تفجيرات بغداد

نزار حيدر

عندما يطلق سراح الارهابيين من السجون والمعتقلات، بلا حساب او تدقيق او رقيب.

وعندما يحتمي الارهابيون تحت قبة البرلمان، او تحت اجنحة الكتل الحاكمة، بقاعدة المحاصصة والتوافق.

وعندما يتم تسليم اخطر قادة وزعماء الارهابيين، من تنظيم القاعدة، في العراق الى بلدهم (المملكة العربية السعودية) من دون علم الحكومة العراقية، ومن دون مقابل او حتى تعهد والتزام.

وعندما تتودد القوى السياسية والحكومة العراقية الى القتلة والمجرمين بشكل رخيص، وكانه لم يبق الا ترضيتهم، وباي شكل من الاشكال، لينعم العراق بالديمقراطية والتنمية الحقيقية.

وعندما يرفع بعض (القادة) شعار (عفا الله عما سلف) من دون وعي لحقيقة الامور، كمكسب حزبي وطائفي تافه.

وعندما تتعالى من تحت قبة البرلمان، نداءات تدعو الى الحوار مع (الصداميين) على حد وصف الدستور لهم، على قاعدة (شبيه الشئ منجذب اليه).

وعندما ينشغل الفرقاء السياسيون بالقيل والقال وكثرة السؤال، وبمرتباتهم ومخصصاتهم، وامتيازات التقاعد، والمحاصصات المجة والتوافقات المبتذلة.

وعندما تتراجع الاولويات الوطنية والاهتمامات والمصالح العامة، لتقفز امامها الاهتمامات الحزبية والطائفية والدينية والاثنية والمناطقية.

وعندما تتحول الوزارات الامنية، واحدة على الاقل، الى حزب سياسي، يسعى لكسب تاييد الناخبين بوعود التنسيب والتوظيف.

وعندما يسيس الملف الامني، بكل تفاصيله، فيتحول الى مادة للمزايدات الحزبية والدعاية الانتخابية والتنافس الحكومي غير الشريف.

وعندما يتحدث الجميع بشؤون الملف الامني واسراره، لدرجة ان يتحول العراق الى دولة مكشوفة امنيا، فلم يعد عندها ما يصطلح عليه بالامن القومي.

وعندما يتستر المعنيون، على مصادر تمويل الارهاب، ان بالمال او بالعدة او بالمتطلبات اللوجستية.

وعندما تتحول انهار الدماء وجثث الضحايا ودموع الايتام والارامل، وصرخات ذوي الضحايا، الى مادة للمزايدات بين الفرقاء، وعلى اسس طائفية واثنية وعنصرية ومناطقية وحزبية.

وعندما يعاد الاعتبار للجلادين على حساب الضحايا، من الايتام والارامل وعوائل الشهداء.

وعندما تقتطع الحكومة العراقية، من قوت الضحايا لتقدمه الى الجلادين في اي مكان يقيمون فيه، وعلى حساب جيش العاطلين عن العمل.

وعندما تتقدم اجندات الاخرين على الاجندات الوطنية، فيتحول هم الزعماء من البحث في السبل الكفيلة بتحقيق ما يصبو اليه المواطن العراقي والحالة العامة في داخل العراق، الى البحث عما يرضي هذا الطرف الاقليمي او ذاك الاخر الدولي، لعلنا نحصل منه على لقاء يجمعنا معه، او نظرة عطف او ابتسامة، صفراء حتى.

وعندما....

وعندما....

يكون من المتوقع جدا ان يعاود الارهابيون نشاطهم في العاصمة بغداد تحديدا، ليثبتوا وجودهم مرة اخرى، وليبعثوا برسالة الى العراقيين، والى غيرهم، مفادها ان المبادرة لازالت بيد جماعات العنف والارهاب، وليس بيد الحكومة العراقية، والقوات الامنية.

يكون من الطبيعي جدا ان تنشط الخلايا الارهابية النائمة، مستغلة انشغال اولي الشان بانفسهم، ليشكروا كل من وقف الى جانبهم من دول واجهزة استخبارات وفقاء تكفير، طبعا على طريقتهم الخاصة، والتي توظف الدم كلون بمثابة سر المهنة بينهم.

لقد كشفت تفجيرات بغداد الاخيرة مدى هشاشة الوضع الامني، كما انها بخرت، بسخونتها وحرارتها المرتفعة، حديث الحكومة العراقية عما اسمته ذات مرة بالاحتفاء بالنصر على الارهاب وتنظيم القاعدة الارهابي تحديدا.

والمضحك المبكي في زحمة هذه التفجيرات، ما قراته في بيان (مجلس الرئاسة) الاخير الذي صدر في ختام اجتماع المجلس والذي عقد على اثر التفجيرات الاخيرة، وهو بالمناسبة اسوأ ما قراته لحد الان من بيانات، ان من حيث الصياغة او من حيث المحتوى والمضمون، فلقد حذر البيان من خطورة جر العراق الى اتون حرب اهلية.

صح النوم، يامجلسنا العتيد.

والاسوأ من ذلك، فان البيان حصر خطر عودة مشهد العنف والارهاب، في التهديدات التي قال ان حزبا مشاركا في العملية السياسية يتعرض لها قد تؤدي الى تصفية قادته، وكأن مشهد الدم الذي راح ضحيته العراقيين الابرياء، غير مستهدف لذاته، وانما لغيره، حزب سياسي تحديدا.

ترى، اين كان المجلس الرئاسي الذي يشكل مع الحكومة العراقية، القوة التنفيذية بحسب الدستور، كل هذه السنين التي مضت؟ اين خططه الامنية؟ واين اجراءاته التنفيذية الكفيلة بالامساك في الملف الامني، الذي هو اخطر واهم ملف في العراق الجديد على الاطلاق؟.

هل نفهم بان الارهابيين سبقوه في التخطيط واليوم يسبقوهم في التنفيذ؟.

اين الحديث المعنعن عن جاهزية القوات الامنية لاستلام الملف الامني اذا ما انسحبت القوات متعددة الجنسيات من العراق؟.

اين، اذن، خطط التسليح والتجهيز والرصد؟.

اين جهاز الاستخبارات وخططه؟ اين الوزارات الامنية، التي باتت اليوم يتخبط الناطقون باسمها، كل يغني على ليلاه، من دون ان يطلع احدهم على تصريح زميله، فتاتي التصريحات هي الاخرى، مضحكة مبكية، متناقضة، لها اول وليس لها آخر؟.

اين نتائج الاجتماعات والاجتماعات المشتركة، لعشرات المجالس، والتصريحات التي تعقبها والتي تتحدث في كل مرة عن (قلنا واكدنا وفعلنا وشددنا وطلبنا)؟.

يجب ان تدفع تفجيرات بغداد كل المعنيين، الى ان يفكروا بصوت مرتفع، ويعيدوا النظر في كل شئ.

عليهم ان يتهموا انفسهم قبل ان يتهموا غيرهم.

وان اول ما يجب ان يعيدوا النظر فيه، هو علاقاتهم ببعض، فلقد اثبتت الايام ان الجميع في مركب واحد، اذا خرقه الارهابيون فان الجميع سيغرق، ولا مجال لاحد منهم ان ينجو ابدا.

عليهم ان يعيدوا اللحمة لعلاقاتهم من جديد، فالبلد في خطر، والشعب في خطر، والعملية السياسية في خطر، والمكتسبات في خطر، وان تحدي الارهاب وتهديد الارهابيين، لما يزول عن العراق بعد.

عليهم ان لا ينخدعوا بانجازات هشة تبين، في اول اختبار، انها في مهب الريح.

عليهم ان يعيدوا قراءآتهم للوضع الامني، فيدققوا في وضع الاجهزة الامنية، ومن ينتسب اليها، وخططها وكل شئ يتعلق بها.

انهم مسؤولون جميعا، ولذلك فلا يحاول احدا منهم ان يلقي باللائمة على الاخر.

الامر الثاني الذي يجب ان يعيدوا النظر فيه، هو قضية المصالحة الوطنية التي ترتب عليها اطلاق سراح الارهابيين والقتلة من السجون والمعتقلات، وغض الطرف عن جرائم عدد من السياسيين على قاعدة (العفو) المشار اليها سلفا، واخيرا ما ترتب عليها من اطلاق جدلية الحوار مع (حزب البعث) والتي انتهت الى دعوة احدهم للحوار مع (الدوري).

لابد من اعادة النظر بكل هذه التفاصيل، والا فان امامنا اياما سوداء حالكة.

ان المتطبع على القتل والاجرام لا يمكن ان يتبدل جوهره ابدا، فلقد اجاب ابن ملجم عندما ساله امير المؤمنين عليه السلام عن سبب ضربته له بالسيف في محراب الكوفة، وما اذا لم يكن بالنسبة له خير امام، اجاب {افانت تنقذ من في النار}.

لقد جاءت تفجيرات بغداد كناقوس خطر وجرس انذار يوقظ النائمين من سباتهم، وسكارى الانجازات الهشة من نشوتهم.

الامر الثالث الذي يجب ان يعيدوا النظر فيه، هو العلاقة مع دول الجوار، وتحديدا المملكة العربية السعودية، الراعي الاول للارهاب في العراق على وجه التحديد، فهل من باب الصدفة ان تتزامن تفجيرات بغداد مع قرار تعيين الامير نايف (وزير الداخلية) نائبا ثانيا لرئيس الوزراء، وهو المعروف عنه تشدقه بالانتماء الى الوهابية، ودعمه لجماعات العنف والارهاب، ان بالسلاح من مخازن وزارته، او بتحريضه لفقهاء التكفير ووعاظ السلاطين، لاصدار فتاوى القتل والتحريض على العنف والتدمير والذبح، او من خلال تسهيله مرور الارهابيين الى داخل العراق؟.

يجب ان تدفع تفجيرات بغداد، الجميع، للتعامل بجدية اكبر مع مجموعات العنف والارهاب، ومع من يقف خلفهم من مؤسسات اعلامية واموال تنفق على المغرر بهم، ومدارس (دينية) مهمتها غسل ادمغة الصبية باسم الدين، وفقهاء تكفير ووعاظ سلاطين جاهزون تحت الطلب لاصدار فتاوى القتل والتدمير، وامراء ومؤسسات امنية وسياسية في دول الجوار على وجه التحديد، التي تقدم كل انواع الدعم للارهاب في العراق.

ان على الحكومة العراقية ان تفصح اكثر عن كل هذه المصادر لتفضح المتورطين بالارهاب وبدماء العراقيين من دون خوف او وجل، فبعد موت الشعب وقتل الابرياء، واسالة الدماء في الشوارع والازقة، وتعريض كل المكاسب للخطر، لم يبق هناك من داع للتستر على الارهاب ومصادره.

ليس في الدم مجاملة، ولقد قال رسول الله (ص) بذلك {لا تقية في الدماء} فهل نعي معنى ذلك، لنبدا بالتعامل بصورة صحيحة مع هذا الملف الخطير؟ ام نظل نجامل ونداهن ونتقي منهم تقاة على حساب دماءنا وارواحنا ومصيرنا ومستقبلنا ومستقبل اطفالنا؟.

تعاملوا بمسؤولية، ترفعوا عن الحزبية الضيقة، ولتتسع صدوركم للنقد وللراي الاخر، لتعرفوا مواطن الخلل والخطا، ولا تكتفوا بالحديث الى انفسكم، والاصغاء اليها فقط، كمن ينظر الى نفسه في المرآة او يستمع الى حديثه في آلة تسجيل على حد قول احد الظرفاء. 

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/نيسان/2009 - 12/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م