الحُرِّيّةُ في فِكْرِ الإمامِ الشَهِيدِ السَيّدِ مُحَمّد بَاقِرِ الصَدّرِ

محمّد جواد سنبه

إذا كان لكلِّ مرحلة تاريخيّة، رجالها الذين يسيّرون دفّة أحداثها، وفق القيم والمفاهيم التي يعتقدون بصحتها، فإنّ الإمام الشهيد الصدر (قدس سره)، كان بحقّ، رجل مرحلة اكتظّت أحداثها، بتحديات خطيرة واجهت الاسلام والإنسان. لقد تفاقمت هذه الأحداث نتيجة لخلفيّة صراع تاريخي بين الغرب والشرق، كان بها الأوّل فاعلاً، والثاني منفعلاً، الأوّل مؤثراً، والثاني متأثراً، الأوّل قائداً، والثاني منقاداً. فبعد أنّ شاخت الإمبراطوريّة العثمانيّة، وبدَت علائم انهيارها واضحة للعيان، توجّه الغرب وعلى رأسه بريطانيا العظمى، باحتلال ((جبل طارق عام 1704م، ومالطة 1814م، وقبرص سنة 1878م، ومصر سنة 1882م، وعدن سنة 1839م ))(تاريخ العراق السياسي الحديث / السيد عبد الرزاق الحسني(بتصرف)).

لقد انزلت القوات البريطانية قواتها، في (الفاو) جنوب العراق عام  1914، الأمر الذي أدّى بالمرجعيّة الدينيّة بالنجف الأشرف، إعلان حالة الجهاد على المحتلّين، وقاد علماء الدّين جموع المجاهدين،  بالرغم من قلّة المال والعُددّ، مقابل الجيش الإنكليزي المنظّم. وبعد انتهاء حكم العثمانيين في العراق عملياً، باحتلال بغداد في 11 آذار 1917، صُدمت الأمّة بهذا الحدث، وتصدّت المرجعيّة الدينيّة مرّة أخرى، في النجف الأشرف لهذا الحدث، وحشّدت المجاهدين لاخراج القوات المحتلة، وحصلت ثورة الشّعب العراقي، ضدّ الإحتلال الانكليزي في 30 حزيران 1920. ونتيجة للصراع السّياسي، بيّن المعسكرين الغربيين تحت لواء بريطانيا العظمى(آنذاك)، والشيوعي تحت لواء الإتّحاد السوفيتي. اصطبغت تلك الفترة بهذا الصراع السّياسي، الذي أنتج صراعاً فكرياً واقتصادياً وثقافياً. وظهرت اتجاهات آيديولوجيّة، خاض غمارها الشّعب العراقي، والشّعوب العربيّة عامّة. فنمت تيّارات الأفكار القوميّة، التي كانت تبشّر بقوّة القوميّة العربيّة، وما تكتنزه من قدرة ذاتيّة، داخل كيان الأمّة العربيّة، وإذا ما تفجّرت هذه القدرات، وتوفرت لها قيادة ناجحة، فإنّها ستعيد أمجاد العرب التليّدة (حسب رأي روّاد هذا الإتجاه).

ثم أضيف الى تلك التراكمات، تصدير أفكار الثورة البلشفيّة في روسيا، وتنامى الفكر الشيوعي، الذي يُبشّر بتحرير الشّعوب، من قبضة الإستعمار واستغلال الطبقة الرأسماليّة لها. لقد كانت بحقّ فترة الرُبع الأوّل، من القرن العشرين وما بعدها، فترة الصراعات الفكريّة، والسياسيّة والاقتصاديّة والمصلحيّة، بيّن معسكري اليمين واليسار. وكان كلّ معسكر، يفسّر الحريّة (كمفهوم حديث)على ضوء نظريّته التي يسوّقها للرأي العامّ. لقد كانت كلّ التّيارات تأخذ من مفاهيم الحريّة والتحرر، والانعتاق من التخلف والتبعيّة، عناوين مميزة لأهدافها وافكارها، لأن تلك الفترة كانت، فترة ردّ الفعل ضدّ الاستعمار، وذوة الإحساس بالوعي الوطني.    

لقد ولدَ وترعرع فقيد الإسلام، الإمام الشهيّد السيّد محمّد باقر الصدّر (قدّس سرّه)، في هذا الجوالمفّعم، بروح الخصومة الآيديولوجيّة والصّراعات السّياسيّة. وهذه الفترة من الصّراعات، غطّت جميع حياة الإمام الشهيد الصدر (قدس سره). وبما أنّ مفهوم الحريّة، كان (ولا يزال لحدّ الآن)، يحتلّ مساحة كبيرة مِنْ ذهنيّة الإنسان. لذا قدّما الاتّجاهان، الرأسمالي والشيوعي، نظريّتيهما في مفهوم الحريّة. فالرأسماليّة تؤمن بأنّ الحريّة هي فضاء، يتحرّك ضمنه الإنسان، ما لم يصّطدم بحريّة الآخرين، وضوابط القانون، وبضمان هذيّن الشرطيّن، فللإنسان أنْ يعمل ما يشاء، وأنّى يشاء. ونفهم هذا التصوّر الغربي للحريّة، من خلال تعريف الفيّلسوف البريطاني (برتراند راسل)، لمفهوم الحريّة، فيقول:((إنّ الحرية، بشكل عام، يجب أن تعرّف على أنها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات))(موسوعة السياسةج2ص244).

بيّنما المنظور الشيوعيّ للحريّة، يرفض الحريّة المطلقة. ويحدّد حريّة الإنسان في الممارسة مع الذات، ومع الآخر، على ضوء الأسس التي تحدّدها الفلسفة الماركسيّة، التي تؤمن بمبدأ إذابة الفرد في المجتمع. فالمجتمع هوالأساس، (مجتمع البروليتاريا تحديداً /الطبقة العاملة)، على عكس النظريّة الرأسماليّة التي تجعل الفرد هوالأساس). فحركة التطوّر من وجهة النظر الماركسيّة، نشاط جماعيّ، تضبطه سنّة الصّراع (الديالكتيك)، بيّن الحالي والقديم، ليكون الناتج، خطوة تطوريّة إلى الأمام، تفرض نفسها كواقع تطوّريّ جديدة، ثم تبدأ حلقة ديالكتيكيّة أخرى، وهكذا دواليّك يصنع الحدث، ويكون التاريخ.

 يقول الإمام الشهيّد الصدّر(قدّس سرّه)، في توضيح المفهوم الماركسي للحريّة: (وقف المجتمع الاشتراكي موقفاً معاكساً، إذ قضت الاشتراكيّة الماركسيّة فيه على الحرية الشكليّة، بإقامة جهاز دكتاتوري يتولى السلطة المطلقة في البلاد. وزعمت أنها عوضت عن تلك الحريّة الشكليّة بحريّة جوهريّة، أيّ بما تقدمه للمواطنين من ضمانات للعمل والحياة...). (كتاب اقتصادنا).

يحلّل الإمام الشهيّد الصدّر(قدّس سرّه) مفهوم الحريّة حسب المفهوم الغربي لها إلى العناصر التالية:

(( # ـ الحريّة في المجال الشخصي للإنسان، وهي: ما تطّلق عليّه الديمقراطيّة اسم: الحريّة الشخصيّة. (يعبّـرعنها (قـدّس سرّه) ـ الحريّة الشكليّة ـ في كتاب اقتصادنا).

# ـ والآخر: الحريّة في المجال الإجتماعيّ، وهي تشمل الحريّات: الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة.  (يعبّـر عنها (قـدّس سرّه) ـ الحريّة الجوهريّة ـ في كتاب اقتصادنا).

تكملة البحث في الحلقة القادمة إنْ شاء الله تعالى.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 8/نيسان/2009 - 11/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م