مظاهر التفكير العالمي.. الأطر والأبعاد

* من محاضرات آية الله السيد رضا الشيرازي

Play Sound

34:04

Start Download

4.184KB

الفكر يمثّل القيادة، وهذه القيادة لا يوجد لها تأثير في الاتجاه العام لحياة الأفراد فقط، وإنما يوجد لها تأثير في كلّ مفردةٍ من مفردات حياتنا نحن البشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين..

الموضوع يتألف من فصلين:

الأول: اختلاف الأفراد والجماعات والأمم في التفكير العالمي.

الثاني: في مظاهر التفكير العالمي.

أما حول الفصل الأول فلا بأس أن نشير بعنوان المقدمة إلى أن منحى التفكير له تأثير كبير في حياة البشر، وذلك لأن الفكر يمثّل القيادة، وهذه القيادة لا يوجد لها تأثير في الاتجاه العام لحياة الأفراد فقط، وإنما يوجد لها تأثير في كلّ مفردةٍ من مفردات حياتنا نحن البشر، يعني الجريان العام خاضعٌ لنمط التفكير، وكلّ مفردة من المفردات، وكلّ جزئي من الجزئيات، أنتم عندما تفتحون أعينكم أول الفجر أو قبله أو بعده إلى أن تغمضوا أعينكم في الليل، هذه الفترة الممتدة كل جزئية من الجزئيات خاضعة لنمط الفكر.

كيف يفكر الفرد ؟ الوالد - رحمه الله - كان يقول: كان هنالك رجلان في كربلاء كلاهما عربيان، وكلاهما من قبيلة بني أسد، أحدهما هو حرملة بن كاهل الأسدي، والآخر حبيب بن مظاهر الأسدي، كلاهما أسديان، كلاهما عربيان.. لكن أحدهما اختار طريق النار والآخر اختار طريق الجنة، أحدهما ظلّ لعنة ويظل لعنة على مدى التاريخ والثاني يظل ملهماً للأجيال على مدى التاريخ أيضاً..

لماذا حرملة كان حرملة؟ ولماذا حبيب كان حبيباً؟ نمط الفكر يختلف؛ أبو ذر وأبو لهب، كلاهما عربيان وكلاهما رأيا النبي (ص)، لكن أبا لهب نزلت سورة من القرآن في ذمّه، لعلّه ولا نعهد في القرآن الكريم سورة كاملة في ذمّ فرد، من بداية السورة إلى نهايتها في ذمّه وذم زوجته (وامرأته حمالة الحطب).. وأبو ذر في المقابل (ما أقّلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)، فأبو ذر قاده تفكيره إلى هذه النهاية والغاية، وأبو لهب قاده تفكيره إلى هذه النهاية، فالفكر له أهمية كبرى في حياة البشر.

هذا البحث له عرضٌ واسع، وهنالك روايات في هذا الميدان ذكر بعضها السيد عبد الله الشبر (رحمه الله) في كتابه (مصابيح الأنوار)، ومن المهم مطالعة هذا الكتاب (في حلّ مشكلات الأخبار).

التفكير العالمي، وهو تفكير الانسان في حدود العالم واهتمامه في إطار العالم، فيكون همّه هم العالم،  هذا النمط من التفكير يؤثر على كل جزئية من جزئيات حركة الإنسان

كلامنا نحن في بُعد من أبعاد هذه الكلية، وهذا البعد هو أن الأفراد يختلفون في شعاع تفكيرهم، وفي مدى تفكيرهم، وفي حدود تفكيرهم، وهذا الاختلاف يؤثر أثراً بيّناً في كلّ خطوة من خطوات الفرد.

النوع الأول: الأفراد الذين لهم تفكير - إذا صح التعبير - شخصاني، فيفكر في ذاته، فتكون ذاته هي المحور، وهي المنطلق وهي الغاية وهي النهاية وهي الإطار وهي الهدف، ويمكن أن يكون أغلب الأفراد من هذا القبيل، باعثهم (الأنا). أحد العلماء كان يقول - وحقيقة هذه الكلمة جديرة بالتأمل -: نحن - البشر - غالباً نفكر ونتألم ونتأذى لوجع سن واحدة من أسناننا أكثر مما نتألم لموت مليون فرد من أفراد البشر جوعاً!! البشر الذين كرّمهم الله، إذا أحدنا أوجعته أحد أسنانه يفكر ويتألم ويفكر ماذا يفعل، ولكن عندما يقال له إن في أثيوبيا خمسة عشر مليون إنسان مهددين بالموت جوعاً. وهذا خبر من الأخبار، يمكن أن لا يفكر هذا الشخص لحظة في هذا الخبر، فالمنطلق هو الأنا، يحب للـ(الأنا) في النتيجة ويبغض للـ(الأنا) بالنتيجة، ويؤلف للـ(الأنا) بالنتيجة.

عندما تبحثون في الجوهر الحقيقي، لماذا يقوم بهذه الأعمال، مع كونها تجارة وليس أكثر، وهذا هو النوع الأول وهم الذين يمثلون أغلب البشر مع الأسف، أو لعلهم يمثلون أغلب البشر.

النوع الثاني: التفكير العائلي، فهنالك أفراد يفكرون في حدود عائلتهم؛ هو وزوجته وأولاده وأحفاده.. هذا النوع الثاني.

النوع الثالث: التفكير العشائري، يفكر في عشيرته.

النوع الرابع: التفكير القومي، يفكر في قومه.

النوع الخامس: التفكير الإقليمي، يفكر في حدود الإقليم، وفي حدود البلد.

وهناك أنواعاً أخرى للتفكير منها التفكير اللوني والتفكير اللغوي...

النوع الأخير: التفكير العالمي، وهو تفكير الانسان في حدود العالم واهتمامه في إطار العالم، فيكون همّه هم العالم،  هذا النمط من التفكير يؤثر على كل جزئية من جزئيات حركة الإنسان، حتى في المسكن وحتى في المدفن وحتى في الزواج وحتى في التجارة.. وهذه ليست قضية تجريدية لا ربط لها بالواقع، بل مرتبطة بالواقع.

أين يسكن الفرد؟ هذا النمط من التفكير مؤثر. فالفرد الذي يفكر في حدود الإقليم يقول هذا هو إقليمي، أنا يجب أن أسكن في هذا الإقليم، أنا ولدت في العراق فيجب أن أبقى في العراق!! هذا هو تفكيره، فيحدد إطاره فكره، أنا ولدت في إيران فيجب أن أعيش في إيران، كأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق إلا هذه الرقعة الجغرافية الضيقة، الله تعالى يقول (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة) الأرض كلها أرض الله، الله تعالى لم يخلق إيران فقط أو العراق فقط أو الخليج فقط أو لبنان فقط، لكن الأفراد الذين لا تفكير عالمي لهم عادةً ، الإقليم هو الذي يحدد فكرهم؛ أنا ولدت في هذا المكان فيجب أن أبقى في هذا المكان -دوماً- مهما كان، وهذا مؤثر. وقد يتخذ الفرد قرارات خاطئة وفق هذا التفكير.

الوالد (رحمه الله) -وأنا لا أذكر تفاصيل القضية-، بعث إلى عالم من العلماء وأنا أعرف الواسطة وقال له: لا تبق في البلد الفلاني هذا خطر عليك، فإذا أردت أن تعمل في ذلك البلد فلن يدعوك تعمل، فإذا أردت أن تعمل انتقل إلى بلد آخر. هذا الواسطة ذهب إلى ذلك العالم في ذلك البلد الآخر ونقل له كلام الوالد، فما كان رأيه؟

كان رأيه أنه يبقى في ذلك البلد، وبالفعل بقي في ذلك البلد إلى أن أخذوه وقتلوه.

وعالم آخر - أتذكره أيضاً - جاء إلى الوالد - رضوان الله عليه - قال له الوالد: لا تعد هذا خطر عليك، قال: لا، أنا ولدت في ذاك البلد فيجب أن أبقى في ذاك البلد مهما كانت الظروف.. هذه النزعة تدعى النزعة الاستصحابية، أي إبقاء ما كان على ما كان، وهكذا عاد ذلك العالم إلى بلده، وبمجرّد أن عاد قبضوا عليه. وهذه القضية حصلت قبل ثلاثين عاماً، وإلى الآن لا يعرف عنه خبر، ولا يعلم أنه حي أو ميت؟! وهذا يعني ان نمط التفكير ليس نوعاً من أنواع التفكير المجرد فقط، بل يؤثر على القرار ويؤثر على المسكن ويؤثر على المدفن، حتى المدفن، أين أدفن؟.

التفكير العالمي له تأثير في نمط التبليغ، كيف نبلغ؟ وأين نبلغ؟ وفي أي بلد نبلغ؟ وهذا كله مؤثر

ذكر أحد الخطباء - وهذا مضمون القضية - أنه كان عند الوالد -قدس سره- فجاءه رجل وقال له: أنا تعبت وأشعر أن وفاتي قريبة، فقال الوالد: اذهب إلى بلاد الغرب. يبدو أنه كان عالماً متقياً فقال له الوالد ذلك، فيقول ذلك الخطيب: قال العالم للوالد: أنا الآن أقترب من نهاية عمري فكيف أذهب إلى بلاد الغرب وأموت هنالك؟! فقال الوالد: إذا مت هنا فموتك لا أثر له، يأخذونك ويدفنونك في مقبرة من المقابر وتضيع!! لكن إذا ذهبت وأنت العالم المتقي إلى بلاد الغرب ومتّ هناك فستدفن ويتحول قبرك إلى محلّ للعبادة هناك.

عالم متقي ميت في بلد من البلاد الغربية، يأتون ويقرأون القرآن عنده ويطلبون حوائجهم من الله تعالى عند قبره، فموته هناك نافع، أما موته في هذا البلد فلا نفع فيه.

الظاهر أنه لم يسمع الكلام ومات، وهكذا يبدو.. يعني هذا النوع من التفكير، إطار التفكير، شعاع التفكير، مدى التفكير.. هذا يؤثر على كل جزئية من جزئيات حياة الفرد، هذا باختصار الموضوع الأول.

الموضوع الثاني يتعلق بمظاهر التفكير العالمي؛ فالتفكير العالمي له مظاهر في الحقل السياسي، وله مظاهر في الحقل الاقتصادي، وله مظاهر - وكلامنا في هذه النقطة الثالثة - في الحقل التبليغي، فنحن غالباً مبلغون حاملون لراية التبليغ؛ التفكير العالمي له تأثير في نمط التبليغ، كيف نبلغ؟ وأين نبلغ؟ وفي أي بلد نبلغ؟ وهذا كله مؤثر.

الله سبحانه وتعالى لم يجعل الدين لبلد معين، لاحظوا أن النبي (ص) نشأ في بيئة ضيقة، ولاحظوا آيات القرآن الكريم تقول أنه كان في بيئة ضيقة، بيئة محدودة، لكن القرآن الكريم لغته لغة عالمية، الله سبحانه وتعالى يقول: (ليكون للعالمين نذيراً) وفي آية ثانية يقول: (ليظهره على الدين كله) ويقول جل وعلا في آية ثالثة: (يا أيها الناس) الخطاب للعموم ويقول جل وعلا في آية رابعة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ويقول تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وليس لقوم دون سواهم، ليس لإيران وليس لكربلاء والنجف والحلة، بل للعالمين. هناك كتاب من المفيد أن تقرأوه (مكاتيب النبي (ص)، فالنبي (ص) كتب مكاتيب إلى مختلف بلاد العالم، فمثلاً النبي (ص) كتب كتاباً وبعث سفيراً إلى ملك الروم، وبعث كتاباً إلى كسرى ملك فارس، وبعث كتاباً إلى عظيم القبط، وبعث كتاباً إلى ملك الحبشة النجاشي المعروف، وبعث كتاباً إلى الحارث بن أبي شمر ملك تخوم الشام، وبعث كتاباً إلى هوذا الحنفي ملك اليمامة، وبعث كتباً إلى رؤساء العرب وشيوخ القبائل والأساقفة والى مختلف الطوائف.. وكانت هذه مؤثرة، طبعاً البعض لم يرتب الأثر ولكن البعض الآخر رتبوا الأثر، فأثرت فيهم هذه الكتب، هناك بعض الأفراد يقولون ما الفائدة إذا كانوا لا يقبلون؟ لماذا؟ بل يقبلون ويؤثر فيهم.

أذكر لكم بعض النماذج باختصار؛ التاريخ يذكر أن أسقف الروم بعدما قرأ كتاب النبي (ص) خرج إلى الكنيسة في حشدٍ وقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب أحمد (ص)، يدعونا إلى الله وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد رسول الله؛ فأثر فيه هذا الكتاب.

كما أن فروة عامل قيصر بعمان عندما جاءه كتاب النبي (ص) قام وأعلن إيمانه، فأخذوه وطلبوا منه أن يتوب فأبى، فقالوا: نقتلك، قال: اقتلوني، فأخذوه وقتلوه.. إذاً أثر ذلك الكتاب.

والملك المنذر بن ساوه قبل دعوة النبي (ص) وأعلن إسلامه، البحرين من بدايات أمرها آمنت برسول الله (ص)، مما يعني أن الدعوة أثرت.

النجاشي أيضاً كتب إلى النبي (ص) كتابه المعروف وأظهر إيمانه، فراجعوا كتاب (مكاتيب النبي (ص))، اقرأوا كتب النبي (ص) بألفاظها وتأثيراتها؛ لذلك في الحقيقة نحن في فكرنا، في اهتماماتنا، في زواجنا، في مسكننا، في مدفننا، يجب أن لا يؤطرنا بلد أو إقليم أو قومية أو لغة..

وهناك نماذج كثيرة في التاريخ، فمثلاً الهند كيف أسلمت؟ بل كيف تشيعت؟ إسلامها كان متقدماً، وكيف أعلنت فيها الشهادة الثالثة؟ كان ذلك بجهود عالمين هما الملا عناية الله الشيرازي، والملا فتح الله الشيرازي. هذان العالمان أثرا في تشيع الهند وفي إعلان الشهادة الثالثة في هذا البلد، ودفعا حياتهما ثمناً لذلك في قضية طويلة، لعلنا نذكرها في وقت آخر. الحاكم الناصبي المتعصب في الهند (إبراهيم شاه) عندما علم بأمرهما أخذهما وقتلهما فوراً، لأنهما كانا معلمين لولده يقال له (علي بن إبراهيم شاه) فهذان - العالمان - غرسا في قلبه بذور التشيع، وعلى يد علي بن إبراهيم شاه رفعت شهادة (أشهد أن علياً ولي الله) في الهند.

العلامة الأميني كان ذاهباً إلى الهند -كما كتب عنه - وبعدما رجع كان انطباعه (يا ليت كانت لي أموال أعطيها لطلاب العلوم الدينية حتى ينتشروا في العالم)، لكن للأسف لم يكن عنده مال.

نعود القضية أخرى، كان هناك رجل في قم -وهذه القضية حصلت قبل خمسمائة عام تقريباً- هذا الرجل يقال له أحمد وولد في قم في منطقة (بايينشهر) ومضى من عمره أعوام في قم، فجأة - لا أعلم لماذا - فكر أن يهاجر إلى الخارج، فسافر إلى تايلاند وبدأ بعملٍ تبليغي حكيم، في أهالي تايلاند. ولعل الحكمة في ذلك أنه إذا بقي في قم لضاع ولم يبق له أثر، فذهب إلى هناك وبدأ بالتبليغ بطريقة ذكية، ولأمانته وحكمته وعقله ودرايته - وزواجه من فتاة تايلاندية أيضاً - تحول في فترة من الفترات إلى رئيس وزراء تايلاند!!، الشيخ أحمد القمي تحوّل إلى رئيس وزراء تايلاند! وهذا حصل قبل حوالي خمسمائة عام.

الإسلام والتشيع الذي نجده منتشراً الآن في تايلاند مدين بجملة منه لهذا الرجل، الشيخ أحمد القمي، وبنى للمسلمين هناك مساجد ومؤسسات ومشاريع، والآن مثلما منقول وأنا رأيت صورة مرقده، له مرقد عظيم في تايلاند. وعليه وعلى مرقده قبة مذهّبة، والناس يأتون إلى قبره بعد مضي حوالي خمسمائة عام على هجرته، ويطلبون من الله تعالى قضاء حوائجهم ببركته، والمنقول أنه حتى بعض غير المسلمين يأتون إلى قبره، لأن المعروف أن هذا الرجل صاحب كرامات.

إذا بقي في قم فالأرجح كان يضيع وينتهي، أنا لا أقول بوجوب عدم بقائه في قم، بل ما أعنيه أن فكره يجب أن يكون فكراً عالمياً، ونحن في أول سورة الحمد التي نقرأها في كل يوم عدة مرات (الحمد لله رب العالمين)؛ أي الربوبية العالمية، الرحمة العالمية، (إلا رحمة للعالمين).

وهنالك قضية أخرى أيضاً نقلها الوالد - رحمه الله - حول الشيخ عبد الله المكي الذي ذهب إلى الفلبين، ومسلمو الفلبين اليوم مدينون لجهوده.. فنحن يجب علينا أن نطبق على أنفسنا هذا المنحى من التفكير، أي أن يكون تفكيرنا - كما أراده الله سبحانه وتعالى - تفكيراً عالمياً..

وفي الحديث الشريف (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين - لا بأمور بلد معين أو عشيرة معينة أو قطر معين - فليس بمسلم).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك، فالإنسان عمره أيام وهذه الأيام تنتهي، فيجب عليه أن يسعى أن يكون له تأثير في مجرى التاريخ. وهذا ممكن بإذن الله.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..


- من محاضرة أسبوعية ألقاها بتاريخ 25 ذي القعدة 1423هـ، في منزل سماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره)-

شبكة النبأ المعلوماتية - الاحد  16/2/2003 -   14/ ذو الحجة/1423