فوائد استقرار المؤسسة البرلمانية

أحمد شهاب

لا يمكن التنازل عن الديمقراطية أو التراجع عن تفعيل أدواتها الدستورية، إن المناداة بتعطيل البرلمان أمر مفزع للغاية على المستوى الشعبي، ومثير للقلق على المستوى السياسي. فعلى الرغم من كل المثالب التي تعتري التجربة السياسية في الكويت، والأخطاء التي تكتنف أداء البرلمانيين، فإنها لا تبرر حالة الاندفاع والحماسة الزائدة في الدعوة إلى الحد من حجم المشاركة المجتمعية، وتضييق الدور الشعبي في إدارة شؤون البلد، أو التفكير السلبي في وأد التجربة على مشجب القلق من أبعاد وتداعيات الأخطاء التي تعتري عمل البرلمان والبرلمانيين.

أتفق مع القائلين إن الممارسة البرلمانية تحتاج إلى تصحيح، وأداء النواب يتطلب غربلة شاملة، بل ولا أنفي حاجة الديمقراطية ذاتها كمفهوم وآليات عمل إلى النقد اللاذع والمتواصل، بما يستحث الأمور للعودة إلى نصابها الصحيح، لكن ذلك لا يتم بأي حال عبر الردة الديمقراطية، ولا من خلال اللجوء إلى لجم المؤسسات الدستورية عن ممارسة صلاحياتها التشريعية، إذ إن العودة عن المسار الديمقراطي يضع حاضر البلاد ومستقبلها في دائرة المخاطر والمصاعب، بينما تعمل الديمقراطية في العادة على تصويب أخطائها بنفسها عبر حقن الحياة السياسية بجرعة مضاعفة من الديمقراطية، وليس بالتراجع عنها.

دعم الديمقراطية المحلية يتطلب بذل الجهد للانتقال الفوري من المظهر إلى المضمون الديمقراطي، إذ يبدو واضحا أن تقطع عمل البرلمان وعدم قدرته على استكمال دوراته النيابية المعتادة أسهم في تسطيح مستوى وأداء نواب مجلس الأمة، الذي انشغل في حلبة الاستعراض السياسي وأضاع بوصلة الإنجاز. كما أدى إلى تسطيح وعي الناخبين وأفقدهم القدرة على تقييم مستوى القائمين بالمهام الرقابية والتشريعية، وهو ما أتاح الفرصة لاستمرار غير الأكفاء في الوصول إلى البرلمان وتضليل الناخبين، على الرغم من سوء أدائهم، وافتقارهم للبرامج الحقيقية لتنمية وترقية البلد.

يحتج أغلب النواب بأن الفرصة لإظهار مهاراتهم التشريعية والرقابية تصطدم بالعمر القصير للبرلمانات السابقة، ويطالبون الناخبين مجددا بإعادة تأهيلهم ليكفوا عمَّا عجزوا عن أدائه في الفترات القصيرة السالفة، ويتعهد بعضهم بعدم خوض غمار الانتخابات مستقبلا إذا ما أتيحت له الفرصة للوصول إلى البرلمان من جديد، على الرغم من أن الفرص المتوالية التي أتيحت لهم ولغيرهم لم تُشر من قريب أو بعيد، بأن لديهم ما يقدمونه فعلا، وأن وصولهم إلى البرلمان لن يكون سوى أداة قوة لتضييق الفرص أمام الآخرين لا أكثر.

إن استمرار واستقرار الدورات البرلمانية من شأنهما أن ينقلا الممارسة البرلمانية من الشكل إلى المضمون، بحيث تتعزز القدرة التقويمية عند الناخب، وتتعمق ثقافته البرلمانية، وينتقل من حيز المشاهدة والمتابعة السلبية، إلى ميدان المشاركة في التقييم واستعراض البدائل والاختيار الأمثل. وأستطيع أن أراهن الآن بأن استقرار البرلمان لدورتين أو ثلاث متتابعة سينتقل بوعي الناخب من مستوى إلى آخر، وسيكفل الخروج بأغلبية نيابية ذات أداء نوعي ومرتفع، وسوف تتساقط في حينها الكثير من الأسماء التي تحوم حول مصالح ومطامح ذاتية، أو تلك التي تفتقر، ولا تزال، لرؤية تنموية واضحة ودقيقة، وتتكشف أمام قواعدها الممتدة.

ومن شأن استقرار الممارسة الديمقراطية، وانضباط العمل السياسي وفق القواعد الوطنية، أن يعيد الاستقرار إلى العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويخرجها من حلبة الصراع والتضارب العنيف الدائم والمفتعل، لا على أساس تقديم لافتات استعراضية وخطابية موغلة في التصعيد، ولا عبر تصيد الأخطاء وتضخيم العثرات، وإغلاق منافذ الحوار، وإنما على أساس تقديم التشريعات الجديدة ومتابعة تنفيذها.

استمعنا مرارا إلى النقاشات التي تجري داخل أروقة القوى والكتل السياسية والتي كانت تنتهي إلى ضرورة إعادة ترشيح الأسماء التقليدية المكررة، لأن فرصهم لتحقيق الفوز خلال فترة الحل القصيرة أكبر وأوسع من غيرهم. وقد أثبتت كل التجارب السابقة أن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وإن كان يعكس المزاج العام في المحافظة على الدستور واحترام مواده، إلا أنه يخدم في النتيجة الأسماء التقليدية، ويغلق الفرص أمام تعرف الساحة على الكفاءات والعناصر الجديدة، فحل البرلمان يعد بمثابة الجائزة للوجوه القديمة والرثة، وضربة قاصمة للوجوه الجديدة والشبابية.

ويقرب لنا ذلك بالضرورة الأسباب التي تقف خلف استمرار اندلاع الأزمات السياسية المحلية، وإصرار النواب على توتير الحياة السياسية في البلد، ودفع الأمور إلى طريق الحل واللاعودة، ويفسر العلة الكامنة خلف الإغلاق المتعمد لقنوات الحوار والتفاهم بين السلطتين، وتسابق النواب، ولاسيما الذين لم يتبق لديهم ما يقدمونه في الميدان السياسي سوى صورتهم التاريخية العتيقة، وأفكارهم النضالية المنقرضة منذ عشرات السنين، للحصول على فضيلة الإسهام في حل المجلس، والخروج بصورة المعارضة الوطنية.

ويكشف الدواعي الحقيقية للاندفاع غير المسبوق من قبل النواب والكتل البرلمانية للدخول على خط التأزيم خلال فترة قصيرة لم تتجاوز بالكاد الأسبوعين، لاستشعار كل طرف بأن إسهامهم في الحل سيفضي أولا إلى تصويرهم كأبطال ورجال مرحلة سياسية أمام قواعدهم الانتخابية، ويغطي ثانيا على فشلهم في إنجاز مشروعات وبرامج حقيقية تنسجم مع مهامهم الموكلة بهم كممثلين عن الناخبين، ويعزز ثالثا فرص عودتهم إلى البرلمان من جديد، بسبب ضيق فترة الترشح أمام الآخرين، وصعوبة تهيئة وإعداد الوجوه الجديدة أنفسهم وإمكاناتهم للمشاركة في سباق الترشح والمنافسة على المقعد الانتخابي، وهو ما يعني عودة الوجوه ذاتها إلى البرلمان، وسيادة العقلية الفارغة ذاتها من عوامل التجديد السياسي.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 5/نيسان/2009 - 8/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م