الوضوح يقيك الشائعة
حتى يغيروا- قراءة في حلقات

نـزار حيدر

ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا.
هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.
اذا تساءل المرء، لماذا تنتشر الشائعات في البلدان المتخلفة، بلداننا مثلا، ولا تنتشر في البلدان المتقدمة، الغرب مثلا؟.
فمثلا، اذا عطس الزعيم في بلداننا، طارت الشائعات والدعايات لتفسر (العطسة) فمنهم من يقول ان الزعيم على وشك ان يموت، وآخر يقول بانه ربما مات الا ان السلطات لا تعلن الخبر خوفا من حصول انقلاب عسكري، وثالث يقول ان (عطسة الزعيم) دليل عافيته من مرض عضال، وهكذا، ترى الناس منشغلون بعطسة الزعيم الاوحد اياما واياما، ولا يوقف الشائعات الا اذا صدر بيان من القصر يطمئن الشعب على صحة زعيمه الذي كاد مرضه ان يتسبب بموت كثيرين حسرة وكمدا.
اما في البلدان المتقدمة، فلا عطسة الرئيس، ولا اكبر منها يمكن ان تكون سببا للشائعات والدعايات، لماذا؟.
لان كل شئ يتم التعامل معه علنا وليس سرا، فالمعلومة مشاعة في البلاد المتحضرة، اما في البلدان المتخلفة فالمعلومة محضورة، مهما كانت، خاصة تلك التي تخص السلطة.
في البلدان المتحضرة يشاهد المواطن ويسمع ويقرا كل الاخبار، فلا اسرار ولا تعمية ولا هم يحزنون، اما في البلدان المتخلفة فالمواطن {صم بكم عمي فهم لا يعلمون} ولذلك فالمواطن عندهم لا يحتاج الى ان يبحث عن الخبر او تفسيره، وانما يقدم اليه مع قهوة الصباح وفي المدرسة وفي محل العمل وفي السوق وفي كل مكان، اما عندنا فالمواطن يتلصص على السلطة ليقتنص الخبر او تفسيره.
ولان الخبر والمعلومة مشاعة عندهم، يسمعها المواطن من فم الرئيس وعلى لسان المسؤولين، فلذلك، فهو لا يحتاج لان يصغ الى وسائل الاعلام الاجنبية، لانه سوف لن يسمع منها اكثر مما قالته وسائل الاعلام الوطنية، اما عندنا فترى المواطن مشدود الى وسائل الاعلام الاجنبية لانه يعرف بانه اذا اراد ان يسمع الخبر الصحيح عليه ان لا يصغ الى الاعلام الوطني، فالعراقيون مثلا، يسال بعضهم بعضا عن مصدر الخبر فان كان المصدر (ابو ناجي) اي اذاعة الـ (بي بي سي) صدقوه بلا تحفظ، اما اذا قيل لهم بان جريدة (الثورة) او (الجمهورية) او اذاعة بغداد هي التي نقلت الخبر قالوا (حكي جرائد) اي لا تصدق ما قيل لك، لماذا؟ لانهم خبروا الاعلام الوطني فوجدوه ليس جديرا بالثقة ابدا.
لذلك تكثر الشائعات عندنا، اما عندهم فالشائعات معدومة.
عندهم، لا يدخل اي خبر في خانة (المحرمات) او (المحضورات والمحذورات) بحجة المصلحة الوطنية او الامن القومي، او بسبب حالة الطوارئ المعدومة اساسا عندهم، اما عندنا، فكل خبر مهما كان بسيطا، يجب ان يمر بفلتر السلطات الامنية قبل ان ير النور، والا فان عقوبة من يسرب الخبر قبل الاستئذان من الحكومة تصل في اغلب الاحيان الى الاعدام.
حتى اذا حلم المواطن بانقلاب عسكري مثلا، فعليه ان لا يقصه لاحد قبل ان يحدث به مديرية الامن والمخابرات، فاذا شاءت سمحت له بان يقصه لابيه مثلا او لاخيه، اما اذا طلبت منه ان يتكتم على (الرؤيا) من اجل المصلحة العليا للوطن، فيجب عليه ان يلتزم بما يؤمر به، والا...
في العراق الجديد، يجب ان تتغير هذه المعادلة، من خلال تغيير طريقة التعامل مع المعلومة، والتي يجب ان تكون مشاعة، وتنتشر بانسيابية الى المجتمع، وعندها فسوف لا يضطر المواطن الى ان يبحث عن الخبر في القنوات الفضائية غير العراقية، كما انه سوف لا يكون مضطرا الى ان يصدق الشائعة ويبحث عن الدعاية، لانه سيحصل على المعلومة من مصدرها الحقيقي وبصورة صحيحة، وبذلك، سنقضي على الشائعات شيئا فشيئا.
ويجب ان نتذكر دائما، بان المعلومة الصحيحة المشاعة، عامل مهم في صناعة راي عام متنور، وبالتالي فهي سبب مهم من اسباب الاستقرار الامني والاجتماعي والاقتصادي، وقبل وبعد كل ذلك، السياسي، ولذلك يجب ان نحرص عليها، وهي لا يمكن ان تتحقق الا اذا تحدثت عنها الجهات المسؤولة بكل شفافية وصراحة وصدق، ولذلك يجب ان لا ينتظر المسؤول المعني بالمعلومة ليتحدث عنها السوق والمقهى والمغرضون والمرجفون في المدينة، قبل ان يتحدث عنها هو، لان المعلومة الواصلة للمواطن من الجهات المعنية تكون دقيقة، او هكذا يجب ان تكون، اما معلومة المقهى والشارع والمدرسة، فهي لا تصل قبل ان يرش عليها النقالون عدة انواع من التوابل، ولذلك فهي عامل تشويش وتشويه واثارة للبلبلة.
يجب ان يبادر المسؤول بالحديث عن المعلومة اولا باول، ليكسب ثقة الناس، ويغلق الطريق على المتصيدين بالماء العكر، وبالتالي يغلق باب الشائعات والدعايات وما اشبه، وان مبادرته للحديث عن المعلومة تضعه في موقع المبادر، اما اذا تاخر في الحديث عنها بعد ان يتحدث عنها المقهى، فستضعه، والحالة هذه، في موقع المدافع وكانه المتهم الذي يدافع عن نفسه ازاء جرم لم يرتكبه.
والمشكلة تكمن في اننا لا نتحدث عن مشاكلنا بصراحة وصدق وشفافية، ليس السياسية منها، فحسب، وانما بكل انواعها، ولذلك نفاجا دائما بنتائج غير متوقعة لاننا لم نسمع بمقدماتها.
خذ مثلا على ذلك، طريقة تعامل الطبيب مع مرضاه، فهو لا يصارحهم بالمرض الحقيقي الذي يعانون منه، خوفا على نفسياتهم، مثلا، او مداراة لهم او ما اشبه، فيقول لمريضه المصاب بالسرطان ان الامر لا يتعدى كونه صداع مزمن بالراس، او للمصاب بضعف في القلب بانه يعاني من تعب بالعضلات، اذا بنا نسمع ان فلان (المصاب بصداع الراس) قد فارق الحياة، وان الاخر (المصاب بتعب بالعضلات) قد مات، فنظل في حيرة، ونتساءل، هل يعقل ان الصداع يقتل الانسان؟ وان تعب العضلات مرض مميت؟ وهكذا.
اما عندهم، فان الطبيب يتعامل مع مرضاه بكل وضوح، فلا يخفي عليهم عللهم ولا يتستر على امراضهم الحقيقية مهما كانت، ولذلك يمشي المريض عندهم بدائه، سنين وربما عقودا طويلة، اما عندنا فان المريض لا يمشي بدائه، عندما يعرف حقيقة مرضه، الا اياما او اشهر معلومات، لان المريض عندهم يتاقلم مع مرضه، اما عندنا فالمريض يصدمه مرضه، فيموت بالصدمة قبل ان يموت بمرضه.
تاسيسا على ذلك، اعتقد باننا بحاجة الى ثقافة جديدة على صعيد التعامل مع المعلومة، ومع المشاكل ومع الخلافات ومع الامراض، الاجتماعية وغيرها، من اجل ان نصارح انفسنا فلا نخدعها بالشعارات، ما يساعدنا على ان نبحث عن الحلول بشكل حقيقي وواقعي وجذري.
يجب ان نتعلم (الشفافية) منذ الصغر، فنعلم اطفالنا كيف يتحدثون عن مشاكلهم، وكيف يصارحوننا باخطائهم وذنوبهم، لان الطفل الذي يخاف ان يتحدث عن خطئه امام والديه، لا يجد حلا له، اذ يجد نفسه امام خيارين، فاما ان يسكت خوف العقوبة القاصية، ليتضخم الخطا الى ان يتحول الى انحراف، او ان يحدث به من هو ليس اهلا لذلك، من اصدقائه مثلا او ما اشبه، وعندها سيستغله ضعاف النفوس لتوظيف الخطا في المسار المنحرف، وكلا الامرين خطا.
يجب ان لا يجد الاولاد الا المنزل كافضل واامن مكان لايداع اسرارهم، والحديث عن اخطائهم ومشاكلهم، من خلال تشجيعهم على ذلك وحثهم على الحديث عنها بامان، وعندها سيكبر الاولاد وقد تعلموا الصراحة والشفافية في الحديث، بلا خوف ولا وجل او تردد او تهرب.
ان تعليم الاطفال الحديث عن مشاكلهم واخطائهم، سيمنح الابوين فرصة كبيرة جدا لتصحيحها وتقويمها، والعكس هو الصحيح، فارهاب الاطفال وارعابهم ومنعهم من الحديث عنها سيضخم المشاكل التي تتحول في اغلب الاحيان الى انحرافات خطيرة، لا تسبب في مشاكل للعائلة، وانما لكل المجتمع.
صارح طفلك واولادك وعائلتك، وتحدث اليهم بوضوح ولا تخف عليهم شيئا، خاصة اذا كنت تمر بمشكلة، ازمة مالية مثلا، ليستوعبوا قرارك بالتقشف، ويساعدوك ويمدوا لك يد العون عندما تحتاجها، لتجاوز الضائقة المالية او اية مشكلة اخرى.
اما اذا حجبت عنهم الحقيقة وطلبوا منك شيئا لم تقدر على تلبيته، فانهم سوف لن يتفهموا تبريراتك، ولن يقبلوا منك تهربك، ولن يعينوك على تجاوز مشكلتك.
علينا ان نتعلم الوضوح من ربنا عز وجل، وفي الحديث {تخلقوا باخلاق الله} ولقد قال امير المؤمنين عليه السلام يصف هذا الخلق الالهي بقوله {فانه، اي الله تعالى، لم يخف عنكم شيئا من دينه، ولم يترك شيئا رضيه او كرهه الا وجعل له علما باديا، وآية محكمة، تزجر عنه، او تدعو اليه} وصدق عز من قائل في محكم كتابه الكريم {ان الله لا يستحيي ان يضرب مثلا ما بعوضه فما فوقها}.
ولقد كان الوضوح والصراحة والشفافية، مبدأ امير المؤمنين عليه السلام في تعامله من القادة والرعية، وهو القائل {الا وان لكم عندي الا احتجز دونكم سرا الا في حرب}.
اما بالنسبة الى المسؤول، فيجب عليه ان يكون مستعدا للحديث عن مشاكله ومعاناته للناس، كما يجب عليه ان يكون مستعدا للدفاع عن نفسه اذا ما اتهم او شك فيه الناس، او لتوضيح موقفه لهم اذا ما التبس الامر عليهم، فان ذلك افضل له واسلم من ان يخفي عليهم اسراره، فيسمعونها من هذا وذاك، مضافا اليها من الفلفل والملح والبهارات، كما يقول العراقيون، فتشوه وتتبدل الحقيقة فيكون عندهم متهما، كما اسلفنا، لانه خسر فرصة الدفاع او التوضيح، ولذلك اوصى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام مالكا الاشتر عندما ولاه مصر بقوله {وان ظنت الرعية بك حيفا، فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك، فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، واعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق}.
هنا يقفز امامنا السؤال التالي، لماذا لا يصارح المسؤول عندنا شعبه بمشاكله، او يبادر للدفاع عن نفسه امام الشائعات والدعايات؟.
بمعنى آخر، لماذا لا يتعامل المسؤول عندنا بشفافية مع الناس؟.
نحن نعرف جيدا، لماذا يخفي الطاغوت الحقائق عن شعبه، ويسعى لحجب المعلومة الصحيحة عن الناس، لانه يريد ان يقودهم كيف يشاء، والمعلومة التي تفضي الى العلم الذي يفضي الى البصيرة، لا تخدم سياسات الطاغوت، ولذلك وصف امير المؤمنين عليه السلام طريقة تعامل معاوية بن ابي سفيان مع اهل الشام بقوله {الا وان معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر ــ اي ابهمه عليهم وجعله مظلما ــ حتى جعلوا نحورهم اغراض المنية} ولكن، لماذا يفعل المسؤول ذلك في بلد ينشد بناء النظام الديمقراطي، كالعراق اليوم؟.
اعتقد ان السبب يعود الى امرين مهمين:
الاول: هو ان المسؤول عندنا لم يتعود على الصراحة، ولم يتعلم كيف يعبر عن مشاكله، ولا يعرف كيف يدافع عن نفسه، لانه وصل الى موقع المسؤولية بعد عمر طويل قضاه ناشطا في صفوف التنظيمات والاحزاب السرية، وان من عمل في صفوف مثل هذه الاحزاب، يعرف ماذا تعني الحياة الحزبية السرية، انها نمط خاص وطريقة خاصة في العمل، تحول العنصر الى كتلة من الاسرار، والى صندوق اسرار مغلق ومنطو على نفسه، يعرف كيف يسمع ولكنه لا يعرف كيف يتحدث، ولذلك فهو عندما يصل الى السلطة من هذه الاجواء، لا يعرف كيف يوطن نفسه على اخلاقياتها التي تختلف جذريا عن اخلاقيات ووسائل العمل السري، فضلا عن انه لا يفكر بالاستعجال في تعلم مهنة السلطة خوفا من ان تضطره الظروف مرة اخرى فيعود ينشط في صفوف العمل السري، طبعا وكل ذلك بسبب الاستبداد والديكتاتورية التي ظلت تحكم العراق عقودا طويلة من الزمن.
الثاني: هو ان المسؤول عندنا يخاف ان يتعامل بشفافية مع المشاكل والاخطاء، لانه يتصور ان الحديث عن الخطا يجرئ الناس على النقد او ان الحديث عن المشاكل يشجعهم على محاسبته، وكل هذا خطا في خطا، وان العكس هو الصحيح تماما، فعندما يتحدث المسؤول عن مشاكل العمل، يمنح الناس الفرصة ليبحثوا له عن مبرر لفشله مثلا، او يدعوهم الى ان يصبروا عليه لحين انجاز المهمة، وهكذا، اما اذا كان يقلب الحقائق فيتحدث عن انجازات غير موجودة، وعن مشاريع في ذهنه فقط وعن امكانيات عظيمة لا اساس لها في ارض الواقع، عندها فسوف لن يغفر له الناس فشله ، لانهم سيلومونه ويحاسبونه بما قال، فماذا عسى الناس ان يقولوا اذا كان المسؤول هو من كذب على نفسه قبل ان يكذب عليه غيره، وقبل ان يكذب على الناس؟ اولم تقل القاعدة (الزموهم بما الزموا به انفسهم)؟.
طبعا، هذا لا يعني ان المطلوب من المسؤول ان يثرثر باسرار الدولة، ابدا، انما المطلوب هو ان يتحدث بصراحة وواقعية عن مسؤولياته، فيما يتعلق بالناس، فاذا كان قادرا على انجاز شئ وعد، واذا لم يكن قادرا على ذلك فلماذا يورط نفسه بوعود يعرف هو قبل غيره انه عاجز عن الالتزام بها؟.
يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، والا يكون في حديثك فضل عن عملك، وان تتقي الله في حديث غيرك}.
تاسيسا على ما تقدم، اعتقد اننا بحاجة ماسة الى ان نغير طريقة تفكيرنا على هذا الصعيد، ولنكن على يقين بان:
اولا: ان الحل ياتي من خلال التاشير على المشكلة وليس بالقفز عليها او ترحيلها.
ثانيا: كما ان التطور والتنمية يمكن تحقيقهما من خلال تشخيص الخلل والخطا وليس من خلال الحديث عن النجاحات، ولذلك ففي البلدان الصناعية يراقب كل منتج، بفتح التاء، بدقة لتشخيص قصوره وتعثره لتطويره، فبعد 200 تجربة فاشلة نجح اديسون في اكتشاف المصباح الضوئي.
ثالثا: ان لا نخاف من الشفافية، ولا نخشى الصراحة، فلا نسم كل نقد بالمؤامرة، وكل خلاف بالفتنة، ونطعن بكل معلومة تتسرب الى الراي العام، ونرتجف منها وترتعد فرائصنا من الحقائق، ونخاف حتى من الكاريكاتير.
ليكن اقرب اصدقائنا هم الصحفيون، واحب الوسائل اليها هي وسائل الاعلام، فلا نخشى القلم ولا نعادي الورقة ولا نتحامل على آلة التسجيل.
رابعا: لماذا تنتج مؤتمراتهم مؤامرات ومشاريع وحلول؟ اما مؤتمراتنا فطبيخ وقهقهات، لماذا؟ لانهم يثبتون على الورق المشاكل والاخطاء والنواقص والاخفاقات، اما نحن فنضع على الطاولة وهم الانجازات والمديح.
اننا تعلمنا ان نمجد العملية التي نجحت والمريض الذي مات.
لذلك، فان اغلب اجتماعاتنا لا تصل الى نتيجة تذكر، لاننا نجامل بعضنا البعض الاخر، فلا نلامس الحقيقة ولا نؤشر على المشكلة، والنتيجة ان الجميع يخرجون من الاجتماع، وكل يفسر النتائج على هواه وليس على حقيقتها، فيظن الجميع ويتوهمون بانهم حققوا نقاطا على خصومهم، او انجزوا شيئا ما.
كما ان بيانات اجتماعاتنا باهتة ومكررة وهي نسخ طبق الاصل لبيانات مشابهة لاجتماعات مماثلة سابقة.
اننا ننشغل بالمجاملة عندما نتحدث الى بعضنا، اكثر من انشغالنا بالقضايا المهمة التي نجتمع من اجلها، فترانا نسترسل اكثر الوقت، بالثناء والمديح لبعضنا البعض الاخر، ثم نعرج على الموضوع الاساس في الدقائق الخمس الاخيرة، وعندما نهم بالدخول في الموضوع، بعد ان يحمى الجدال، اذا بالوقت قد انتهى، بعد ان يكون (الوقت الذي هو كالسيف) قد قطعنا، قبل ان نقطع به امرا.
ان طريقتنا في الحوار تعلمنا الكذب والنفاق، لاننا نجامل في الاحتماعات، ونتكاشف في الطرقات، ولذلك، فاننا لا ننتج شيئا في اجتماعاتنا، اما في الطرقات فننتج الشائعات والدعايات والكلام الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.
لقد تحدث القران الكريم عن هذه الطريقة في اكثر من آية كريمة، كما في قوله تعالى {ومنهم من يستمع اليك حتى اذا خرجوا من عندك قالوا للذين اوتوا العلم ماذا قال آنفا اولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا اهواءهم} او كما في قوله تعالى {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم الينا ولا ياتون الباس الا قليلا، اشحة عليكم فاذا جاء الخوف رايتهم ينظرون اليك تدور اعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فاذا ذهب الخوف سلقوكم بالسنة حداد اشحة على الخير اولئك لم يؤمنوا فاحبط الله اعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا}.
لقد لخص احد العراقيين هذه الحالة في حديث سري مع مسؤول بريطاني، عندما ارادت بريطانيا ابان احتلالها للعراق عام 1917، ان تتعرف على راي العراقيين من خططها ازاء البلاد، وما اذا كانوا يريدون اقامة دولة عربية يحكمها امير عربي او انتدابا بريطانيا او اندماجا كاملا مع بقية مستعمراتها، وذلك في قصة الاستفتاء المعروفة، بقوله (ان سؤالكم لكل فرد على حدة وسريا، عن رايه هو بمنتهى الحكمة، وثقوا انه اذا كان لديكم مجلس كبير فلن تستطيعوا الحصول على راي مخلص من اي كان ابدا، انتم الانجليز لا تفهمون طرقنا، فلو قام رجل كبير في مجلس واقترح شيئا فاننا نشعر ملزمين بالموافقة على كل ما يقول، وذلك مجاملة، وخوفا ايضا، معا، فضلا عن الخجل الذي سيمنع البعض من اعطاء رايه الصريح).
ان الخجل والخوف والمجاملة وعدم الصراحة في الحديث، ان كل ذلك ينتج النفاق في القلب، فعندما لا يتحدث المرء عن رايه بصراحة في اجتماع عقد خصيصا لسماع الاراء المختلفة من اجل التوصل الى قرار سليم، ترى، اين سيدلي به؟ افي الشارع ام في المقهى؟ وماذا ينفع ذلك، الا ان يزيد البلبلة في الشارع ويعقد من القضية، بعد ان تطير الشائعات والدعايات التي لا تجدي نفعا في مثل هذه الحالات ابدا.
يجب ان نتشبث بالاجتماع، كمكان وحيد للحديث بصراحة ووضوح وشفافية، فلا نلف ولا ندور، اذ عندها سيخرج الجميع من الاجتماع وكل واحد يعتقد بانه حقق ما اراده من الاجتماع، وفي الحقيقة، لا احد حقق شيئا، لان الغموض لا يقف على المشكلة، وبالتالي لا يحلها ابدا، بل يعقدها اكثر فاكثر.
ان الصراحة راحة، كما يقول المثل، فاولى بنا ان نتصارح في جلساتنا، من ان نتقاذف في الاعلام.
ان المواطن ليلمس فارقا كبيرا جدا، بل تناقضا واضحا بين ما يدلي به الزعماء بعد كل اجتماع، وبين ما يجري على ارض الواقع بعده، وهذا سببه انهم لا يتحدثون بصراحة، فيظلون يلفون ويدورون حول المشكلة من دون ان يجدوا لها حلا، ولذلك تتفاقم الامور بمرور الوقت، وتتعقد المشاكل بكرور الايام، وهم يظنون انهم يخدعون المواطن بالكلام المعسول وبتبويس اللحى، لان المواطن يعلم، ربما حتى اكثر من الزعماء انفسهم، بان المشاكل القائمة بينهم حقيقية وجدية، لا يمكن حلها بسياسة تبويس اللحى وبالتمجيد والتمجيد المتبادل، وبالمديح الفارغ، فاحسن للزعماء ان يتحدثوا عن مشاكلهم، قبل ان يفتضح امرهم امام الشعب، ان عاجلا ام آجلا، فانهم ان استطاعوا ان يخفوا مشاكلهم مدة، فانهم غير قادرين على اخفائها كل المدة، خاصة في زمن عالم القرية الصغيرة، وشيوع الفضاء، وثورة التكنولوجيا، ففي مثل هذه الاجواء لا يمكن التوسل بسياسات المنع والاخفاء وتكميم الافواه والتبرير غير المقنع، ابدا.
ان المواطن يحترم المسؤول الذي يحترم عقله ووعيه، وان من دلائل احترام المسؤول لعقل المواطن ووعيه، هو ان لا يكذب عليه ولا يسعى لاخفاء الحقيقة عنه، ولنتذكر دائما بان الحقيقة في عالم اليوم لا يمكن اخفاؤها على المواطن مدة طويلة، فهناك الاعلام المتربص، وهناك الزملاء المشاغبين، وهناك رفاق الدرب الذين يحاولون الصعود على حساب رفاقهم الاخرين، وكل هؤلاء على اتم الاستعداد لكشف الحقائق بصورة او باخرى، فتراهم يسارعون الى اماطة اللثام عنها، بمجرد ان يسعى احد القادة الى اخفائها، من خلال نبرة حديثه او تلعثمه في الكلام او بتغير لون وجهه عند الحديث.
فليحترم المسؤول عقل الناس، بحديثه بصراحة وشفافية، وليغلق المسؤول ابواب جهنم عليه التي قد يفتحها رفاقه الاخرون، بالحديث بصوت مرتفع عن حقيقة مشاكله، وبذلك سيحترمه الناس وسيبررون مشاكله اذا بادر هو وتحدث عنها.
يجب ان تكون علاقاتنا مع بعضنا، كعلاقة الطبيب مع مريضه، او المرء مع محاميه، فالطبيب والمحامي لا يستطيعان ان يحددا المشكلة (الصحية والقانونية على التوالي) اذا لم يطلعا على التفاصيل وبكل صدق ووضوح، وكلما اطلعا على التفاصيل الصحيحة والدقيقة، كلما اقتربا الى تحديد المشكلة، وتاليا الى تحديد الحلول.
هكذا يجب ان نكون عندما نجلس لبحث امر ما، وهكذا يجب ان نكون عندما نواجه مشكلة او اردنا ان نجد حلا لمعضلة او نبحث عن طريق للتقدم والتطور والانجاز الصحيح، فالتفاصيل الدقيقة والصحيحة، وعدم التوسل بالتضليل والكذب والخداع والتبرير، ان كل ذلك يساعد على ايجاد الحلول وتلمس خارطة طريق صحيحة.


[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/نيسان/2009 - 23/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م