الاسلام وسياسة العفو عند المقدرة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

- ان الدعوة الى اصلاح المجتمع بالقول وحده لاتجدي نفعاً إذ لابد أن تتجسد هذه الاقوال بأفعال واضحة للعيان يتعلم منها الآخرون فعل الاصلاح وليس قوله فقط

- ان الانسان مهما بلغ من الجهالة والتعصب، يمكنه أن يتعلم من السلوك القويم الذي يسنده قول الاصلاح، فقد إستطاع النبي محمد (ص) أن يشذب النفوس المتعصبة وأن يزرع فيها قيماً تليق بإنسانية الانسان

 

شبكة النبأ: حين أفصح رسولنا الأكرم (ص) عن دعوته جهرا الى الاسلام، كانت العصبية والقبلية الفتاكة هي السائدة في مجتمع مكة، وكان الجهل والتطرف عنصران أساسيان تقوم عليهما منظومة السلوك والتعامل بين الناس، وكان القوي يفرض ما يراه صحيحا على الضعيف، والأمثلة عن هذا القول كثيرة، ومنها ما كانت تتعرض له البنات من وأد وقتل وهنّ على قيد الحياة.

إذن يحتاج مجتمع كهذا الى تصحيح جذري في منظومة السلوك، ومع الاصلاح بوسيلة الكلام لابد أن تكون هناك تجارب سلوكية قائمة على ارض الواقع، بمعنى ان الدعوة الى اصلاح المجتمع بالقول وحده لاتجدي نفعا، إذ لابد أن تتجسد هذه الاقوال بأفعال واضحة للعيان يتعلم منها الآخرون فعل الاصلاح وليس قوله فقط.

وهكذا كان رسول الله محمد بن عبد الله (ص) فهم لايني أن يدعم جميع أقواله الاصلاحية بالاعمال الصالحة، لكي يعرف الجميع ان قول الاصلاح يتطلب الى تطبيق، ومما جاء به الاسلام ما هو مستجد على القيم الجاهلية، سياسة العفو العظيم، وفي هذا المجال جاء في كتاب المرجع  آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي أمدَّ الله تعالى في عمره، الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام):

(ما أعظم عفو رسول الله صلی الله عليه و آله عن الأعداء؟

فقد مثل النبي صلی الله عليه و آله عفو الإسلام خير تمثيل. وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، أو الحنق، وإنما هي نابعة عن روح تعميم العدالة على الجميع، وإليك أمثلة على ذلك).

إن نبينا الأعظم (ص) لم يأت بأقوال مجردة عن العفو كسلوك يليق بالانسان المتحضر، بل أسند أقواله وتعاليمه المستقاة من كتاب الله الحكيم، بالافعال والأمثلة العملية المجسدة على ارض الواقع، ويورد السيد الشيرازي في كتابه (السياسة من واقع الاسلام) أمثلة عملية وشواهد إثبات مجسدة لاتقبل الشك ومنها ما حدث بين النبي (ص) غورث بن الحارث:

(كان النبي صلی الله عليه و آله قد جلس ـ في بعض غزواته ـ في ظل شجرة وحده بعيداً عن أصحابه، بعدما حال السيل بينه صلی الله عليه و آله وبينهم.
فجاءه غورث بن الحارث ووقف على النبي صلی الله عليه و آله مصلتاً سيفه رافعاً يده على النبي صلی الله عليه وآله وصاح به:
من يمنعك مني يا محمد؟
فقال النبي صلی الله عليه و آله: الله.
فسقط السيف من يده، فبدر النبي صلی الله عليه و آله إلى السيف وأخذه ورفعه على غورث قائلاً له:
يا غورث من يمنعك مني الآن؟
فقال: عفوك، وكن خير آخذ.
فتركه النبي صلی الله عليه و آله وعفا عنه.
فجاء إلى قومه وقال لهم: «والله جئتكم من عند خير الناس»(1).
فهل يذكر التاريخ عن العظماء مثل هذه القصة.
عدو في طريق الحرب، مصلتاً سيفه، يريد قتل النبي صلی الله عليه و آله، بشراسة ووقاحة وتسلب قدرته من دون اختياره، فيملك النبي صلی الله عليه و آله السيف.. ثم يعفو عنه؟
إنه عفو الإسلام الذي تجسد في رسول الله صلی الله عليه و آله).

وهكذا نستطيع القول بأن الانسان مهما بلغ من الجهالة والتعصب، يمكنه أن يتعلم من السلوك القويم الذي يسنده قول الاصلاح، فلقد إستطاع النبي محمد (ص) أن يشذب النفوس المتعصبة وأن يزرع فيها قيما تليق بإنسانية الانسان، فقد كان الهم الانساني كبيرا وعميقا في الافكار والتعاليم الاسلامية وقد دأب رسولنا الأعظم (ص) على تربية النفوس وتزكيتها من الكره والاحقاد حتى ضد الأعداء، ونقرأ في هذا المجال واقعة وردت في كتاب السيد المرجع نفسه جاء فيها:

(اشتد أذى المشركين للرسول صلی الله عليه و آله يوم أحد إذ قتل عمه حمزة، ومثّل بجسده الشريف، وقطع كبده وأصابع يديه ورجليه، وجدع أنفه، وصلموا أذنيه وفُعل به ما فعل، وقُتل العشرات من المسلمين..
فتقدم بعض الصحابة إلى النبي صلی الله عليه و آله واقترح عليه أن يدعو على المشركين ليعذبهم الله بعذاب من عنده، كما كان يعذّب الكفّار في الأمم السابقة بدعوة أنبيائهم عليهم..
لكنه النبي صلی الله عليه و آله وسياسة العفو العظيمة، فامتنع من ذلك وقال:
«إني لم أبعث لعاناً، ولكنـي بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»-2-).

نحن نعرف ونقرّ بأن وقائع الحياة الآنية هي اكثر تعقيدا مما كانت عليه في زمن الرسول الأكرم (ص)، غير أن هذا لايمنع أن نطبق أعماله وأقواله (ص) على أرض واقعنا الحالي، فمفهوم القوة في ذلك الوقت هو نفسه في حياتنا المعاصرة ومفهوم العفو والصفح هو نفسه ايضا، بيد ان ما هو مطلوب منا كأمة مسلمة او كمجتمع اسلامي هو أن نستوعب تماما تعاليم وافكار واعمل النبي (ص) الاصلاحية، لاسيما في قضية التعامل بين الاقوياء والضعفاء، فالقوانين الوضعية لاتكفي وحدها قطعا بتحقيق السلامة البشرية، ولعل الرقيب الذاتي المسند بسيرة الرسول الاكرم (ص) هو اقوى وأكثر رصانة من رقابة القانون الوضعي، ولذلك ينبغي أن نتعلم الاقوال الاصلاحية لرسولنا (ص) مع زجها في ارض الواقع العملي لكي لاتبقى محصورة في حيز الذاكرة القولية بل تدخل ميدان الفعل والتطبيق الذي يحقق للانسان حياة الاستقرار والتطور والتعافي المتواصل.

واخيرا ولكي يتذكر الناس قوة العفو العظيم للرسول الأعظم (ص) عن أعدائه وكسبهم الى صف الانسان، نضع بين أيديهم ما أورده المرجع السيد الشيرازي في كتابه (السياسة من واقع الاسلام) عن واقعة دخول المسلمين الى مكة فاتحين منتصرين وما رافقها من حالة عفو لا مثيل لها في التاريخ:

(ومن عظيم عفوه صلی الله عليه و آله معاملته مع أهل مكة.
أهل الشرك والكفر..
أهل الجحود والعصبية..
أهل الفساد والظلم..
أهل القسوة والغلظة..
الذين قتلوا أصحابه، وأنصاره، وأقرباءه في عشرات الحروب.
والذين أخرجوه صلی الله عليه و آله من مسقط رأسه الشريف، وبلد الله، وبلد آبائه، ومحل عبادته نصف قرن.
والذين عذبوا المهاجرين بأنواع التعذيب، وقتلوا العديد منهم.
والذين تآمروا على قتله صلی الله عليه و آله عدّة مرات وكلها باءت بالفشل.
والذين مارسوا مع النبي صلی الله عليه و آله وأنصاره كل أنواع المظالم والفضاضة..
هؤلاء.. جاءهم النبي صلی الله عليه و آله فاتحاً منتصراً عليهم..
أترى ماذا كان يفعل إنسان آخر لو كان في موقع النبي صلی الله عليه و آله؟
إنه بلا شك كان يقيم مجزرة رهيبة..
فالموجودون هم الظالمون بأنفسهم لا أبناؤهم.
أبو سفيان.. وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء.
ولكن في فتح مكّة عندما حمل الراية سعد بن عبادة وجعل يرفل في طرقات مكّة ويهز الراية وينادي:

(اليـوم يـوم المـلـحمــة

اليوم تسبى الحرمة» -3-)

يقصد بذلك: إننا سنكثر من القتل في أهل مكّة حتى تتراكم جثث ولحوم القتلى بعضها على بعض، وإلى جنب بعض، وسنسبي نساء مكّة سبي الكفّار المحاربين.
وكان أهل مكّة يتوقعون مثل هذا الصنيع من مثل هذا الجيش المطرود أفراده من مكّة سنوات طوال، والمعذب من قبل أهل مكّة هؤلاء، والمهدور حرماتهم وأموالهم وكراماتهم من قبل هؤلاء أنفسهم.
ولو كان أهل مكّة هم بمكان الجيش الإسلامي، وكانوا هم المنتصرين على المسلمين لصنعوا بهم أسوء من هذا الصنيع..
وبالفعل كان قد سبق أهل مكّة إلى (الملحمة) (وسبي الحرمة) قصاصاً منهم قبل الجناية، فكيف بأهل مكّة لو كان لهم حق القصاص في ذلك؟
أكيداً كان أهل مكّة سيبيدون المسلمين لو كانوا بمكان المسلمين، وكانت القضية معاكسة..
لكن رسول الله صلی الله عليه و آله رسول الرحمة، رسول العفو، رسول الإنسانية، رسول الإسلام.. أبى ذلك أشد الإباء.
بل بالعكس سجّل نقطة مشرّفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر الصحابي المنادي بالقفول..
وأمر أمير المؤمنين علياً عليه السلام بحمل الراية وأن يدخل مكّة برفق وهدوء وأن ينادي في أهل مكّة بلين ولطف بعكس ذلك النداء.
ونادى علي عليه السلام في طرقات مكّة: ـ وهو يكرر النداء ـ:

(اليوم يوم المرحمة

اليوم تصان الحرمة).

ثم جمع النبي صلی الله عليه و آله أهل مكّة، فنادى فيهم: ما تقولون إني فاعل بكم؟
قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
فقال صلی الله عليه و آله: أقول لكم كما قال أخي يوسف:
(لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ)(4).
ثم قال صلی الله عليه و آله:
«اذهبوا فأنتم الطلقاء».
ثم قال صلی الله عليه و آله:
«أيها الناس: من قال لا إله إلا الله فهو آمن..
ومن دخل الكعبة فهو آمن..
ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن..
ومن ألقى سلاحه فهو آمن..
ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن..
ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن»(5).

ــــــــــــــــــــــــــ

هامش:

(1) مسند أحمد، ج3 ص364، مسند جابر بن عبد الله، راجع بحار الأنوار: ج20 ص175 ب15.

(2) سنن النبي صلی الله عليه و آله للطباطبائي: ص413، وراجع أيضاً: المناقب: ج1 ص192 وفيه دعائه صلی الله عليه و آله بهذا الدعاء الإنساني في معركة أحد، والمناقب: ج1 ص215 وفيه دعائه صلی الله عليه و آله بالدعاء المذكور عند تعرضه لأشد الأذى من قبل جبابرة قريش أبي جهل وأضرابه، وكذا دعائه صلی الله عليه و آله يوم الفتح.

 (3) بحار الأنوار: ج21 ص105 ب26.

(4) سورة يوسف: الآية 92.

(5) راجع بحار الأنوار: ج21 ص104 ب26، ودار أبي سفيان كانت بأعلى مكة

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/آذار/2009 - 2/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م