المحكمة الدولية: عدالة مع علامات الاستفهام

عقيل بن عبدالخالق اللواتي

في مثال السودان – وهو أكثر اثارة الآن – فان عملية الربط بينه وبين علامة الاستفهام تبدو واضحة بما فيه الكفاية: ان السياسة في محور الموضوع وليس العدالة!؟

ان بيت القصيد اذن ان نعرف: هل المحكمة الجنائية الدولية، اعتبارا من قيامها بعمل، لا يسعها ان تمتنع عن الانحياز؟

في الواقع، فان العالم، في خضم هذا العصر وصيحات احتجاجه على الحروب والارهاب والعنف، يميل الى استبقاء المقابلة اليائسة في ذاكرته بين التساؤل الانساني وصمت العالم الأكبر: كأن الرأي العام لم يعد سوى مدار لعب!!

وبنفس الصورة، اذا انكرنا على حرمة القانون الدولي اسبابها، فلا يمكن لأحد ان يقر للقتل اسبابه: ان اول شئ لا يمكن انكاره هو حياة الآخرين.

 وعليه ليس من فاعل قتل او مسببه الا ويجب ان يحاكم.. وليس من فاعل محاكمة او مساءلة قانونية مسيسة ومنحازة الا ويجب ان يحاكم هو الآخر: ان التسييس والانحياز هما نفسهما اللذان يجردان العدالة من مصداقيتها، واذا ما جردت العدالة من مصداقيتها، فان الجريمة المزدوجة سوف تصطفينا الواحد تلو الآخر. وليس من يقبل في ان يكون موضع اصطفاء.. وهذا هو مربط الفرس.

ان قضية فلسطين هي التي تضع القانون الدولي أمام مرآته: ان شعبها المحروم من كل قانون، والمكره على ان يُقتل أو ان يوافق على قتله (!)  لم يجد تحت تصرفه سوى صم العالم نفسه.

والصم يكفي ان يكون عاهة، عندما ينام القانون على اذنيه الاثنتين، بل ويصبح سلاحا: كان غويا – الفنان الاسباني المشهور -  قد بين بعبقرية فنه الفذة، كيف ان الطرشان اثناء ارتكاب المذابح، يهرعون الى قرع الطبول، كي لا يسمعوا سوى صدى الموسيقى. وبالمثل فان الكاتب المسرحي وليم شكسبير قد اظهر " كيف ان ذوي الحول والطول يحبون تصنع الصمم، لأنه يجعل ذوي الحاجات يركعون أمام عروشهم".

وكما يبدو في مرايا العالم، فان القانون الدولي لفي زمان الصمم، أو لفي زمان قرع الطبول عندما ترتكب المذابح ضد شعب ما، خصوصا تلك الشعوب التي امهروها بطابع العداء للسامية، تمشيا مع فكرة الصهيونية عن هذا العداء، بل وتمشيا مع توظيفها ضد الشعب العربي دون غيره من شعوب الأرض: اكثر من 74 عاما وشعب فلسطين يتعرض الى حرب ابادة منهجية، افصحت عن نفسها بمذابح دير ياسين وكفر قاسم وبمذابح اخرى تزايدت تزايدا مضطردا مع كل عام من اعوام الاربعة والسبعين المذكورة انفا.

واذا كان القانون الدولي لا يميل الى ابطال التاريخ – كما هو حالته مع قضية فلسطين – فان العراق منذ 1919 ( وهو العام الذي ولدت فيه عصبة الامم المتحدة) وهو يتعرض الى التمزيق في صورة شبه متواصلة: بدأت مرتسماتها بقصفه باسلحة كيماوية مليئة بالغازات السامة، ثم بمحاولة تقسيمه الى ثلاث دول، ثم بالحربين الاخيرتين اللتين حصدتا مئات الالوف من الابرياء.

وفي لبنان عندما كانت تتساقط قنابل الفانتوم فوق رؤوس السكان الابرياء، وعندما تم تأجيج محرقة بيروت (1982) بمذبحة صبرا وشاتيلا، فان الصوت الدولي الذي طالب بمحاكم مرتكبيها تلاشى ودون ان يعرف احد السبب وراء تبدده واندثاره.

وفي شمال افريقيا -  في ليبيا تحديدا - عوقب شعب بكامله بحصار خانق لمدة عشر سنوات (1990 – 2000) بحجة ما عرف يومها بـ " طائرة لوكوربي"،  ولم ينفك هذا الحصار بدواعي تطبيق القانون، الذي تولت امره محكمة دولية تم تأسيسها لهذا الغرض، وانما بتكييف قرارات هذه المحكمة مع الجزية المالية التي دُفعت لأهل الضحايا، واكثر فاكثر مع " الجزية السياسية" التي دُفعت لدول ما فتأت ترفع جدارها بين ما يسمى بدول الشمال ودول الجنوب.

وليس بعيدا عن العرب، هناك في القارة الافريقية، وقعت مذابح وحروب ابادة، تعاطت معها الدول الغربية كما لو انها لا تصلح لأي محاكمة، حيث كانت المرثيات الوجدانية اقوى من الجرح العميق للمذبحة، واقدر على مغالبة اي اجراء قانوني دولي بشأنها.

وانها قائمة من المذابح لا يمكن حصرها او تعدادها، ولكن ما يمكن قوله، هو ان الدول الكبرى المفترض انها هي قبل غيرها المسؤولة عن حماية القانون الدولي، تقاعست عن حماية القيم الحقوقية الإنسانية وقوضت ثقة العالم.

ان جدارا للعار -  يقول ألان ليبياتز – بدأ ينبت مرة أخرى، جدارا للأنانية هو بمثابة حدود فاصلة بين الشمال والجنوب.

أهي الذرائع؟

في الواقع لا ينبع رفض قرار المحكمة الدولية من الاعتقاد ببراءة حكومة الخرطوم أو استبعاد مسؤوليتها ازاء الجرائم الفظيعة التي حصلت في دارفور، ولكن من الريبة والشك في ان يكون كل هذا الحرص القانوني الذي توحي المحكمة الجنائية الدولية، هدفه فرض عدالة ما: يبدو الأمر للكثيرين، بأن المحاكم هذه، تجرفها حقبة مصابة بحمى الانتقام، ولهذا كان موضوع العدالة الدولية من اوله حتى اخره، واقعا في أسر من بيده السلاح، في حين ان الضعفاء يتلقون مأزق هذا السلاح.

وأبعد من هذا، فان التحالف من أجل انقاذ السودان، يبدو لهؤلاء اكثر التباسا وشبهة بسبب ما ينطوي عليه من افكار لتقسميه، وبما يتوافق مع استرتيجية مشبوهة هي الأخرى، وشواهدها لن تماريها العين ابدا: اقحام فكرة "الهولوكوست" في موضوع دارفور، وفي لعبة اشبه ما تكون بـ "لعبة " البلياردو" حيث توجيه الهدف الى "طابة" ما من شأنه ان يفضي الى اصابة "طابة" اخرى، فعندما يستمع المرء الى ما قاله (آفي ديختر) المسؤول عن الأمن الداخلي لاسرائيل، في محاضرة نشرتها الصحف العبرية في أكتوبر الماضي 2008، بامكانه ان يقارب كلامه من تلك اللعبة دون عناء: " هدفنا هو تفتيت السودان وشغله بالحروب الأهلية" هكذا بكل وضوح ومن غير حذلقة مفجعة!!

واذا كان من لا زال مرتابا بهذا الأمر، فليخرج من صممه المفتعل، ليصغي الى ما تقوله قيادات التمرد في دارفور: " نحن نعم على علاقة بدولة اسرائيل" !!

هل هذا كل شئ؟

لقد بدأ العديد من المراقبين بالتساؤل: هل حلت السياسة محل القانون كسلاح " جنائي موجه"؟ 

فالموضوع لوكان موضوع عدالة او حرمة قانون، لكان من المنطقي ان لا يستثنى اي من مرتكبي الجرائم مهما كانت انتماءاتهم ومهما كانت ايضا هويتهم السياسية،. فالعدالة – كما يرى هؤلاء – لا يمكن ان تكون عوراء، ومن ثم فهي لا تستقيم على وجهها اذا ما كالت بمكيالين.

وهكذا نحن هنا لا ندافع عن الرئيس البشير، ولا عن أي زعيم كائن من يكون اذا ارتكب جرائم قتل بحق شعبه، فلا تعني الزعامة بأي شكل من الأشكال استباحة دماء الشعب. ولا نتذرع بالموضوع الفلسطيني، باعتبار المجتمع الدولي مساهما في "غض البصر" عما تقوم به الدولة الإسرائيلية في حق المواطنين الفلسطينيين العزّل، لأن مأساة شخص يتعرض للإبادة هنا، لاتختلف عن مأساة من يتعرض لإبادة شبيهة هناك. فلاعلاقة أبدا بين الموضوع الفلسطيني وموضوع دارفور إلا لجهة حاجة الأمرين لثقافة إنسانية حارسة للكرامة وللإنسان وللحضارة. لكننا نتساءل عن الجرائم الفظيعة التي يرتكبها الأقوياء، ولا احد يطالب بمحاكمتهم لا محليا ولا دوليا.

وماذا بعد؟

ان هذا الصمم الاختياري للقانون الدولي أفقد المحكمة الدولية موقعها الأخلاقي، وبدلا من ان تدعم  وتعزز المجال القانوني الدولي, قوضت ثقة العالم. فهل هناك سبيل للخروج من هذا الوضع؟

* كاتب عماني

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 10/آيار/2009 - 13/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م