فك رموز خارطة المخزون البشري الوراثي... ثورة طبية لمعرفة سر الحياة

 

لم يصدق أحد العالم البريطاني (فرانسيس كريك) عندما أعلن في ليلة 28 شباط 1953 معلناً للحاضرين أنه وضع لتوه قدمه على طريق معرفة (سر الحياة) معلناً تمكنه مع زميله الأمريكي جيمس واطسون من اكتشاف (D.N.A) (الحامض الريبي النووي منقوص الأوكسجين) الذي يتكون منه المخزون الوراثي للإنسان، وبذلك حصل العالمان على جائزة نوبل سنة 1962.

فأياً كان حجم الإنسان أو لون جلده أو عيناه أو شعره، فإن كل هذه المواصفات تحددها كيميائياً منذ البداية هذه الجزئية المكونة من السكر والفوسفات والتي تحمل كل المعلومات المتعلقة بإنتاج الخلايا الأخرى حيث تحتوي كل خلية بشرية على 23 زوجاً من الكروموسومات التي يرثها الجنين من الأب والأم عند إخصاب الحيوان المنوي للبويضة الأنثوية ويحدد كروموسوم (x) والكروموسوم (Y) جنس الجنين حيث أن (x - x للأنثى)، (Y - x للذكر).

ومنذ ذلك التاريخ بدأ سباق علمي طويل على فك شفرة المخزون الوراثي للبشر في ماراثون علمي طويل. مع الإعلان حالياً في أكثر من عاصمة عالمية عن الخريطة شبه الكاملة للجينات الوراثية التي تفتح الباب واسعاً أمام آفاق علمية وطبية وكذلك اقتصادية غير محدودة، وكذلك أمام مناقشات وجدال كبير حول العواقب الأخلاقية والإنسانية لهذا الكشف العلمي الباهر.

ومن المتوقع أن يعلن الكونسورتيوم الدولي (مشروع الجينوم البشري) الذي يضم مراكز أبحاث علمية لحوالي عشرين دولة تحت رعاية الولايات المتحدة هذا الكشف والذي يشكل ثورة علمية كبرى في الأيام القادمة كذلك من المقرر أيضاً أن تعلن هذا الكشف شركة (سيليرا جينوميكس) التي خاضت منذ عامين المنافسة مع الكونسورتيوم الدولي الذي بدأ أبحاثه قبل عشرين عاماً على هذا المشروع لكشف (أسرار الحياة) أو المليارات الثلاثة من الدرجات الزوجية للسلم الحلزوني لشريط (D.N.A) إلا أن الفريقين، الكونسورتيوم الدولي وسيليرا جينوميكس، لم يتمكنا حتى هذه المرحلة من فك الشفرة الجينية بنسبة 100% إذ لا يزال الأمر يتطلب أعواماً عدة للتوصل إلى النتيجة النهائية.

ولحد الآن لم يتحدد بدقة عدد الجينات (المورثات) البشرية التي تقدر بما يتراوح بين 30 ألف و150 ألف.

كما أن هناك مهمة ضخمة هي تحليل المعلومات للتمييز بين الجينات وتحديد الإشارات، وتحديد المسؤولة منها عن نمو وحياة وموت العضو البشري، وتلك التي لا تقوم بأي دور بعد ذلك تأتي اللحظة الأكثر إثارة والأكثر حرجاً أيضاً بالنسبة للباحثين وهي تقرير أوجه استخدام هذه المعرفة. هل تستفيد منها البشرية جمعاء مع استخدامها في القضاء على بعض الأمراض المعروفة أو المميتة؟ أو هل ستكون حكراً على بعض الذين يستخدمونها في تجارب مشبوهة. ويستنتج بعض العلماء أن الآفاق التي يثيرها الجينيوم توازي في أهميتها اكتشاف المضادات الحيوية في وقتها؛ إذ إن عشرات الأمراض ومن بينها مثلاً أمراض باركنسون والزاهايمر والتناذر الاسفنجي وحتى السرطانات والأمراض القلبية سببها تشوهات جينية ويؤمل أن تتيح هذه المعرفة إصلاح هذه التشوهات أو استبدال الجينات المشوهة كلها، إذ يتيح الاكتشاف إنتاج عقارات جديدة وابتكار علاجات فردية لكل حالة على حدة وصولاً إلى تصحيح العيوب الخلقية وبالتالي القضاء على الأمراض الوراثية.

والمعلومات المعلنة في هذه الأيام ليست سوى خطوة أولى أو الكيلومتر الأول في مارثون طبي طويل لن تكتمل قبل قرن من الزمن وهي نتيجة أبحاث مستمرة منذ عشرات السنين كلفت حتى الآن حوالي ثلاثة مليارات دولار وشاركت فيه أساساً الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والصين واليابان، إذ ينبغي انتظار سنوات عدة قبل الوصول إلى تطبيقات عملية لهذا العلم الجديد. وفي ما يلي باختصار لمحة عن التقدم المحتمل الذي قد يحرز خلال ربع القرن المقبل وفق ما يراه (فرانسيس كولينز) رئيس المعهد الوطني للأبحاث حول المخزون الوراثي:

1- (2002م - 2003م): الانتهاء من الجدولة الكاملة بنسبة 100% للمخزون الوراثي البشري ومن وضع خريطة مفصلة به، وعلى الصعيد القانوني، اعتماد تشريع لحماية الأمريكيين من أي شكل من أشكال التمييز الوراثي.

2- (2003م- 2004م): ظهور الاختبارات الأولى للكشف الوراثي عن مخاطر الإصابة بالسرطان والسكري أو جلطات الدماغ، فضلاً عن التجارب السريرية الأولى حول المعالجة بالطريقة الوراثية لمرض سيوله الدم، وأمراض القلب وبعض السرطانات، وستصبح معالجات صغيرة، حيث أن (مايكروبروسيسور) للحامض الريبي (D.N.A) قادر على تحديد التركيبة الجينية لكل فرد.

3- (2015م): يضع الطب علاجات متكيفة مع التركيبة الجينية لكل فرد ويعالج عدد أكبر من الأمراض ومن بينها السرطان.

4- (2025م): سيكون الأطباء قادرين على تصحيح العيوب مما يؤدي إلى القضاء على بعض الأمراض الخلقية.

ومن المتوقع أن تحدث هذه الثورة في علم الجينات ثورة اقتصادية وبالأخص في قطاع الأدوية إذ ستصبح القدرة على إنتاج أدوية أسرع وبكلفة أكبر، ويخشى من أن يسيطر عدد محدود من الشركات على هذا القطاع عبر (شراء) براءات اختراع الجينات، وسيغير وجه قطاع صناعة الأدوية في مرحلة لاحقة، إذ يستبدل الدواء التقليدي الذي يعالج المرض بآخر يمنع ظهور المرض من الأساس.

وبناء على ما تقدم فإن الكشف عن المسودة الأولى لخريطة المخزون الوراثي البشري سوف يشكل رهاناً اقتصادياً كبيراً في المستقبل المنظور ولا سيما في مجال صناعة الأدوية والتكنولوجيا الحيوية وعلى مستوى المجتمع بشكل عام مع خفض محتمل في كلفة العلاج الطبي.

حيث تؤكد (جيليان ووليه) رئيسة جميعة (فارما) الأمريكية لصناعات الأدوية والأبحاث أنه على صعيد حصص السوق، فإن وسائل العلاج التي تم التوصل إليها بواسطة التكنولوجيا الحيوية كانت تشكل 5% من المبيعات في نهاية الثمانينات، وباتت تشكل اليوم بين 6 - 7%.

ويرى في جانب آخر (وليام هزلتاين) رئيس شركة (هيومان جينيوم ساينسيز) الرائدة في هذا المجال، أن الجمهور سيرى وسائل علاج جديدة في غضون ثلاث إلى أربع سنوات، وبعد عشر سنوات سيصبح الشكل المسيطر للعلاجات في السوق. ويشدد (هزلتاين) على أن صناعة الأدوية تستفيد منذ سنوات عدة، من التقدم المحرز في مجال علم الوراثة. وباتت هذه الحركة تأخذ الآن حجماً متزايداً.

في حين يشير (تشارلز كريك) الناطق باسم (بايو) وهي جمعية شركات التكنولوجيا الحيوية الأمريكية قائلاً أنه سيتم التعرف على الموروثات بسرعة أكبر وستطور عندها وسائل العلاج بسرعة أكبر أيضاً، حيث ارتفع عدد العلاجات التي تم تطويرها والمتبعة من التكنولوجيا الحيوية من (81) علاجاً في عام 1988 إلى 369 في عام 2000 وفق أرقام زودت لها جمعية (فارما) وأشار المصدر نفسه أن ثمة 65 علاجاً تقريباً من التكنولوجيا الحيوية متوفر حالياً في الأسواق. في حين تقول ناطقة باسم مجموعة (أميركان هوم برودكتس) الأمريكية لصناعة العقاقير: هذه بالتأكيد إحدى أولويات شركتنا في المستقبل، موضحة أن من أصل ملياري دولار ستخصصها المجموعة هذه السنة للأبحاث والتطوير سيذهب قسم كبير إلى التكنولوجيا الحيوية. وقد تختلف الآراء حول المنافع الاقتصادية التي يمكن أن يتوقعها مستخدمو هذه المنتجات، ويرى الدكتور (ريتشارد بركستروم) الخبير لدى الجمعية الأمريكية لخبراء الصيدلة أنه بفضل انتقائية (التقنية الوراثية) يمكن أن نحدد بشكل أفضل أهداف عملية تطوير دواء ما والقيام بهذه العملية بسرعة أكبر، ويرى مسؤولون آخرون أن التقنيات المتطورة لا تزال مكلفة. وتضيف (جيليان ووليت): أننا نملك أدوات أكثر لكن هذه الأدوات تبقى باهضة الثمن.

ويقول (أثرساندز) رئيس والمدير التنفيذي لشركة (ليكسيكون جينيتكس): إن عملية اكتشاف الجينات والتي ما زال عددها الفعلي مجهولاً ستقود إلى ما يشبه السباق بين الشركات المصنعة للأدوية، إذ سيسعى كل منها إلى استخدام المعلومات التي ستنتج عن ذلك لإنتاج أدوية، سيصبح هناك قطاع جديد له شركاته.

وتكمن الإفادة الاقتصادية الفعلية في العلاجات المنبثقة عن علم الوراثة في مجال آخر، يقول الدكتور (هزلتاين): إذا تمكنا من منع ظهور مرض الزهايمر بدلاً من معالجة ضحاياه سيوفر الكثير على مستوى المجتمع عامة.

أما (جيرمي ريفيكن) رئيس مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية فيقول: ما إن يتم الإعلان عن الخريطة، سيصبح السؤال، من الذي سيملك الجينيوم؟

ستتدافع الشركات بجنون لاكتشاف كل جينة ما زالت غير مكتشفة في الخريطة.. وما لا يعيه الناس هو أنه ما أن يتم تحديد هذه الجينات وعزلها حتى تتم براءة اختراع لكل منها وقد تنبه المستثمرون إلى هذا البعد، وشهدت أسهم شركات التكنولوجيا الحيوية أخيراً تحسناً وتراجعاً لم يسبق لهما مثيل في الأسواق المالية، وهي تقلبات تعكس حجم الآمال والشكوك التي تثيرها إمكانات النمو والتطور في هذا المجال.

وقد شهد مؤشر أسهم التكنولوجيا الحيوية في بورصة (ناسداك) تقدماً معتدلاً حتى مطلع كانون أول. وعلى الأثر شهد ارتفاعاً كبيراً جداً زاد عن 140 دولاراً حتى آذار إثر سلسلة من الإعلانات عن بدء فك رموز أول كروموسوم (صبغة) بشري وتراجع المؤشر منذ ذلك الحين بنسبة 40 دولاراً تقريباً لكنه ينتظر أدنى مؤشر أو سبب مثل إعلان عن تتابع وترتيب المخزون الوراثي للارتفاع مجدداً.

وفي جانب آخر فإن فك رموز المخزون الوراثي والأبحاث الوراثية المتعلقة بها يثير مشاكل أخلاقية لا يزال حلها بعيداً ويثير أيضاً العديد من التساؤلات. ومن بين النقاشات التي تطرحها الأبحاث الوراثية مسألة الحق في الاطلاع على ما توصل إليه التطور في هذا المجال والخلافات حول براءات الاختراع. فقد طلبت شركة (ميرياد - جينيتكس) الأمريكية مثلاً من جامعة بنسلفينيا أن توقف استخدامها لفحوصات مورثتي (B.R.A1) و( B.R.A2) اللتين تشيران إلى الاستعداد للإصابة بسرطان الثدي والمبيض، بعدما تقدمت ببراءة اختراع حول كشف المورثتين.

ويضاف إلى ما سبق مسألة الاستنساخ. فأحد أسوأ كوابيس الأبحاث الوراثية هو أن تستغلها الحكومات لتقرر من سيحق له إنجاب الأطفال، ومن هم الأطفال الذين يتمتعون بالحق في الحياة، فبغض النظر عن حملات تحسين النسل خلال عهد النازية في ألمانيا، عرفت دول عدة مثل الولايات المتحدة مراحل من تاريخها تم خلالها تعقيم من يعانون نقص في قواهم العقلية. ومع التقدم في الأبحاث الوراثية سيصبح بوسع الأهل الراغبين بإنجاب (أطفال حسب الطلب) أن يقرروا إجهاض الجنين الذي لا يملك المخزون الوراثي المناسب.

بالإضافة إلى أن اطلاع شركات التأمين أو أرباب العمل على المعلومات الوراثية يثير مخاوف أخرى تضاف إلى اللائحة السابقة. فهل يمكن أن يأتي يوم يصبح فيه المرء (غير مؤهل وراثياً) لتولي منصب ما؟ بينما نرى أن بعض علماء الوراثة يعتبرون هذه البيانات (الاستعداد للإصابة بمرض ما) يجب أن تظل سرية، ومن بينهم (جيمس واطسون مع فرانسيس كريك) المكتشفون الحقيقيون لشريط الحامض الريبي النووي منقوص الأوكسجين (D.N.A) الذي عرفنا سابقاً أنه يحل الرموز الوراثية لكل فرد.

لكن الدكتور (دانيال كوهين) من جامعة جانسيه في فرنسا أشار إلى أن الجنس عامل تفرقه منذ زمن بعيد، فالنساء يعانين من التمييز عند تقديم طلبات العمل بسب إمكان حملهن لاحقاً، في حين يتعين على الرجال دفع مبالغ أكبر للتأمين الصحي، لأن متوسط أعمارهم أقل.

وأعلن (كوهين) قائلاً أنه من المفترض التوصل إلى توافق دولي من خلال تأسيس هيئة دولية للأخلاقيات، تتبنى قانون للتدخل الأخلاقي لمعاقبة الدول التي لا تحترم المبادئ التي أقرها الجميع.

وأعرب باحثون آخرون على غرار الدكتور (فرانسيس كولينز) رئيس المعهد الوطني للأبحاث خارطة المخزون الوراثي البشري ومنسق أعمال الكونسورسيوم (مشروع الجينوم البشري) عن قلقهم لعدم إدراك الناس الكامل للرهانات الأخلاقية والقانونية المحيطة بالأبحاث الوراثية واستخدام المعلومات الوراثية.