الأمن الثقافي ودوره في تحقيق الاستقرار

علي حسين عبيد/ شبكة النبأ

شبكة النبأ: تشحذ الشعوب والامم هممها لكن تؤمّن لنفسها إكتفاءً ذاتيا تاما في جوانب الحياة المتعددة، وتسعى جادة عبر التخطيط والتنفيذ لتحقيق الأمن بأنواعه في جميع المجالات التي تتوزع على فروع الحياة المتنوعة.

ولعل المشكلة الاساسية التي تعاني منها الشعوب المتخلفة هو تركيز ساستها على تحقيق الأمن العسكري أولا، وغالبا ما يصب هذا النوع من الامن لاسيما لدى الحكومات العربية على توفير الحماية للأنظمة الحاكمة اولاً او لحماية السلطة السياسية التي تقود البلد مبررة سلوكها هذا بأنه يحقق الأمن والاستقرار لدولتها وشعبها قبل أي شيء آخر.

ولعل الامن العسكري والسياسي والاستخباراتي يفشل كثيرا في مواجهة الارهاب والعنف والتطرف والتشدد وذلك ان هذه الامراض هي ثقافية وفكرية بالدرجة ولايمكن علاجها باستخدام القوة، بل بعملية علاج ثقافي يتم من خلالها تغيير القناعات والافكار وتغيير المنظومة المعرفية في المجتمع، بل ان استخدام القوة يؤدي في احيان الى تكريس هذه القيم السلبية. ولهذا فأن اغلب امراض المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل العنصرية والفقر والعنف الاسري والبطالة والجريمة، هي امراض اساسها الجهل وفقدان المعرفة وبالتالي عدم وجود امن ثقافي.

ولعل الأمر المستغرَب حقا هو إغفال تحقيق الأمن الثقافي من لدن السياسيين او المعنيين سواء في السلطات التنفيذية او غيرها، بل يذهب بعضهم الى اعتبار هذا النوع من الامن شيئا كماليا او ترفا لا يستحق العناء والاهتمام، فيقدم عليه الامن العسكري والاقتصادي والغذائي وما شابه، ناسيا او متناسيا بأن الأمم المتطورة التي تنتسب حاليا الى ناصية الحضارة هي تلك الامم التي تحرص على تحقيق أمنها الثقافي قبل كل شيء، لأنها تؤمن بأن الوصول الى أمن ثقافي رصين سيقودها قطعا الى تحقيق الامن الذاتي في مجالات الحياة كافة.

وقد حرصت مثل هذه الامم على تهيئة الأرضية السليمة لنشر الوعي والثقافة على مستوى واسع بين شرائح مجتمعاتها المختلفة، وقد وضعت لتحقيق ذالك خطط استراتيجية طبقتها على ارض الواقع البشري لتصل الى ترسيخ منظومة سلوك ثقافي شامل قائم على تطور الوعي في التعامل مع مجالات الحياة كافة.

ولعل نشر العلم والوعي بأشكاله وصوره المتعددة هو أهم ما خططت له هذه الاستراتيجية الثقافية التي تهدف الى تحقيق الأمن الثقافي، ولا يعني هذا أن يُناط الامر بالمثقفين حصرا، بمعنى ان نشر الوعي وتحقيق المنظومة الثقافية الشاملة في المجتمع ليست من اختصاصات المثقفين فحسب، بل يشترك في تحقيق ذلك جهد الدولة في جوانب الدعم والتنظيم والتنفيذ وما شابه، بكلمة أخرى أن صانع القرار السياسي له دوره أيضا في نشر الوعي وتحقيق الأمن الثقافي للشعب.

ولكن حين يقول أحد الساسة العراقيين بأن وزارة الثقافة (وزارة تافهة) وقد حدث هذا فعلا في ظل الصراع على المناصب السيادية وغيرها قبل عامين تقريبا، ويستهين هذا السياسي بوزارة يمكنها أن تنقل الانسان من حالة الجهل الى حالة العلم، فإن ذلك يدل على قصور حاد في الوعي لدى السياسي حيال اهمية تحقيق الأمن الثقافي.

ومن هذه النقطة بالذات جاء اهتمام الأمم والشعوب المتحضرة بالثقافة قبل غيرها حتى استطاعوا أن يطوروا منظومة سلوك مثقفة تغلغلت في جميع شرائح المجتمع بغض النظر عن درجة وعيها او تطورها، ولم يكن السياسي او صانع القرار بعيدا عن الاسهام في نشر الوعي، لاسيما ذلك الذي يتبوأ منصبا يمكنه من خلاله أن يدعم الوصول الى تحقيق هذه المنظومة السلوكية المتطورة لدى عامة الشعب او الأمة.

أما تلك الشعوب او الأمم التي أغفلت الجانب الثقافي ووضعت مسألة تحقيق الوعي في أسفل قائمة اهتماماتها، وقدمت الأمن العسكري او غيره من المجالات الاخرى عليها، فإنها لا تزال ترزح تحت وطأة الجهل وقيم التخلف والتعصب وما شابه ذلك، وهي تعاني من فوضى وإرباك في عموم مجالات الحياة .

ولعل التنبّه الى هذا الأمر ومعالجته بروية واخلاص بمشاركة المثقف والسياسي وغيرهما من شرائح المجتمع هو الذي يقود بتؤدة الى تحقيق الأمن الثقافي ومن ثم التطور في عموم مجالات الحياة الأخرى.

ان اصحاب القرار مطالبون اليوم بتحقيق الامن الثقافي ونشر منظومة قيم ايجابية سلوكية في المجتمع مقدمة لتحقيق الامن الاقتصادي والامن الاجتماعي واخيرا الامن السياسي والعسكري.

 ولغرض الوصول الى الأهداف المتوخاة هذه نقترح بعض الخطوات التي تصب في إمكانية الوصول الى تحقيق الأمن الثقافي عبر العديد من البنود والخطوات الاجرائية والفكرية منها:

1- دخول الجهد الحكومي بالكامل في عملية تحقيق منظومة السلوك الثقافية لعموم المجتمع وعدم ترك الحبل على الغارب او القاء مسؤولية ذلك على المؤسسات الثقافية وحدها.

2- إيجاد وتوفير السبل التي تساعد على نشر الكتاب وإيصاله الى أبعد حد ممكن وجعله متوافرا للجميع.

3- دعم وعقد الدورات التأهيلية والتدريبية من اجل وصول المواطن الى مؤهلات معرفية وثقافية تجعله قادرا على التطبع والانسجام في المجتمع من خلال رفع مستوى كفاءاته بما يتناسب مع قيم ومفاهيم التنمية الشاملة.

4- إيجاد معاهد خاصة لمختلف فئات المجتمع  من اجل تكريس مفاهيم الامن الثقافي عبر تدريس وتعليم المواطنين للقيم الثقافية السلوكية مثل تدريس مفاهيم السلم واللاعنف والنظام والتنظيم والانضباط والاحترام المتبادل والتعايش.

5- تدعيم وسائل نشر الوعي المختلفة ومساعدتها على تأدية واجباتها على أكمل وجه.

6- تشكيل لجان متخصصة ترتبط بالسلطة التنفيذية مباشرة مهمتها نشر منظومة السلوك عبر وسائل عملية مخطط لهل مسبقا من قبل المتخصصين في هذا الجانب.

7- اهمية الاستفادة من خبرات الامم والشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار من خلال الإحتكاك والتلاقح مع تجاربها العملية وتحويل ذلك الى مفردات عمل ملزمة.

8- نشر ثقافة شارع جيدة تعتمد عنصر اللياقة والتحضر في التعامل اليومي بكل مجالات الحياة من خلال حملات توجيهية وارشادية تقوم بها الوزرات والمؤسسات والمنظمات.

9- تنسيق الجهد التثقيفي الرسمي مع الجهد الأهلي لغرض تحقيق الهدف المنشود وعدم التقاطع في الاهداف والوسائل.

10- التركيز على دور المحيطين العائلي والمدرسي في تنشئة الطفل وفق منظومة سلوك متوازنة ومتحضرة.

11- تشجيع ثقافة العمل الطوعي بين المواطنين بما يضمن تطور السلوك الثقافي والاجتماعي للافراد نحو مفاهيم المشاركة والتضامن والتكافل والتكاتف وبالتالي الرضا والقبول بالذات وإنكار الاستحواذ والاحتكار والأنانية.

ان تحقيق الامن الثقافي من خلال  نشر وتحقيق وتكريس منظومة قيم ثقافية ستؤدي الى إيجاد سلوكيات ايجابية وحضارية في المجتمع مثل احترام النظام ذاتيا والانضباط الذاتي والاعتماد على لغة الحوار السلمي واحترام حريات وحقوق الآخرين، والالتزام بثقافة القانون، والحفاظ على المال العام بما يساهم بتحقيق الامن العام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/نيسان/2009 - 1/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م