شبكة النبأ: من الأولويات التي يتفق
عليها الحكماء قبل غيرهم، أن تتوافر لدى القائد السياسي رؤية واضحة
تنبثق عن منهج او مشروع عملي واضح المعالم، بمعنى أن ضبابية الرؤية لدى
القائد السياسي ستدفع به الى عشوائية السلوك واتخاذ الخطوات وربما
القرارات السياسية الحساسة بصورة ساذجة او طائشة ما سيقود الرعية الى
التيه والضياع وفقدان البوصلة التي تشير الى الاتجاه الصحيح.
فالقائد السياسي هو قبل كل شيء صاحب مشروع محدد الملامح او ينبغي أن
يكون كذلك، ولهذا السبب فإن أفكار واتجاهات وطباع هذا القائد سوف تنعكس
على رعيته بالضرورة، بكلمة اخرى، إذا كانت ميول القائد ذات طابع عسكري
على سبيل المثال، فإن عسكرة المجتمع ستصبح أمرا مفروغا منه، حيث تتحول
شرائح الشعب سواء رغبت بذلك أم لم ترغب الى قطعات عسكرية مختلفة تضع
نفسها في خدمة تحقيق الاهداف العسكرية التي انطوى عليها مشروع القائد
ذو الميول العسكرية.
وكذلك الحال حين تكون ميول القائد أمنية او مخابراتية وما شابه، في
حين إذا انطوت رؤية هذا القائد على ملامح وطموحات مدنية، فإنها قطعا
ستكون ناتجة عن رؤية متحضرة في التعامل مع الواقع الحياتي المتطور على
المستوى العالمي، كما انها ستنبثق من ذات القائد ونظرته وأفكاره وطريقة
تعامله مع الوقائع بمختلف مجالاتها، ولعل قائل يقول بأن الدول
الدستورية لا تعتمد في قراراتها على شخصية القائد السياسي حصرا اذ ان
هناك مؤسسات متعددة تتدخل في طبيعة صنع القرار السياسي، ومع صحة هذا
القول بنسبة ما، إلا أن شخصية القائد السياسي وأفكاره الذاتية وطريقة
نظرته او تعامله مع الوقائع المختلفة او طبيعة مشروعه إجمالا سينعكس
بصورة كبيرة على ارض الواقع، ولنا في سياسة بوش الابن دليل قائم على ما
ذهبنا إليه، فمع ان الولايات المتحدة الامريكية دولة مؤسسات صارمة إلاّ
أن شخصة بوش ورؤيته السياسية للعالم ولبلده كانت حاضرة بوضوح في سياسة
امريكا.
وما نريد أن نصل إليه هنا هو، أهمية أن يتحلى القائد السياسي
بالمواصفات التي تحقق للرعية ما تصبو إليه، فكلما كان مشروعه ذا نزعة
مدنية تميل الى كفة التنمية والثقافة والعلم والفن والادب والابداع
والتطور، كلما كان قريبا من رعيته كونه سيبني أو سيسهم (بإعتباره اليد
التنفيذية لسياسة الدولة) في بناء بلد وشعب مثقف قادر على التواصل مع
سمات العصر وفق قدرات ذاتية متنامية في المجالات كافة، أما حين يحدث
العكس، فإن الدستور سيضمن له البقاء في دورة انتخابية تجعله متربعا على
رأس السلطة التنفيذية ولكن ما أن تنتهي دورته حسب الدستور حتى يجد نفسه
منسيا خارج ساحة السياسة، واذا اراد ان يتذكره الآخرون فبأفعاله التي
أساءت للناس ولم تخدمهم.
هنا نقول ان سمة العصر وكما هو واضح تقوم على الرغبة في تحقيق نقلة
في حياة الشعوب الى ما هو ارقى وافضل، ولعل هذا لا يدخل في خانة
المستحيل إذا ما توافرت الشخصية القيادية المهيئة أصلا للقيام بدور
متحضر وحقيقي لنقل الشعب او الامة من حال سيء الى حال أفضل، فالقرارات
التنفيذية وإن قيدها الدستور او محدودية واتساع درجة الصلاحيات لكنها
تبقى رهنا بطبيعة الشخصية القيادية وميولها، ولنا في ذاكرة التأريخ
شواهد شاخصة وراسخة في هذا المجال، حيث القادة السياسيون الذين حققوا
لشعوبهم نقلات بل قفزات كبيرة نحو التقدم والتطور والاستقرار فيما حقق
آخرون قفزات معاكسة أودت بشعوبهم ورعيتهم الى حضيض الهاوية بسبب ميولهم
العسكرية او العنفية وابتعادهم عن التمدن والتحضر بجميع اشكاله وصيغه.
ولنا في التأريخ السياسي المنظور للعراق أدلة واضحة على ما ذهبنا
إليه، حيث نلاحظ تعاقب الحكومات الجمهورية وسمات العنف التي رافقت
القادة السياسيين كلا وفق مشروعه ورؤيته التي غابت عنها ملامح التمدن
او تفضيل المدنية على غيرها من الأنهاج، لتتعاقب على العراقيين حقب
زمنية توالدت فيها المصاعب على نحو جعل من حياة الشعب كالجحيم .
ومن اجل ضمان ترسيخ النهج المدني وتحقيق رؤية مدنية متوازنة للقيادة
السياسة نسهم بهذه الخطوات والعوامل التي قد تصب في تحقيق جزء مما نصبو
إليه:
- أن يبتعد القائد السياسي عن العشوائية باتخاذ القرارات او حتى
التفكير بها.
- أن يبني مشروعه الفكري العملي مسبقا (أي قبل وصوله الى السلطة)
بما يتلاءم مع سمات العصر وطموحات الرعية.
- أن يعتمد المدنية هدفا لسياساته الشخصية او المقيّدة بمؤسسات
الدولة.
- أن تُلغى كليا عسكرة المجتمع وان تحتفظ السلطات التنفيذية بما
يكفي لتحقيق الامن الوطني الداخلي والخارجي.
- أن يهتم القائد السياسي بمنابع الفكر والثقافة وينميها من خلال
موقعه التنفيذي القادر على نقل المجتمع من حالة (العسكرة المنبوذة الى
المدنية الراقية).
- أن يعتمد القائد السياسي معايير النزاهة الصارمة مع مصالحة
الشخصية والعائلية والحاشية التي غالبا ما تكون (رأس الأفعى).
- أن يكون القائد السياسي نموذجا لغيره في السعي لتحقيق الدولة
العصرية المتمدنة، سواء من خلال القول او الفعل العام والشخصي على حد
سواء. |