الرصاص المصبوب: تحليل لسلوكيات العدوان والعنصرية الاسرائيلية

شبكة النبأ: طرحَ نُقاد ومنظمات حقوقية مختلفة تساؤلات اخلاقية مهمة تتعلق بكيفية قيام قوات الجيش الاسرائيلي بتنفيذ عملية (الرصاص المصبوب) في قطاع غزة، فقد اتُهمت قوات الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب امتد نطاقها بين شن حرب عدوانية لا مبرر لها إلى إلحاق أضرار متعمدة بالممتلكات المدنية. وقد قامت الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي بالرد على هذه الإدعاءات، وتجري حالياً بالفعل تحقيقات في بعض الشكاوى، بما في ذلك سوء سلوك فردي من قبل جنود إسرائيليين.

ومع ذلك، يشير محللو عملية (الرصاص المصبوب)، بأن هذه العملية كانت محدودة النطاق والمدة والشدة، وأن سلوك إسرائيل حصر كمية الأضرار التي لحقت بالسكان المدنيين ككل.

وكتبَ جيفري وايت، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية في العراق وبلاد المشرق العربي، مقالاً حول الاعتداءات الاسرائيلية جاء فيه:

ينبغي ألا يفاجأ أحد من إعادة طرح هذا الموضوع، لأن لا بد لأي عملية واسعة النطاق يقوم بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، أن تعرض حياة المدنيين والممتلكات للخطر. فللأسلحة الحديثة قوة تدميرية كبيرة، حتى عندما تستعمل بدقة. وقد يكون القتال البري مكثف ومميت للجنود والمدنيين على حد سواء، لا سيما في بيئة إنفعالية وغير مؤكدة. فالعمليات العسكرية ليست أحداث خالية الفساد تجري في فراغ؛ واليوم، حيث الحرب غير المتكافئة وغير المنتظمة هي حدث شائع، يزداد عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين القطاعين المدني والعسكري، حيث يؤدي ذلك إلى تعقيد العمليات العسكرية، وزيادة المخاطر التي يتعرض لها المدنيون. وقد ازداد الوضع تعقيداً بقيام خصوم اسرائيل – حركة «حماس» وغيرها- باستخدام السكان المدنيين والممتلكات كتغطية لأعمالهم الهجومية والدفاعية، بما في ذلك تلغيم المباني العامة والوحدات السكنية التي يقطنها المدنيون. ولكن لم يكن هناك بإمكان أي مراقب منطقي تَتَبع حملة الرصاص المصبوب أن يتوقع بأن تكون تلك العملية خالية من أعمال العنف ضد المدنيين في غزة؛ فالعمليات العسكرية تؤدي إلى مقتل مدنيين وإصابتهم بجروح وتدمير ممتلكاتهم وإلحاق الضرر بها.

الجوانب الاستراتيجية والتنفيذية

ورأى الكاتب، بأن التهم الموجهة ضد سلوك إسرائيل أثناء الحرب تُعطي انطباعاً عن حملة غير مقيدة ضد السكان المسالمين. وكان البعض قد أشار إلى أن قوات جيش الدفاع الاسرائيلي قامت بأعمال عنف مفرطة ألحقت اضراراً بالسكان المدنيين في غزة بشكل منتظم ومتعمد. وبعبارة أخرى، فإن جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، [كجيش] منظم وكأفراد على حد سواء، أداروا الحرب ضد مدنيين أبرياء، وضد أولئك الذين يسعون لمساعدتهم. وكما جاء في تقرير الأمم المتحدة، كانت عملية «الرصاص المصبوب» "... هجوم واسع على مناطق مدنية كثيفة السكان حيث لم يكن بإمكان الحقيقة الواقعة إلا أن تعرض السكان المدنيين برمتهم إلى شكل من أشكال حرب غير إنسانية..." (التشديد من الكاتب). ومع ذلك، يرسم تحليل سلوك [القوات الإسرائيلية أثناء] العمليات، صورة مختلفة. فعلى المستوى الاستراتيجي، من الواضح أن [حملة] «الرصاص المصبوب» كانت عملية محدودة الأهداف السياسية والعسكرية -- وفي الواقع، محدودة للغاية، في أعين الكثير من الاسرائيليين الذين ينتقدون حكومة ايهود اولمرت. ولم تهدف العملية إلى الإطاحة بنظام «حماس» في غزة أو إسقاطه (على الرغم من أنه من المؤكد بأنها كانت تقصد إلحاق الضرر به)، وكذلك لم تهدف الى إعادة احتلال قطاع غزة بكامله.

واضاف الكاتب، لقد تركزت العمليات البرية على أهداف محددة؛ ففي حين تم شن العمليات الجوية على نطاق واسع في جميع أنحاء غزة، إلا أنها كانت أشد قوة في شمال القطاع وجنوبه. بالإضافة إلى ذلك، لم تقم قوات جيش الدفاع الاسرائيلي باستعمال سوى جزء بسيط من القوة القتالية الميدانية المتاحة لها. وفي جوهر الأمور، فقد تم نشر فرقة معززة واحدة فقط في عملية «الرصاص المصبوب» شملت: ثلاثة ألوية مظليين/مشاة ولواء مدرع واحد، بالإضافة إلى وحدات مدفعية داعمة ووحدات خاصة مثل الهندسة والاستخبارات. هذا بالكاد يشكل [ما يسمى بـ] "هجوم واسع". وقد تم نشر هذه القوة في شمال غزة؛ ولم يشهد وسط وجنوب قطاع غزة معارك برية مهمة -- إن وجدت. وحتى عندما تم نشر قوات برية، لم تستمر المعارك القتالية. وقد شهدت بعض الوحدات القليل من المعارك المكثفة، كما تجلى في العدد المنخفض من ضحايا القتال الإسرائيليين. ولم تجر أية محاولة للتغلغل بصورة عميقة داخل المناطق الآهلة بالسكان عن طريق استخدام القوات البرية، حتى [في المناطق] المعروفة بوجود مقاتلي «حماس» فيها.

وقد اتخذت قوات جيش الدفاع الاسرائيلي إجراءات فاعلة للحد من الخسائر بين المدنيين، بما في ذلك استخدام واسع النطاق للمنشورات والرسائل الهاتفية لتحذير الفلسطينيين [ومطالبتهم] بمغادرة المنطقة، أو لتجنب الأهداف المحتملة. كما تضمنت التحذيرات المدنية أعمال "الطَرق" – أي إطلاق طلقات نارية لتنبيه سكان المباني من هجوم وشيك - التي قام بها سلاح الجو الإسرائيلي. وفي حين أن فعالية هذه التدابير هي موضع شك بالنظر إلى الوضع العسكري، حاولت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي التخفيف من آثار إجرآتها على [السكان] المدنيين.

المستوى التكتيكي

واستطرد الكاتب، بأن الشكاوى المقدمة ضد قوات الجيش الاسرائيلي قد جاءت من مصادر مختلفة المصداقية. فقد ادعى صحفيي الأمم المتحدة وغيرهم من الشهود بأن قوات الجيش الإسرائيلي استخدمت أسلحة وتكتيكات و"قواعد اشتباك" أسفرت عن قتل وجرح مدنيين، وفي بعض الحالات شكلت هذه الأعمال، "جرائم حرب". وبطبيعة الحال، لا يمكن تحديد وقائع الحالة الموضوعية لأي شكوى معينة إلا من خلال التحقيق لمعرفة ما الذي حدث فعلاً، وبأي سياق، وماذا كانت نوايا المشاركين. وبدون التطرق لأي شكوى فردية على وجه التحديد، هناك حاجة لفهم بعض العناصر الهامة حول طبيعة الأعمال القتالية.

أولاً، فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الجوية، هاجم سلاح الجو الإسرائيلي مجموعة واسعة من الأهداف داخل قطاع غزة، تضمنت زعماء [الحركة]، وبنية تحتية وأنفاق تهريب ومنشآت عسكرية، وطرق، ومواقع إطلاق صواريخ وقذائف هاون. ولم تكن هذه الأهداف مركزة في مناطق عسكرية أو مساحات معينة، ولكنها كانت غالباً بالقرب من، بجوار، وداخل المرافق ذات الأغراض المدنية عادة. هناك خير دليل على اتخاذ حركة «حماس» وغيرها من المنظمات قراراً واعياً بوضع هذه الأهداف في المناطق المدنية. وقد اختارت إسرائيل مهاجمة هذه الأهداف وقبلت [واقع الأمر بأن هناك] خطر حدوث أضرار جانبية. ولكنها انجزت عملياتها بقدر كبير من الدقة. ووفقاً لسلاح الجو الإسرائيلي فإن 80 في المائة من القنابل التي استخدمها سلاح الجو كانت أسلحة دقيقة وأن 99 في المائة من الضربات الجوية أصابت أهدافها. إن الاستخدام الواسع لهذه الأسلحة (من 36 في المائة في حرب لبنان عام 2006، وفقاً لجيش الدفاع الاسرائيلي) جعل الهجمات [الجوية] أكثر فعالية، وربما قلص الخسائر المدنية. ومع ذلك، وقعت بين المدنيين خسائر في الأرواح كما تضررت ممتلكات مدنية.

وغالباً ما كانت الآثار الموضعية وخيمة في المناطق التي وقع فيها القتال الميداني. فأنظمة القتال الميداني الحديثة، وما يرتبط بها من أنظمة مثل طائرات الهليكوبتر الهجومية، هي [أسلحة] مدمرة للغاية. ولم تصدر قوات جيش الدفاع الإسرائيلي "قواعد اشتباكها" في عملية «الرصاص المصبوب»، ولكن يبدو واضحاً بأنه تم وضع أهمية كبيرة لحماية أرواح جنود جيش الدفاع الإسرائيلي. واعترف بذلك قادة الجيش الإسرائيلي الميدانيين منذ بدء العملية، وأدى ذلك بشكل مباشر الى استخدام القوة النارية الثقيلة ضد أهداف [معينة]. وقد أفادت مصادر إسرائيلية أيضاً بأن بعض قادة جيش الدفاع الإسرائيلي من المستوى المنخفض حثوا قواتهم على العمل بقوة وعدم المجازفة في التعامل مع التهديدات المشتبه فيها. فقد اختلطت عناصر من حركة «حماس» ومقاتلين آخرين مع السكان المدنيين، وكان ذلك أولاً كمسألة اختيارية للتغطية والإخفاء، وبعد ذلك كضرورة مدرَكة للفرار من نار جيش الدفاع الإسرائيلي. وقد أفادت [وسائل الإعلام] بأن المقاتلين الفلسطينيين حاربوا من داخل مساكن المدنيين، والمدارس، والمساجد، واستخدموا سيارات الإسعاف لنقل المقاتلين. وتفيد مصادر إسرائيلية بأن «حماس» كان تستخدم مستشفى "الشفاء" كمركز قيادة لكبار قادتها طوال فترة الصراع. وعلاوة على ذلك، كانت «حماس» قد دربت الشباب والنساء للقتال والقيام بعمليات انتحارية، وأعلنت عن هذه القدرة على نطاق واسع. كما ساهمت هذه الإجراءات في المزيد من عدم التيقن فيما يتعلق بمن هو محارب في غزة ومن هو ليس كذلك. وفي بعض الأحيان كانت تلك بيئة مميتة للمدنيين الأبرياء.

وتابع الكاتب، مما لا شك فيه أنه تمت ترجمة الإجراءات الذي اتخذها جيش الدفاع الإسرائيلي لحماية جنوده [كأعمال] تدمير إضافية للممتلكات المدنية أو إلحاق الضرر بها، وهي -- تكتيكات شملت استخدام الجرافات وغيرها من العربات المدرعة من أجل إزالة [أي عقبات تعرقل] تقدم القوات [الإسرائيلية] في المحاور [العسكرية]، واختراق الجدران الداخلية والخارجية للهياكل لتجنب التعرض لإطلاق النار والمراقبة، وفسح االطرق لاستخدامها من قبل أفراد جيش الدفاع الإسرائيلي. ومع ذلك، فقد اتخذت هذه التدابير، كرد على إستعداد «حماس» في ساحة المعركة [والتي تمثلت في زرع] ألغام وعبوات ناسفة كانت ترمي إلى عرقلة التحرك الإسرائيلي وايقاع الخسائر، فضلاً عن قيام فصائل الحركة بنشر تكتيكي لقناصة وأسلحة مضادة للدبابات. وفي الواقع، كانت «حماس» قد قامت بالفعل بإعداد البيئة المدنية لأغراض عسكرية. و[لذلك] رأى قادة جيش الدفاع الإسرائيلي بأن اتباع نهج [تستعمل فيه] منازل المدنيين ومشاتل الخضار ذات البيوت الزجاجية هو مقايضة مقبولة بدلاً من التعرض للكمائن وتحمل الخسائر.

سلوك الحرب مقابل سلوك الجنود

وتابع كاتب المقال مبيناً، يستخدِم بعض النقاد القضايا المتعلقة بمعاملة قوات الجيش الإسرائيلي لأرواح وممتلكات الفلسطينيين لكي يجادلوا بأن جنود الجيش الإسرائيلي [قاموا بارتكاب أعمالهم] بدافع العنصرية أو بوحي إلهام وحماسة دينية ضد الفلسطينيين، وأن هذه القوات قللت من قيمة الحياة الفلسطينية، كما دل ذلك من طبيعة عملية «الرصاص المصبوب»، ومن الأساليب الهجومية والأسلحة التي استخدمتها قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، وكذلك مما يزعم عن "قواعد اشتباكها" الفضفاضة. وتشبه هذه الحجج تأكيدات بعض المؤرخين بأن الولايات المتحدة [كانت هي أيضاً قد] سلكت حرب عنصرية ضد اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية. هذه الحجج معيبة، لأنها تدمج مواضيع مختلفة كـ "سلوك الحرب"، والأهداف، والخطط، والعمليات التي تنفذ [من جهة]، مع "تجربة الحرب" وسلوك أفراد من الجنود [من جهة أخرى]. وفي حالة «الرصاص المصبوب»، من الواضح [أن القيام بالعملية العسكرية] لم يكن يهدف الشعب الفلسطيني. وبعبارة أخرى، لم تُشن عملية «الرصاص المصبوب» بهدف قتل المدنيين وإلحاق الأضرار بممتلكاتهم، على الرغم من مقتل مدنيين فلسطينيين وتدمير ممتلكات كنتيجة من العمليات العسكرية.

ترجع "تجربة الحرب"، إلى ما فعله أفراد من الجنود، وما شاهدوه وسمعوه، وفكروا به. ومن الواضح أن تجربة الأفراد يمكن أن تختلف اختلافاً كبيراً في عملية على مستوى «الرصاص المصبوب». فأحياناً يقوم الجنود بأشياء فظيعة، وهذا ينطبق على كل الجيوش في جميع الأوقات، ولكن هذا لا يبرر [التورط في] سلوك إجرامي وانتهاكات في "قواعد السلوك". وحتى الآن، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الحالات المزعومة التي تنطوي على سوء سلوك انضباطي خطير يتعلق بقتل مدنيين بـ "دم بارد"، [وما زالت] هذه الحالات موضع خلاف. ولم يكن بعض الجنود الإسرائيليين لطيفين بصورة خاصة في تعاملهم مع الممتلكات المدنية، ولكن البعض الآخر مارس المسؤولية تجاهها. وتحتاج قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، من أجل مصلحتها، إلى التحقيق في الإدعاءات الخطيرة بدقة – وحتى أكثر من ذلك إذا كانت تشير إلى [وجود] مشاكل منهجية في وحدات معينة تتعلق بالإنضباط، أو التدريب، أو البيئة.

ويختتم الكاتب بحثه بالقول، يثير النقد الموجه ضد قوات الجيش الإسرائيلي موضوعاً أوسع نطاقاً: إلى أي مستوى وحسب أي معيار يجب أن تحاسب القوات المسلحة التابعة لدول، عندما تكون في نزاع مع أطراف فاعلة من غير الدول تعمل بين مجموعة من السكان المدنيين. فبالتأكيد، ينبغي أن تكون هذه المعايير عالية المستوى، لكنها لا يمكن أن تكون مرتفعة إلى درجة بحيث تمنع الدول من العمل من أجل دفاعاً مشروعاً عن النفس. فحركة «حماس» وغيرها من المنظمات الإرهابية الفلسطينية تعرض السكان الفلسطينيين في غزة للخطر، وبصورة متعمدة في كثير من الأحيان. وقد ردت إسرائيل بعملية محدودة في عناصرها الأساسية. وللتأكد [من ذلك]، كانت لدى إسرائيل أسبابها الخاصة في الحفاظ على عمليتها [العسكرية] على نطاق محدود، ولكن [الهدف] من التأثير الشامل كان الحد من العواقب الوخيمة - كما تبين ذلك في الواقع - على السكان المدنيين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 6/نيسان/2009 - 9/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م