الثروة والقوة في القرن الحادي والعشرين

الكتاب : قيام الدولة الافتراضية.. الثروة والقوة في القرن الحادي والعشرين

المؤلف: ريتشارد روزكرانس

تتبدل أمام أعيننا الأسس التي تقوم عليها قوة الدولة· فنحن الآن في سبيلنا إلى الدخول في عالم أهم مصادر موارده أقلها من حيث كونها منظورة· ففي هذا العالم تقل أهمية المخزون السلعي ورأس المال والعمالة عن أهمية تدفق رؤوس الأموال، وفيه تكافح الدول المتقدمة ليس من أجل الهيمنة السياسية، وإنما من أجل الفوز بنصيب أوفر من الإنتاج العالمي·

وأهم سمات العالم الجديد نمط جديد من الدولة في سبيله للظهور- أو ظهر بالفعل- وهو الدولة الافتراضية· والدولة الافتراضية في القرن الحادي والعشرين أقل شبهاً بالدول العظمى التقليدية، وهي أكثر شبهاً بهونج كونج وسنغافورة· الدولة الافتراضية صغيرة، ولديها قوة عسكرية قليلة، إلى جانب القليل من الموارد الطبيعية، والقليل من الزراعة أو التصنيع، غير أنها تتمتع بقوة كبيرة من حيث قدرتها على استخدام المهارات الإدارية والمالية والإبداعية التي تمكنها من تحقيق السيطرة في أماكن أخرى خارج حدودها· ولكي تنقل الدول الافتراضية الجزء الأكبر من إنتاجها إلى الخارج، وتحول معظم اقتصادها إلى خدمات رفيعة المستوى، فإنها تعيد تشكيل علاقاتها الإنتاجية الدولية· فهي تنشئ عالماً يقوم على سيطرة تدفق الإنتاج والقوة الشرائية· كما أنها تحرر التجارة من الأعمال الآلية الروتينية وتوفر فرص عمل جديدة في الخدمات الفنية أو الإبداعية· ويعتمد هذا العالم الجديد على التعليم ورأس المال البشري، أكثر من اعتماده على الآلات ورأس المال·

وفي هذا العالم تنقسم الدول إلى دول الرأس التي تصمم المنتجات وتدير الخدمات، ودول الجسم التي تصنِّع السلع في شراكة جديدة وإنتاجية مع دول الرأس، أو الدول الافتراضية· وفيه كذلك يقل معنى الغزو العسكري؛ فالجيوش تسيطر على الدولة الحقيقية· والدول الحقيقية لا تمنح المعرفة ولا رأس المال·

ويعرض كتاب قيام الدولة الافتراضية ما ستكون عليه العلاقات الدولية والتجارية في العالم خلال القرن الحادي والعشرين، حيث يحدد باحث العلاقات الدولية ريتشارد روزنكرانس كيفية قيام هذا العالم، ومن هم الخاسرون في هذا المشهد الدولي المقبل· ويؤكد الكتاب على أن العالم يحقق تقدماً مطرداً نحو السلام والأمن الاقتصادي· كما يقول إنه بينما كانت تسود العالم القديم عوامل العمل ورأس المال والمعلومات، فإن الدول ستركز فيما بعد على عوامل أكبر قدراً من حيث فائدتها، وهي تصنيع التكنولوجيا الفائقة والخدمات التي تعتمد اعتماداً كبيراً على القوة العاملة المدربة تدريباً عالياً· وسوف تتخصص الدول الافتراضية في منتجات العقل، التي تشمل البحث والتنمية، وتصميم المنتجات، والتمويل، والتسويق، والنقل، والتأمين، والخدمات القانونية· وعائد مهن الأفكار هذه - كما تشهد على ذلك ناطحات السحاب في هونج كونج - أعلى بكثير من عائدات التصنيع·

ويقوم أمن الدول الافتراضية على فرض أن تظل الطرق التجارية مفتوحة، دون أن يقف في سبيل تدفق عوامل الإنتاج شيء· فهي ستظل متاحة من الناحية التكنولوجية، لأن شبكة الإنترنت توفر وسائل الاتصال الفورية بالفروع في أي جزء من الكرة الأرضية· فالمصنع الذي في البرازيل يمكن أن يكون مطابقاً لذلك الذي في شرق أوروبا وتديره عن بعد الشركات الغربية أو اليابانية·

ويزعم بعض المراقبين وجود صراعات فيما بين الشركات والحكومات، وفيما بين الحكومات والشعوب· ويرفض الديمقراطيون الليبراليون أحياناً فكرة إمكانية أن يعمل الزعماء السياسيون ورجال الأعمال معًا لتحسين النتائج الاقتصادية الدولية· فهم يعتقدون أن على الحكومات أن تسيطر على الأرباح وتنظم ظروف العمل وغيرها من أمور العمل، وتشجع على ضمان توفير فرص العمل بصورة عامة· في الوقت الذي يرون فيه أن الشركات عدو لهذه الاستراتيجية·

ولكن المؤلف يرى خطأ هذه الفكرة· فهو يقول إن هناك تحالفات تقوم بين من يوجهون تدفقات عوامل الإنتاج ومن هم في السلطة· فالنجاح الاقتصادي لأية دولة هو الآن على القدر نفسه من أهمية نجاحها العسكري فيما مضى· وبما أنه لا يمكن للتقدم الاقتصادي الاعتماد على البيع في الداخل وحده، فإن المزيد من النمو الاقتصادي يتطلب اختراق الأسواق الخارجية· وفي هذه الظروف يصبح المسؤولون الحكوميون سفراء اقتصاديين·

كما يحدد روزكرانس ثلاث صفات تقتضيها الاقتصادات الحديثة وهي في سبيلها إلى التحول الافتراضي· فلا بد أولاً من ظهور إنتاج الخدمات مقابل التصنيع والتعدين والزراعة· والصفة الثانية هي أن تصبح الاقتصادات الافتراضية الحديثة أكثر انفتاحاً، مما يسمح بتدفق العوامل بسهولة من مجتمع لآخر· ونتيجة لذلك لا تكون الدولة بحاجة إلى غزو دول غيرها من أجل الوصول إلى مواردها وأسواقها· أما الصفة الثالثة فهي ضرورة الموازنة بين دور السوق ودور الدولة· ولا بد أن يشجع الزعماء السياسيون في الدولة الافتراضية عوامل الإنتاج المحلية على البحث عن مناطق ذات عائد أعلى· وعلى الحكومات كذلك أن تتفاوض مع عوامل الإنتاج الخارجية لإقناعها بالدخول والإنتاج على أرضها·

ولكي يتحقق التحول الافتراضي، يجب على الدولة المحلية حماية عوامل الإنتاج الدولية· ولا بد من وجود حماة لرأس المال الأجنبي، كي يستثمر في الإنتاج المحلي· ولا بد للحكومة المحايدة أن تفرض عقوداً بين التجار المحليين وتحافظ على ارتباطات النظام الاقتصادي· ومن الناحية المثالية، ينبغـي عـلى الدولــة السياســية -دون فساد- الحفاظ على حقوق الفقراء ومعهم الأغنياء، والأجانب وكذلك المواطنون· وفي مثل هذه الدولة لا يمكن لشخص ثري شراء عدم مطالبته بحق عليه- مثل إلغاء إدانته بارتكاب جريمة قتل على سبيل المثال- عن طريق رشوة المسؤولين الحكوميين· وتحصل الحكومة الضرائب من كل المواطنين؛ في ظل لوائح الضرائب المتصاعدة، التي تزيد نسبيًا عند الأغنياء عن الفقراء· وبذلك تحقق الدولة المحلية متطلبات التحول الافتراضي·

وهونج كونج وسنغافورة، وبصورة أقل تايوان، هي الدول الافتراضية الكبرى· وقد كان لهذه الدول، ومعها القليل من الدول الصغيرة- مثل سويسرا وهولندا- دور ريادي فيما يتعلق بالأسلوب الجديد للعلاقات الاقتصادية الدولية التي تركز على الخدمات في الداخل والإنتاج في الخارج· والاستراتيجية الأساسية للدول الثلاث هي استخدام المصانع الصينية لإنتاج السلع التي تريدها· وهي بذلك توفر على نفسها عناء البحث عن القدرات الإنتاجية داخلها، مثل شراء الأراضي وإقامة المباني والمنشآت، وتركيب الآلات والمعدات، واستئجار عمالة جديدة· كما أن هذا يقلل كذلك ازدواجية المنشآت الإنتاجية في أنحاء العالم·

ومن الناحية العملية، أوجدت الاقتصادات الثلاثة استراتيجية جديدة للتفوق الاقتصادي؛ فهي تبحث كيفية تصغير حجم المؤسسات والشركات- باعتبارها استراتيجية قومية- وسبل نقل إنتاجها إلى أماكن أخرى· كما أن ثلاثتها حدَّثت قدراتها البحثية والتنموية كي تصمم منتجات لتصنيعها في الخارج· كما حدثت هذه الدول بنيتها الأساسية من منشآت تعليمية واتصالات وموانئ وطرق وخطوط طيران وبيئات مالية صالحة لتدفق رأس المال· وتبرز خدمات التكنولوجيا الفائقة من حيث قيمتها، مقارنة بالتصنيع في الاقتصادات الثلاثة، وبالأخص في هونج كونج·

وفي الجيلين السابقين، حققت الدول الافتراضية، والدول التي تأثرت تأثرًا شديدًا بالتحول الافتراضي، مكاسب لا مثيل لها· فانطلاقًا من مزايا الإنتاج والتجارة، بدأت هذه الدول في الاستثمار والإنتاج في الخارج بكميات ضخمة· وفي الداخل انتقلت إلى خدمات رفيعة المستوى في مجالات البحوث والتصميم والتمويل والتسويق· كما أصبحت الدول المتلقية لمهاراتها وأموالها- الصين والمكسيك والبرازيل وشرق أوروبا- مواقع إنتاجية كبرى· وعما قريب تصبح دول الجسم النامية هذه دول رأس كذلك· ويعم الاتجاه نحو الخدمات· وتشجع كل الدول الصناعية الكبرى إنتاج الخدمات والابتعاد عن التصنيع· والتغير الذي طرأ على حصة كل منهما في إجمالي الناتج المحلي شديد الوضوح· ففي كثير من الدول المتقدمة زادت حصة الخدمات منذ عام 1960 من أقل من 50 في المئة إلى 70 في المئة من إجمال الناتج المحلي، بينما قلت حصة التصنيع من 35 في المئة إلى 40 في المئة، لتصل إلى 20 في المئة· وفي أميركا، 70 في المئة من إجمالي الناتج المحلي من الخدمات·

وتعد الدول الافتراضية ناجحة إن هي استطاعت إقامة علاقات قوية مع قاعدة الإنتاج الموجودة في مكان آخر· وهو ما يعتبر نوعاً من الاعتماد المتبادل الخاص بالإنتاج الذي يزيد في قوته على الاعتماد المتبادل الخاص بالتجارة· ويعني هذا أن الخدمات غير المنظورة تزداد أهمية مقارنة بالأعمال المنظورة، على المستويين القومي والدولي· ولذلك لا بد أن تزيد الدول التي هي في سبيلها إلى التحول الافتراضي من هذه الخدمات بصورة كبيرة، وأن تظل تقوم بذلك· وسوف تنجح الخدمات غير المنظورة كرسالة قومية فقط في حال خلق المجتمع لرأس المال البشري الذي يحافظ عليها·(الاتحاد الاماراتية)

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا