسهمت بفاعلية كبيرة في إثارة هذا المفهوم, وتحريكه ولفت الأنظار إليه بين مختلف المجتمعات والثقافات, وذلك لكونه شديد الصلة بمسألة الهوية التي تفجر الحديث عنها مع انبعاث تيار العولمة, وأصبح هناك تلازم في الحديث بين العولمة والهوية.

 وفي ظل الانطباعات التي تصور أن العالم بات شديد التداخل والترابط بين أجزائه المتباعدة, وتحول إلى ما يشبه القرية العالمية المتصاغرة مع مرور الوقت, الوضع الذي غير جذرياً منظورات الرؤية لمفهوم الآخر, فلم يعد الآخر خارج الأسوار المحصنة, أو ذاك الذي تفصلنا عنه تلك المسافات البعيدة, أو ذاك الذي تحول بيننا وبينه البحار والمحيطات الممتدة على مدى البصر, أو الذي تحول بيننا وبينه الوديان والجبال الشاهقة, أو الفلول والصحاري الشاسعة, فقد بات الاحتكاك بهذا الآخر يحدث في كل لحظة, وفي كل مكان, وبكثير من الوسائط المباشرة وغير المباشرة, السمعية والبصرية, الشفهية والمكتوبة, وبلغات مختلفة.

من هنا كانت الضرورة للتوقف عند هذا المفهوم وفحصه, لمعرفة حده وحدوده, وكشف هويته وماهيته, وتحديد علائقه وتداخلاته.

وأول ما يستوقف الانتباه, التساؤل التالي: هل مفهوم الآخر هو تسمية سلبية أم إيجابية؟ وهل يستبطن هذا المفهوم قدحاً وذماً واستنقاصاً أم لا؟ وهل يحدث فصلاً وتباعداً وقطيعة أم لا؟ وهل يتضمن إلغاء ونفياً واستبعاداً أم لا؟

في الانطباع العام قد يوحي مفهوم الآخر بالطابع السلبي, وقد يشير إلى تلك الدلالات السلبية أو بعضها, وأشار إلى هذا المنحى ما جاء من تعريف لمفهوم الآخر في كتاب (دليل الناقد الأدبي), فبعد تتبع لاستعمالات هذا المفهوم في دراسات بعض المفكرين الفرنسيين المعاصرين مثل سارتر وفوكو وجاك لاكان, الذين شاع عندهم هذا المفهوم أكثر من غيرهم, ينتهي الكتاب بالقول: يرى المعنيون بأمر هذا المصطلح, أن الآخر في أكثر معانيه شيوعاً يعني شخصاً آخر, أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة, وبالمقارنة مع ذاك الشخص أو المجموعة يتحدد الاختلاف معه أو معها, وفي مثل هذه الضدية ينطوي هذا التحديد على التقليل من قيمة الآخر, وإعلاء قيمة الذات أو الهوية, ويشيع مثل هذا الطرح في تقابل الثقافات خاصة.

قد يكون هذا المعنى هو السائد في مقالات الأوروبيين المعاصرين, لكن ليس بالضرورة هو المعنى الثابت والمتفق عليه في تحديد ماهية هذا المفهوم.

ومن جهتي فقد وجدت أن هذا المفهوم يحتمل كلا الوجهين السلبي والإيجابي, فالجانب السلبي بات واضحاً ومعروفاً, أما الجانب الإيجابي فيتحدد في النظر إلى الطرف المغاير بعيداً عن التسميات والتوصيفات والكنى والألقاب غير المفضلة وغير المستحسنة, والتي لا يرتضيها هذا الطرف, ولا يقبل بها, وقد يرى فيها قدحاً أو ذماً أو تنابزاً بالألقاب. فبدل وصف الطرف المختلف أو المغاير بأوصاف وتسميات مثل العلماني أو الماركسي أو الكافر أو الملحد أو المشرك أو الحداثي أو الوجودي أو غيرها من التسميات والتوصيفات الأخرى, بدل كل ذلك يأتي وصف الآخر بقصد التجرد والتعالي والتنزه عن إطلاق مثل هذه التسميات والتوصيفات وغيرها.

بين الجانب الأخلاقي والجانب الفكري

عند النظر في مفهوم الآخر يمكن الفصل والتمييز بين جانبين أساسيين لابد من الإشارة إليهما, والتأكيد عليها في تكوين المعرفة بهذا المفهوم, وفي طريقة التعامل معه, وهما الجانب الأخلاقي والإنساني من جهة, والجانب الفكري والثقافي من جهة أخرى.

في الجانب الأخلاقي والإنساني ليس هناك ما يسمى بالآخر, ولا ينبغي إطلاق مفهوم الآخر في هذا الجانب, وذلك لأن الطبيعة الإنسانية هي واحدة وثابتة من حيث الجوهر والخلق والتكوين, ولا تختلف أو تتمايز بين جميع البشر, وهذا ما يعرفه البشر أنفسهم, منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض, ومهما اختلفت ألسنة الناس ولغاتهم, ألوانهم وأعراقهم, مدنياتهم وثقافاتهم.

وليس هناك إنسان غير بين بني الإنسان, فالخلق كلهم عيال الله, فطرهم على فطرته ولا تبديل لخلق الله, وخلقهم في أحسن تقويم, وجعلهم على أحسن صورة.

ومن هذه الجهة, فإن النظرة الأخلاقية تنفي إطلاق مفهوم الآخر بين البشر على أساس اللون أو العرق أو اللسان, وترفض وتواجه من يقبل أو يتبنى مثل هذه التصورات وهذه الأفكار, ومن يتحدث عنها أو يميل ويشير إليها.

وعند العودة إلى القرآن الكريم نجد أنه استعمل تسمية بليغة جداً وفي غاية الدقة, لا مكان فيها ولا وجود لمفهوم الآخر, ولا تعطي إيحاء به على الإطلاق لا من قريب ولا من بعيد, وهي تسمية (الناس) التي وردت مراراً في السور القرآنية المكية والمدنية, وتسمت بهذه التسمية آخر سورة في هذا الكتاب المجيد, وتبوأت مكان آخر كلمة فيه, حيث يقال إن آخر كلمة في القرآن هي كلمة (الناس), في دلالة على أهمية هذه الكلمة, وقيمة حقها الدلالي, وهذا ما لم يلتفت إليه!

ووجه البلاغة والدقة في كلمة (الناس) التي جاءت تعبيراً عن اسم الجنس البشري, أن هذه الكلمة تختلف وتتمايز عن سائر الكلمات القريبة منها والتي تدور في فلكها, أنها لا تقبل التجزئة أو التثنية أو الإضافة أو التقابل على مستوى اللغة, كما هو حال كلمات (الأمة والمجتمع والشعب والجمهور.. وغيرها), فكلمة الأمة تقبل التثنية فيقال أمتان, وتقبل الجمع فيقال أمم, وتقبل الإضافة فيقال أمة عربية وأمة إسلامية, وهكذا الحال مع كلمات المجتمع والشعب والجمهور, وهذا بخلاف كلمة (الناس) التي لا تقبل التجزئة والتثنية, وليس لها كلمة تقابلها, والمراد منها الإشارة إلى العموم والاستغراق دائماً, أي الناس كافة دون أي وصف زائد أو إضافة أو تمايز.

بمعنى أن كلمة (الناس) هي الكلمة الوحيدة التي تستغرق عموم البشر, فلا مجال فيها لشيء اسمه الآخر, أو للحديث عنه, ولا أدري إن كان يوجد في اللغات الأخرى كلمة تشابه هذه الكلمة من جهة العموم والاستغراق في النظر إلى عموم الناس, وأشك في ذلك.

ويتأكد هذا الموقف الأخلاقي والإنساني في النظر إلى مفهوم الآخر, بالاستناد إلى المقولة التي تروى عن الإمام علي عليه السلام, حين يصنف الناس, بقوله: الناس صنفان إما أخ لك في الدين, وإما نظير لك في الخلق, فهذه المقولة تجعل الناس ينظرون لأنفسهم من خلال رابطتين لا ثالث لهما, والثالث مرفوع كما يقول المناطقة, وهما رابطة الاشتراك في الدين, ورابطة الاشتراك في الخلق.

والحكمة البالغة في هذه المقولة, أن رابطة الاشتراك في الدين, لا تلغي رابطة الاشتراك في الخلق, بل إن رابطة الاشتراك في الدين هي التي تفتح وعي الإنسان على رابطة الاشتراك في الخلق, وتجعل منها منظوراً له في رؤية الناس والعالم.

وبالتالي فإن هذه المقولة ليست بصدد الإشارة إلى مفهوم الآخر, وإنما جاءت لكي ترتفع بوعي الإنسان بعيداً عن مفهوم الآخر, بكل ما يحمل هذا المفهوم من مضمنات فكرية.

لهذا جاز القول أن مفهوم الآخر ليس له مجال أو مكان أو اعتبار في الجانب الأخلاقي والإنساني, ولا ينبغي تحكيم هذا المفهوم والتعامل به في هذا الجانب.

من هنا فإن مفهوم الآخر إنما يتحدد في الجانب الفكري والثقافي, ويتأطر به بشكل خاص بوصفه المفهوم الذي يشير بصورة أساسية إلى الاختلافات الفكرية والثقافية بين الأفراد أو المجموعات البشرية, الصغيرة أو الكبيرة, وقد تتلون هذه الاختلافات تارة بلون سياسي, وتارة بلون اقتصادي, وتارة بلون اجتماعي, وتارة بلون آخر أيضاً.

وربط مفهوم الآخر بالجانب الفكري والثقافي يستند على خلفية أن هذا المفهوم هو الذي يشير إلى تلك الاختلافات الفكرية والثقافية الفارقة والفاصلة التي تظهر بين المجموعات والجماعات البشرية, ولا يتعلق بالاختلافات البسيطة أو السطحية أو العابرة.

 ويكشف عن ذلك طريقة التعاطي بهذا المفهوم بين المجموعات المختلفة, فهو لا يجري التعامل معه عند هؤلاء إلا على أساس الاختلاف الفكري والثقافي الفارق والفاصل بين هذه المجموعات.

* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة

رئيس تحرير مجلة الكلمة

www.almilad.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 17/حزيران/2009 - 19/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م