الماء.. محور التشبيهات في القرآن الكريم وعند الشعراء

الباحث: عبد الكريم العامري

شبكة النبأ: ان التشبيه هو اسلوب من اساليب البيان، قديم قدم التعبير، وذلك لأنه اقرب وسيلة للأيضاح والإبانة، وأحسن وسيلة لتقريب البعيد من المعاني.

وحسبنا دليلاً على كونه اول وأقرب وسيلة للافهام، ان اول مراحل الكتابة كانت تشبيها خالصاً، فقد بدأت الكتابة رسوماً يدل رسم كل منها على المعنى الذي يراد التعبير عنه، فتأتي العبارة وهي جامعة لصور مختلفة الاشكال، وما التصوير الا وسيلة من وسائل التشبيه.

ولعل اقدم من انتبه الى مكانة التشبيه في البيان (ارسطو) الذي يرى ان (المحاكاة): اما ان تكون بالداوية السردية، أو بالتمثيل المسرحي. وما التمثيل بأنواعه إلا نوع من تصور الاحوال وتخيلها، ثم التشبيه بها وعرضها ممثلة بعد ذلك ليتم التأثير وتحصل الافادة. ففائدة التشبيه، بالاضافة الى كونه من اساليب التعبير المهذب يثير الرغبة في النفس الى التطلع على الاساليب الجميلة.

ولم يخفَ على العرب فضل التشبيه وقد أوتوا من القدرة البيانية على انتقاء خير الاساليب للتعبير، والطف الطرق للإبانة فغمروا تعابيرهم بالتشبيه غمراً، وكان لدقة ادراك العين المبصرة والعقل الثاقب، والحس المرهف، والخيال الواسع عندهم.

ويفضل عبد القاهر الجرجاني، في تباين مكانة التشبيه فيقول في كتابه اسرار البلاغة: (انه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر ما بين المشرق والمغرب ويجمع ما بين المشئم والمعرق، وهو يريك في المعاني الممثلة في الاوهام شبها في الاشخاص المماثلة والاشباح القائمة وينطق لك الاخرس، ويعطيك البيان من الاعجم ويريك الحياة في الجهاد، ويريك التئام عين الاخداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين والماء والنار مجتمعين...).

التشبيه في القرآن

كان القرآن الكريم وما يزال مورد الباحثين، يروون بعذبه شعاب البحوث، وقديماً نهلَ الاولون منه، فثبتوا دعائم اللغة وعلومها من نحو وبيان وبلاغة، ومن اخبار وفقه وتشريع، فجاءت دراساتهم اصيلة متينة محكمة، لما احتواه موردهم من مادة صريحة غزيرة لم تعبث بها عابثات الزمن، ولم تكن بحوثهم تحوم حول القرآن فقط، وانما دخلوا في البحث فيه وفي آياته وتدارسوها، فكانت كتب التفسير، وكانت اتجاهات اصحابها ومشاربهم مختلفة، فاختلفت مناهجهم وطرق تناولهم للآيات، وفسر كل منها، وتعمّق في توضيح ما يمت بالصلة لاختصاصه، واتجه كلٌ الى وجهة قصدها، فدقق وفصل في البحث فيها. والذي يعنينا هنا، ما يتصل بالتشبيه في القرآن فقط فيما يتعلق بالماء.

لقد اشار (الجاحظ) الى ان التشبيه القرآني قد عمل على تشبيه ما يتصل بالذات الإلهية وبأحوال الملائكة واليوم الآخر، وبما فيه عن الجنة والنار ومشاهدهما، وهي صورة ذهنية، بالاشياء والصور المادية المحسوسة لإبراز المعنى واضحاً وتثبيته في النفوس.

والقرآن الكريم يعرض في تشبيهاته المعقولات عن طريق تشبيهها بما في الحياة من مياه ونبات وحيوان وبحار وجبال، أو ما يدور فيها من معاملات وعلاقات واعمال مدركة مألوفة...

الماء في تشبيهات القرآن الكريم

جريا على ما الف العرب في اساليب بيانهم من اعتماد التشبيه وسيلة لكشف الغامض وتقريب البعيد وايضاح المبهم اعتمد القرآن الكريم التشبيه اكثر من اعتماده المجازات العقلية والكنايات.

وذلك لأن التشبيه حقيقة مجلوة واضحة، عملها عرض الحقيقة ومسايرتها واضافة صراحة الى صراحتها وجمالاً الى جمالها.

ولما كان التبليغ والتبين الغرض الاول من هدى القرآن الكريم وجدنا التشبيهات فيه بكثرة، وذلك لإعانتها في الابانة والايضاح في عرض الصور المراد عرضها، وكان اكثر الصورة التشبيهية مطبوعة بطابع البيئة العربية وذلك لأن الرسول العربي الكريم (ص) قد ارسل بلسان قومه قال تعالى: (بلسان عربي مبين) الشعراء / 195.

ولما كان اللسان هو الاداة المعبرة عن كل ما في الحياة كان من البديهي ان ينقل لنا معالم الطبيعة ومظاهر المجتمع، لهذا بدت ظواهر الطبيعة واضحة في تشبيهات القرآن... فشبه بالغيث والسراب والسحاب وبالجنان والزروع والنخيل...

ويعرض القرآن الكريم للماء الذي هو اعز ما في الصحراء.. فالوعد بالجنات (تجري من تحتها الانهار) حيث وردت احدى وخمسين مرة في القرآن الكريم.

و(الماء) ورد في ثلاث وستين آية، والصحراء تفجر فيها العيون تفجيراً (عيناً يشرب فيها عباد الله يفجرونها تفجيراً) الانسان /6.

فتصوير الجنان الوارفة الضلال الغزيرة المياه: ( وظل ممدود، وماء مسكوب) الواقعة / 30 / 31. تقابلها صورة الحجيم بلظاها وانعدام الماء والظل فيها يوضح لنا مكانة الماء في تلك البيئة.

وفي القرآن الكريم آيات بينات تصرح بأهمية الماء، قال تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وان الماء طهور ومبارك حيث قال تعالى: (وهو الذي ارسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، وانزلنا من السماء ماء طهوراً) الفرقان / 48.

الماء في تشبيهات الشعراء

ان افضل انواع الماء واشرفها عند العرب واكثرها بركة واعمها نفعاً هو ماء المطر ولهذا سمي غيثاً، لانه يغيث الارض واهلها من الجدب يقال غاث الله العباد: اذا نزل فيها الغيث ولهذا سمي جوداً، قال النابغة:

ولا زال قبر بين تبني وجاسم       عليه من الوسمي جود ووابل

اما الرغد هو كثرة الغيث، ولعل ما يتوقعونه من الماء والمطر من عطاء هو الذي دفعهم الى تشبيه الكفين بالغمام والكرم بالغيث، يقول زهير: وابيض فياض يداه غمامة       على معتفيه ما تغب نوافله

وعلى سبيل التفاؤل بالخير والبركة سموا الرجال والنساء (ماء السماء) و (ماء الشباب) و(ماء النعمة) و( ماء الحياء)، قال عمر بن ابي ربيعة: وهي مكنونة تحير منها      في  أديم الحذين ماء الشباب

كما ان غرض التشبيه ليس تشبيه الدنيا بالماء فقط وانما سرعة زوالها وفنائها وتركها خاوية ولا نبات ولا اخضرار ولا ازدهار، فمن ذلك وصفهم الشباب ونضارته من نضارة النبات. ولعل اقرب ما قيل في تشبيه الحياة الدنيا بالنبت يرى في غاية زهوه ثم يلتوي فيعود اخضر فيموت.. وهنا قول النابغة الجعدي:

وما البغي إلا على اهله      وما الناس إلا كهذي الشجر

ترى الغض في عنفوان الشباب    يهتز ذا بهجات خضر

زماناً من الدهر ثم التوى         فعاد الى صفرة فانكسر

ولو تأمل متأمل هذه الحياة وقدّرها تقديرها الحسي بكل ما فيها لحار في أمرها ولوجدها شيئاً عظيماً هائلاً يبعث على الدهشة، بينما نرى ان القرآن قد صغّر وحقّر من شأنها فقال تعالى: (اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً) الحديد /20

...........................................................

المصادر

1- القرآن الكريم

2- كتاب/ التشبيهات القرآنية / واجدة الاطرقجي / منشورات وزارة الثقافة والفنون العراقية 1978/ والبيئة العربية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 15/آذار/2009 - 17/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م