غياب النقد وصناعة الطغاة

كتب المحلل السياسي لـ شبكة النبأ

 

شبكة النبأ: ما حدث في العراق من متغيرات سياسية بعد 9/4/2009 كان يُحسب ضمن خانة الاحلام التي لا يمكن أن تتحول الى وقائع ملموسة، فقد كان شائعا بين العراقيين بأن تغيير النظام السابق أصبح خارج قدرة الانسان وأن الله تعالى وحده القادر على ذلك، وفعلا واجه الطغاة مصيرهم الذي يستحقونه وتحرر العراقيون من النظام الشمولي المركَّز بشخصية القائد الاعظم وحزبه الأوحد.

وتنفس الناس الصعداء وبدأت أجواء الحرية تحبو رويدا كالوليد الجديد، وتعددت الاحزاب حتى فاق عددها تصور الناس وهي بمثابة رد فعل سريع وضخم لحالة الحرمان السياسي التي عاشتها السياسة والسياسيون كما هو الحال بالنسبة لمجالات الحياة الاخرى، وتوسعت الانشطة الاعلامية وصارت الندوات والمؤتمرات حالة يومية ترفل بها اجواء العراق الديمقراطية المتنامية، وبرغم التيارات المضادة التي تمثلت بالارهاب جملة وتفصيلا والمعوقات الخطيرة التي استقتلت من اجل افشال التجربة الجديدة ومسخ عناصرها وتقويض مقوماتها، إلاّ ان عطش العراقيين للتحرر قاوم جميع التيارات المضادة برغم فداحتها وخطورتها.

ومن اجل ان يسير العراقيون في طريق التحرر ويواصلوا تقدمهم، فانهم خاضوا تجارب انتخابية متتالية لاختيار ممثليهم في مجلس النواب وقادتهم في الحكومة المركزية والحكومات المحلية وعبرت هذه التجارب (رغم كل ما تعرضت له من محاولات مستميتة للتعويق) عن تشبث مستميت للشعب ولكن من نوع آخر هو تشبث المحروم الذي لمس درب الحرية بيده ورأى الضوء في آخر النفق.

ومع تنامي التجربة الديمقراطية ظهرت (وهذا أمر متوقع) تلك العلامات السلبية التي غالبا ما ترافق مثل هذه التجارب التي تغير وجه التأريخ للشعب المعني وغيره، ومن هذه السلبيات محاولات البعض من الساسة محاصرة الصوت الحر عبر تقويض النشاط الاعلامي المخلص وحصره في اتجاه المدح للنشاط الحكومي، وهذا ما يتنافى تماما مع عناصر تطور الديمقراطية وديمومتها، كما ان البعض من الاعلاميين سخَّر نفسه لما تفرضه عليه أجندات حكومية قد تكون مضادة للمسيرة الديمقراطية المتواصلة، وهذا ما يقودنا الى القول بأن غياب الاعلام الحر يعني بداية لمشروع صناعة الطغاة الجدد او تهيئة الامر لذلك في أضعف الايمان، وهنا تحضرنا حكاية عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد تقول:

أن السعيد كان في طريقه الى إحدى المآدب لأحد أغنياء بغداد في ذلك العهد وكان بصحبته صالح جبر، وحين وصل الاثنان زقاق صاحب بيت المأدبة كان هناك ثلة من الاطفال قرب بيت صاحب المأدبة وحين رأى الاطفال نوري السعيد وصالح جبر، أطلقو إهزوجتهم المعرفة (نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانة) وهنا سمعهم صاحب المأدبة فمنحهم بعض النقود لقاء تغيير الاهزوجة الى افضل منها فصارت كالتالي (نوري سعيد شدّة ورد وصالح جبر ريحانه) لكن نوري السعيد لم يعجبه التغيير الثاني في الاهزوجة فمنح الاطفال نقودا مضاعفة لكي يعودوا الى إهزوجتهم الاولى.

والآن نتساءل كم من سياسيينا الحاليين عندهم الاستعداد لفعل مثل هذا الأمر؟ أما السلطات لاسيما التنفيذية منها، فإنها غالبا ما تدعو عبر رجالاتها الاعلاميين وغيرهم الى التعبير عن الوجه الايجابي لأنشطتهم ويتجاهلون الجانب السلبي أو يغضون الطرف عنه، وهذا هو أول اسباب ضياع الديمقراطية بل أخطر داء سيقود الى وأدها عاجلا أم آجلا.

كما ان الاعلاميين تقع عليهم المسؤولية مناصفة مع الساسة، لاسيما في مدح من لايستحق ذلك من المسؤولين او غض الطرف عن خلل هنا وتجاوز هناك، وعليهم أن يعوا بأن المسؤولية الاعلامية تضع على عاتقهم مصداقية الكلمة والصوت والصورة التي تضع الامور في نصابها سلبا او ايجابا.

إذ اننا نتذكر كيف صنع الاعلام طغاة دمروا شعوبهم من خلال التصفيق والتبجيل وما شابه لشخصية السياسي الذي لايرى إلاّ نفسه في هذا العالم اللامحدود، فقد بدأ صغيرا ضعيفا ثم بدأ جسده السياسي يكبر ويقوى رويدا ويشتد عوده من خلال المؤازرة الاعلامية الظالمة له حقا كان أم باطلا ليصبح في آخر المطاف طاغية متوحشا على شعبه وحاشيته ونفسه ايضا.

لذلك نحاول أن نذكّر ونضع النقاط على حروفها كي لا يأخذنا الزهو بما تحقق وننسى الجوانب السلبية الخطيرة التي ترافق نمو التجربة.

إننا جميعا نحرص على ما قطفناه من تجربتنا واجوائها المتحررة، وعلينا أن نرصد الخلل فيها وفينا ونحاول أن نقوّمه ونرصد الصحيح منه ونثني عليه، لكن كل ذلك ينبغي أن يمر من خلال تدعيم الكلمة الاعلامية الحرة والسماح للنقد أن يأخذ دوره في الرصد والتصحيح وكبح جماح تضخم الذات الذي غالبا ما يقود المسؤول الى (الهاوية).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21/نيسان/2009 - 24/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م