رحيلُ الشمسِ

من وحي مأساة وفاة الإمام الغريب علي بن موسى الرضا (ع)-1424هـ

 

 بسم الله الرحمن الرحيم 

فحييْـت في مَــدِّ القٌـــلوبِ قــريباً

قتــــــلوك في جَزْرِ الديــار غَريبا

فَــــذَوَت نضارَتُهُ وجـــفَّ شَحِيبا

سَكَبُوا على نهْرِ ِالحياةِ سُمُومَهُم

أمـــــطرتْها أمَــلاً ومُــــتَّ جَدِيْبا

مَــــــلأت بِكَ الآلامُ أوديَــــةُ وكَم

نَزْفاً عـــــلى خَدِّ الــــبتول سَكِيْبا

ســتظل طوسٌ و الرِضا وجِرَاحُهُ

حدثِينا أيتُها الشمسُ عن الشمسِ الذائبةِ في أفُقِ الغربةِ السحيق، حدثينا أيتها النجومُ عن النجمِ الذابِلِ بين ظُلاماتِ السنين، حدثينا يا طوسُ عن الدارِ التي تحُجُّ إليها وِحْدَانُ العَظَمةِ وزُرافاتُ القُدْسِ والكرامةِ، حدثينا أيتها الدارُ عن أصواتِ النشيجِ التي تدورُ في فَلَكِكِ، حدثينا أيتها الجدرانُ المتصدِّعَةُ عن أنينِ المسمومِ، حدثينا يا أنفاسَ الملائكةِ عن خُفوتِ الأنفاسِ في لهُاَةِ المظلومِ، حدثينا أنتِ يا أُمَّ الحسن... حدثينا عن ذبول شفتي ولَدِكِ الرِضا... حدثينا عن اخضرار جسدِه... حدثينا عن ارتعاش كفَّيهِ... حدثينا عن دموعِ عَينيَه... حدثينا عن رَشْحِ جبينِهِ وشُحوبِ وجنتيهِ.... حدثينا يا أمَّ الحسن عن يتيمِهِ الجالسِ بين يديه. دعي الآهَةَ تَمُرُّ على ضلعِكِ المكسورِ يا أمَّ الحسنِ، دعي الدمعةَ تسيلُ من عينِكِ المُحْمَرَّةَ، دعي جمرَ الألمِ يتفجَّرُ من حَناياكِ لتَروي لنا قصةَ الغُربةِ والغريبِ. وإذا آثَرْتِ أن تَظَلِّيْ هناكَ بعيدةً في عالمِ أحزانِكِ التي لا تنقضي، اسمحي لي أن أقِفَ بين يديكِ وأُرتِّلَ فصولَ مأتَمِ سُلطَانِ النفوس. سأتلوا لكِ تراتيلَ المأساة يا أُمَّ الحسنِ على صَدى تبارِيْحِ الأسى المشتعِلَةِ في صَدْرِ صغيرِهِ الجوادِ النادِبِ المحزونِ.

جلسَ بين يدَي والدِه وهو يَرى ألوانَهُ تتقَلَّبُ كُلَّمَا التطمت موجةٌ من السُمِّ الجاري في شرايِينِهِ بأعضائه المُمتَلِئَةِ ألماً مُمِضَّاً. راحَ يسترجعُ الذكرياتِ وصُوَرُ الآلامِ تَختَلِفُ بينَ عينَيهِ. تتنقل بين المدينةَ وطوسٍ والكوفةَ وكربلاءَ... كان هناك في جوارِ جدِّه المصطفى (ص) عندما استشعرَت روحُهُ أن أباهُ يُحْتَضَر. قام متوجِّهاً إلى طوسٍ... مرَّ على دارِ جدِّه فشَخَصَت أمام عينيه صورةُ حليفِ السجونِ... صورةُ الساجِدِ في ظُلَمِ الطواميرِ... صورَةُ يَدِ الجودِ التي تعُضُّ عليها القيودُ والأصفَادُ... صورةُ بابِ الحوائجِ الذي غُلِّقَت دون ورُودِهِ الأبوابُ والأقفالُ... صورةُ صفوةِ العرشِ وقد طُرِحَ جنازَةً مُثْقَلَةً بالحَدِيدِ على جسرِ بغداد.

حاول أن يتجاوز صُوَرَ الدارِ المؤلمةِ ولكنها لم تفتأ تملأُ عينَيه. تذكَّرَ النارَ تشتَعِلُ فيها وأبوهُ يَدُوسُها برِجْلَيهِ... "اخمِدِي وأنا ابنُ محمدٍ حبيبِ الله". تذكَّر أباهُ يجوبُ الدارَ ويجمع الحِلِيَّ من على نساءِ بني هاشِمَ والدموعُ تتصابَبُ على خَدَّيْهِ... تذكَّرَهُ وهو يُلاحِقُ أُخْتَهُ الصغيرةَ في جَنبَاتِ الدارِ وهي تأْبَى عليه حتى تمزّقت الدارُ ألماً وهو يحتضنها ويمُدُّ يدَه برِفْقٍ إلى قرطِها وعيناها تزدحمانِ بالدَمْعِ والسؤال:لماذا تأخُذُ قِرطَيْ؟. تذكر الموقفَ العصيبَ ينجلي عن بقَايا النارِ وسَلبِ الخمارِ ونهبِ أقراطِ الصغارِ، والراضي بالقدَرِ يبكي بحُرْقَةٍ ويمزِّقُ أحشاءَ الألمِ وهو يتمثَّلُ نارَ خيامِ عمَّاتِه وأقراطِ بناتِهِنَّ في كربلاءَ. وعلى صدى الذكرى يظلُّ يبوحُ بآلامه: "إنّ المُحَرّمَ شهرٌ كان أهلُ الجاهليةِ يُحَرِّمونَ فيه القتالَ، فاستُحلّتْ فيه دماؤُنا، وهُتِكَتْ فيه حُرمَتُنا، وسُبِيَت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضْرِمَتِ فيه النارُ في مضارِبِنا، وانتُهِبَ ما فيها من ثِقْلِنَا ولم تُرْعَ لرسولِ اللهِ (ص) حرمةٌ في أمرِنا. إنّ يومَ الحُسينِ أقْرَحَ جفونَنا، وأسبَلَ دُمُوعَنا، وأذَلَّ عزيزَنا"

كربلاء...كربلاء. كربلاء ظلت حاضرةً لاتغيبُ عن ناظِرَيْ أبي الحسن. تذكَّرَهُ ولَدُهُ وهو يخَاطِبُ أحدَ أصحابِه: "يا ابن شبيب، إن كنت باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين (ع)، فانه ذُبِحَ كما يُذبحَُ الكبش، وقُتِلَ معَهُ من أهْلِ بيتِهِ ثمانيةَ عَشَرَ رَجُلاً مالَهُم في الأرضِ من شبيهٍ". تذكَّرَه وهو يتلوَّى مع بُكائِيَّةِ دُعْبُلَ حتى غُشِيَ عليهِ وهو يسمَعُه يعزي البتولَ "أفاطِمُ لو خِلْتِ الحسينَ مجدَّلا". تذكَّرَهُ وهو يمُرُّ على قبرِ المصطفى مودِّعَاً وهو يُمطِرُ القبرَ الشريفَ بغيثِ عينيهِ السخينِ... تذكَّرَهُ وهو يقومُ من عندِ القبرِ ويمشي خُطُواتٍ قليلةٍ ويعودُ إليهِ وهو يُعيدُ إلى مسمَع القبرِ صدى صوتٍ آخر ينادي: "أنا الحسين فرخك وابن فرختك....".  

وودَّع الجوادُ(ع) المدينةَ على ذكرياتِ وَداع أبيهِ المرِّ لها وتوجَّهَ نحو طوسٍ وروحُه تتمثَّلُ جدَّه العليلَ يتوجه من الكوفةِ إلى كربلاء. وظلَّتْ صُوَرُ المقارنةِ بين طوسٍ والطَفِّ لا تفارقه. وصلَ إلى الدارِ وفتحَ البابَ وتذكَّرَ المطروحَ في العَرَاءِ ولا بابَ يحوطُهُ أو سقفاً يُظِلُّه. دخل على أبيهِ ورآهُ يعالجُ حرارةَ السُمِّ على فراشِهِ فتَذَّكرَ المذبوحَ الذي عانقَ الترابَ بخدِّهِ وصدرِه. جلس بين يدَي والدِه وتذكَّرَ العليلَ واقِفاً على أشلاء القتيلِ الموزَّعةِ في الميدان. ألقى بنفسه على صدره وتذكر صاحبَ الصدرِ المطحونِ. أصغى لنبضِ أبيهِ الذاوي في صدرِه فتذَكَّرَ الصدرَ الخالي من قلبِه. قبَّلَ أباهُ فتذكَّرَ الحائرَ في تقبيِلِ أبيهِ. 

وأخيراً جلَس يستمِعُ إلى صوتِ أبيهِ الخافتِ وظُلاماتُه الحارَّةُ تمرُّ سِرَاعاً أمام قلبِه المجروحِ... تذكَّرَ محاولاتَ الإهانةِ التي لا تنقطع ولا يَحُولُ دون غايَتِها إلا مَدَدُ السماء. غلَّقُوا دونَ جَلالِ هَيبَتِهِ الأستارَ فعصَفَت بها وبِهِم ريحُ الكرامةِ والعظَمَةِ،  أرادوا أن يهزأوا بمَلِكِ القلوبِ فأكَلَتْهُم ملوكُ الغابِ، أرادوا لهُ أن يبْدوا عاجِزاً أمامَ جَدْبِ الأرضِ فتمتم بشفتيه لتتطامى أوديةُ السماءِ من حولِه. أرادوا أن يُظهِرُوهُ طامِعَاً في السُلطانِ فارتَدَّ عَزمُهُمْ خائِباًَ وهو يعتزِلُ سلطانَ الدنانير الزائلِ ويستأثِرُ بسُلطانِ القلوبِ الخالِد. أرادوا يُغيِّبُوه في وِحْدَتِه وغُربَتِه ويعزِلوه عن محبِّيهِ وعُشَّاقِه فأسقَطَ مكرَهُم في أيْدِيْهِم والعُشَّاقُ يتقاطرون عليهِ من كل فجٍ عميقٍ يحرِّكُهم صدى صوتِ جدِّه المصطفى(ص):"ستدفن بَضعةٌ مِنِّي بأرضِ خُراسان ما زارَها مؤمنٌ إلا أوجَبَ الله لهُ الجنةَ وحرَّمَ جسدَهُ على النار" ويدفعُها إلى طوسٍ صوتُ ساكِنِها الشَجِيِّ: "إني سأُقتَلُ مسموماً مظلوماً وأُقْبَرُ إلى جانبِ هارونَ ويجعلُ اللهُ عز وجلَّ تُربَتي مختَلَف شيعتي، فمن زارني في غُربتي وجَبَتْ لهُ زيارتي يومَ القيامة".

 ولما عجِزوا أن يهزِمُوه بكيدِهِم وأعيَتْهُمُ الحيلةُ أن يقهروهُ بجَورِهِم... جرَّعوهُ سُمَّ أحقادِهم الزُعافَ فتهاوى على فِراشِه عَليلاً يبوحُ لولَدِه بآخِرِ وصاياهُ وجبينُه يرشَح عَرَقاً. وفي لحظَة المأسَاةِ أطبَقَ الصمتُ على الدارِ وبقايا صوتِه المختلطِ بالألمِ يناجي يتِيمَهُ الباكيَ بين يديه: "بُنَي وجِّهْنِي للقِبْلَة". ووجَّهَهُ للقبلةِ واحتُضِرَ قبلةُ العشَّاقِ والمحتاجين. مدَّ يدَيه إلى جانبيهِ كأنهما ضفتانِ تموتانِ والنهرُ يجُفُّ في وسَطِهِمَا. وأسْبَلَ رِجْلَيْهِ لتحتضِنَهُما الملائكةُ التي طالما قبَّلَت الترابَ تحتِ وقْعِهِمَا. وأغمَضَ عينيهِ وهما تمتلأن من صورةِ أمِّه البتولِ وأجدادِه المُحْدِقِين به. وانحنى ولدُه يقبِّل جبينَه وشفتاه تختلفانِ بالذكرِ والترتيلِ وتختلفُ عندَهُما تراتيلُ أمِّ الحسنِ الباكيةِ عليهِ. وخفتتَ أنفاسُه... ومعَ النَفَسِ الأخيرِ لضامنِ الجنةِ، مع النَفَسِ الأخير لغريبِ الغرباءِ، مع النَفَسِ الأخيرِ للمظلومِ المسموم. مع النَفَسِ الأخيرِ... فاضت روحُ أبي الحسنِ الرضا... فاضَت إلى بارِئها تشكوا آلامَها لتستقرَ في رُبى الفِردَوسِ تزفُّها صيحاتُ الجوادِ والبتولِ والمحبِّينَ وطوسَ والدُنيا بأسرها:  واإماماه... واإماماه.

 

فَـــــنَما الــصُمودُ عــلى يَـدَيْكَ رَبِيْبا

ظَــــنُّوا بِأَنْ فَــطموا الصُمُودَ مَعِيْنَهُ

بالـــجَـــذْرِ يـَنْـتَـزِعُ الـحـيَاةَ تَـــــرِيْبا

ظَـــــنُّوا التُرابَ سيَحتَوِيْكَ وما دَرَوا

دَرْبَــــــاً –على رغم الطُغاةِ- رحِيْبا

سَـــــتظلُّ إن ضاقَتْ مسَارِيْبُ الردَى

سَـــيَـــقًُومُ عسْـجَدُكَ المَهِيْبُ خَطِيْبا

إن أسْكَــــتُوا وَتَرَ اللُهَـــاةِ وشَجْــوَهُ

 

معتوق المعتوق

 تاروت-القطيف- 17/2/1424هـ

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -  الاثنين 21/4/2003 - 19/ صفر/1424