الخطاب الديني في معركة التطور

أحمد شهاب

المقصود بالخطاب الديني ليس شكل الخطاب وحروفه وكلماته، ولا المونولوغ الشفوي، أو الكتابي الصادر عن الجماعات والتيارات بصورته الأولى والبسيطة، وإنما الفكر المؤسس للخطب والكتابات والحوارات الدينية، والذي يعتمد عليه العلماء والدعاة والمثقفون في إنتاجهم اللفظوي والتحريري، وبالتالي فالمقصود بالخطاب الديني تحديدا هو البُنية الفكرية التي تشكل الصورة النهائية لاهتمامات وانشغالات المتدينين في كل مجتمع على حدة، وهي بنية قابلة للتطور والتغيير والتفاعل مع مكونات العصر.

والمقصود بالتطور، هو إعادة تشكيل سيكولوجية الخطاب الديني بما لا يتعارض مع النصوص القطعية الدلالة، وتطوير اهتمامات وانشغالات السادة العلماء والدعاة والمثقفين في المجتمع، ونقلهم من الاهتمام بالقضايا الفرعية إلى الرئيسة، ومن الانشغال بالجزئيات إلى الكليات، ومن العناية بالمسائل التقليدية إلى المعاصرة، عبر تجديد فهم الإنسان للدين والإيمان، وتطوير رؤية الفرد الذاتية للحياة والكون.

فالثقافة الإسلامية بطبيعتها وإمكاناتها منفتحة على الفضاءات المعرفية الكبرى، ومتداخلة مع الهموم والقضايا المعاصرة، وقادرة على تغذية الساحة بإجابات وافية عن الأسئلة الكلية والنهائية التي يطرحها الواقع على المسلم المعاصر.

ولو أردنا أن نُقيّم الخطاب الديني السائد في مجتمعاتنا اليوم، كما يتجلى في الخُطب والمحاضرات الدينية التي تُنقل عبر الفضائيات، أو من خلال الإصدارات الثقافية المتداولة في أروقة المكتبات الإسلامية، إضافة إلى الكتابات والآراء ذات الطابع الإسلامي المنشورة في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، وحاولنا أن نستكشف مدى تطورها أو تخلفها، تقدمها أو تراجعها، فما علينا إلا أن نتفحص طبيعة اهتماماتها وتوجهاتها وقضاياها وأسئلتها، فإذا كانت القضايا المطروحة على الساحة الإسلامية حقيقية ومصيرية، فإنها مؤشر على تطور الخطاب الديني وحيويته، وإن كانت القضايا المتداولة فرعية وهامشية، فإنها مؤشر على تباطؤ الخطاب الديني وتراجعه.

وعلى ما يبدو فإن النتيجة محسومة سلفا، فانشغالات القائمين على شؤون التبليغ والدعوة، واهتمامات المعنيين بمسألة تثقيف المجتمع وتغذيته بالمسائل الدينية، من علماء وشيوخ دين، تكاد تكون محصورة في إطار الاحتجاج والجدل المذهبي، والهم الأساسي الذي يُثقل كاهل القادة الدينيين في مجتمعاتنا اليوم، هو تحصين الأتباع وحمايتهم من التأثر فكريا وعقديا بالطوائف والملل الأخرى، ومحاولة السيطرة على مسارب الأفكار «الضالة» و«المنحرفة» التي تتسلل عبر وسائل إعلام الطائفة الأخرى، أو اللقاءات والحوارات الشخصية، واعتبار ذلك مدعاة للفتنة والضلال.

ويبدو لي أن المسألة المهمة التي ينبغي الالتفات إليها في هذا المورد، هي الميل الإسلامي الراهن إلى تضخيم وتفخيم أحد جوانب المشكلة على ما عداها، وتحويلها إلى قضية كبرى في ذهن الأنصار والمريدين، وهو ما أدى إلى تبدل كبير في طبيعة الأسئلة والاهتمامات عند المسلمين بصفة عامة.. فلو عدنا إلى الإنتاج الثقافي والفكري لجيل «الإصلاحية الإسلامية»، وفي مقدمتها كتابات الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، فسنجد أن «سؤال التقدم» هو الذي يفرض نفسه على مجمل كتابات ذلك الجيل، بينما يفرض «سؤال الهوية» نفسه على اهتمامات الجيل الذي يليه وحتى اللحظة الراهنة.

وكما أن جيل الإصلاحية الإسلامية أنشأ قنوات تواصلية مع العصر، وأعاد اكتشاف قدرة الفكر الإسلامي على المواكبة والحضور والتألق الفكري، انسجاما مع قضيته الكبرى، وهي مسألة التقدم، وانتصارا لقناعاته الراسخة بقدرة الفكر الإسلامي على المقارعة والمواجهة الفكرية مع الثقافات والأفكار الأخرى دون خوف أو وجل، فإن جيل الدفاع عن الهوية أنشأ مشاريع إعلامية ضخمة صُرفت عليها، ولاتزال، مبالغ مالية هائلة لإعادة استدعاء التراث بكل غثه وسمينه وبغض النظر عن فوائده وأضراره، ومشكلاته وهمومه، وخصوصياته وعمومه، في سبيل دعم حجة هذا الفريق، أو دحض حجة الفريق المقابل.

وأكاد أعترف بأن جيل الإصلاحية الإسلامية لم يجد من يحفظ تراثه التَّقدمي، وانفصلت عنه الأجيال اللاحقة.. حتى أن المثقفين الحداثويين الذين كان يعول عليهم أن ينهضوا بذلك الفكر، ويعيدوا قراءة التجربة بعقل مفتوح تخلوا عنه، وفي الوقت الذي انكبوا بنهم شديد على تلقي العلوم والثقافة والأنساق المعرفية الغربية بكل حماسة واندفاع، انقطعوا عن التواصل مع المعارف والعلوم الإسلامية، وبدلا من أن يسهموا في تطوير الثقافة الإسلامية ويُحدثوها، انفصلوا عنها تماما، بل وانبرى بعضهم لمحاربتها.

في المقابل، سجل جيل الدفاع عن الهوية نجاحا باهرا في تسويق مبرراته ومشروعه القائم على فكرة التراجع والنكوص على الذات، ولم يجد أكثر مُناضلي المذهبية مانعا من الاستمرار في سلوك الطريق عينها، طالما يعود ذلك عليهم بالنفع، والشعور بأنهم حققوا غايتهم الأساسية، والتي يمكن اختصارها بترهيب الأتباع من الاستماع إلى صوت الآخرين ومنطقهم، وملء صدورهم بالحنق ضد «العدو التاريخي» الذي يتكرر ويتناسل حتى اليوم، في أكبر مشهد مأساوي يتكرر في عالم المسلمين، على الرغم من موت الرجال وتقادم الزمان.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1/حزيران/2009 - 4/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م