آخر ما سطره المؤرخ والأديب الراحل السيد حسن الأمين

 

في عددها التاسع لشهر تشرين الاول 2002 اوردت مجلة شؤون جنوبية آخر ماكتبه الفقيد الراحل.. هذا نصه:

الحديث المتسع الجوانب المنشور في العدد الأخير من المجلة عن صور حفزني الى تنبيه المؤسسات الثقافية فيها الى نابغين اثنين نُسبا الى صور، احدهما ولد وعاش ومات فيها. والثاني اختارها دار اقامة بعد ان طوّف في الارض وانتهى الى الاقامة فيها حتى وفاته، فكان أن ضمه ترابها.

واذا كان هناك من يعنى اليوم بآثار صور الحجرية، واذا كان من يقيم فيها مهرجانات غنائية، فإننا ندعو مثقفي صور الى العناية بإحياء ذكرى هذين النابغين اللذين هما مفخرة صور وعنوان مجدها الشعري والعلمي.

اول هذين النابغين هو الشاعر الفريد عبد المحسن الصوري الذي كان في عصره شاعر عصره، والذي نرجئ الحديث عنه الى يوم آخر، ونخص اليوم بالحديث العالم الكبير الذي اختص صور مستقرا ومقاما... ثم مدفنا، فكان من حقه على صور ان تعنى بإحياء ذكراه.

هذا العالم هو محمد الكراجكي، ومن المؤسف اننا لا نعرف مكان مولده ولا تاريخ هذا المولد، وانما نعرف انه استقر في صور ومات فيها سنة 449ه.

ومن الامور التي لم تعرف حقيقتها هي لقبه الذي عرف به: الكراجكي، فالى اي شيء ينسب؟ يوجد قرية على باب واسط في العراق اسمها كراجك، ويوجد قرية من قرى حلب اسمها كذلك كراجك، فهل ينسب الى احدى هاتين القريتين؟

الذهبي، في كتابه تاريخ الاسلام يؤكد انه لا ينسب الى واحدة من هاتين القريتين بل الى الكراجك، والكراجك هي الخيم. وكذلك يقول في لسان الميزان: ان نسبته الى عمل الخيم، والقول نفسه يقوله في شذرات الذهب: الكراجكي، يعني الخيمي.

وعندما يجمع هؤلاء المؤرخون على انه ينسب الى عمل الخيم، فإن علينا ان نسلم بذلك. وبهذا يكون هذا الرجل عصاميا من عصاميي العلم، نشأ في أسرة تصنع الخيم، فتفرد عنها وانتسب الى العلم.

لقد كان من هواة طلب العلم، فكان يقصد كبار العلماء ليتلقى العلم عنهم. فممن لقيهم في بغداد ودرس عليهم العالمان الشهيران: الشيخ المفيد والسيد المرتضى. وقصد القاهرة، وكانت في تلك الفترة ايام الفاطميين تعج بالعلماء والمفكرين... ثم قصد حلب وطرابلس وكانتا من عواصم العلم والفكر، وقد راقت له الإقامة في طرابلس فأطال الاقامة فيها، وألف هناك بعض كتبه. ثم انتقل من طرابلس الى صيدا، فلم يلبث فيها طويلا، بل اكثر الرحيل عنها الى صور. وطابت له صور فحط رحاله فيها وعزم على المكوث فيها حتى آخر عمره.

ومن المؤسف ان ليس في الدنيا من المصادر ما نستطيع ان نعرف منه تفاصيل حياته في صور. ولكن ما دمنا نعرف ان شغله الشاغل كان العلم ومعاشرة العلماء، فاننا نستطيع ان ندرك ان صور كانت في ذلك العهد حافلة بالعلماء وطلاب العلم.

واذا كان ما من مدينة ارتبط بها حفظت تاريخ مولده او تاريخ اقامته او تاريخ رحيله، فإن فضل صور انها حفظت تاريخ وفاته، فقد توفي فيها سنة 449ه. وكان قد جاءها سنة 418ه، اي انه اقام فيها واحدة وثلاثين سنة، فهو بذلك صوري عريق.

فهل يلقي هذا العالم الكبير الذي فضّل صور على غيرها من البلاد في الاقامة والموت، والذي ألف معظم كتبه فيها، هل يلقى فيها تكريما لذكراه؟

لقد بلغت مؤلفاته 104، ومن أشهرها كتاب كنز الفوائد. والحديث عن صور حديث ممتع، وليس الكراجكي وحده الذي قصدها وأقام فيها حتى وفاته، فممن قصدوها ابراهيم بن علي العتابي من كبار شيوخ الصوفية. جاءها من بلاد بعيدة، جاءها من بلاد ما وراء النهر وسكنها اربعين سنة، وفيها مات.