نعوم تشومسكي: يتحدث عن الإرهاب الأميركي في مواجهة الإرهاب

في حوار له مع مجلة " ريبليون " انتقد الكاتب والمفكر الأميركي نعوم تشومسكي الطريقة الغريبة التي تعاملت بها الولايات المتحدة الأميركية مع الأزمة التي تجتاح العالم وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

فعلى الرغم من أن أميركا بإمكانها الحصول على موافقة مجلس الأمن بشأن أي أمر تريده، إلا أنها لم تقدم على استحصال تلك الموافقة ـ حسب رأي تشومسكي ـ  لأنها تريد أن تترك في أذهان الناس " ان لا احد يعلو عليها "

كما يفعل رجل المافيا عندما يتجاوز الحصول على موافقة السلطات القانونية حين يريد حماية أحد ما، والكلام لتشومسكي.

ولأهمية ما ورد في الحوار ارتأينا أن نضعه في متناول أيدي قارئنا الكريم.

 ـ لماذا شنت الولايات المتحدة حربا بدلا من ان تواصل السير في طريق محكمة العدل الدولية او اتباع قنوات الامم المتحدة او حتى التحقق من العرض الذي قدمته حركة طالبان بتسليم ابن لادن؟ ـ في الوسط القانوني وفي دوائر ثقافية اخرى، لا يزال النقاش دائراً حول ما اذا كانت الاعمال التي قامت بها الولايات المتحدة قد نالت موافقة مجلس الامن من عدمه. ومن وجهة نظري فإن هذا النقاش ما هو الا اهدار للوقت فقط. فالولايات المتحدة كان بإمكانها الحصول على موافقة صريحة من مجلس الامن بشأن أي شيء ترغب فيه، ومن نافل القول ان ذلك لا يعود لسواد عيونها، فروسيا تسعى جاهدة في سبيل ادراجها ضمن «الائتلاف ضد الإرهاب» كي تتمكن من تلقي الدعم الأمريكي لإرهاب الدولة الشنيع الذي تمارسه في الشيشان. اما الصين فلديها القلق نفسه حيال قمعها لـ «انفصاليين» في غرب ذلك البلد. وبريطانيا تذعن بطريقة تلقائية. وفرنسا لديها ميراث استعماري هائل يجعلها تمتنع عن اثارة أي مشكلات، وعلى وجه العموم، ترى الحكومات القمعية والعنيفة في العالم الفرصة مناسبة للحصول على دعم القوة المهيمنة لأعمالها الإرهابية الشنيعة، وبالتالي لم تجد هذه الحكومات أي مانع في الانضمام الى «الحرب ضد الإرهاب».

ـ لكن أمريكا رفضت بشكل واضح الحصول على موافقة مجلس الأمن، كما رفضت بالطريقة ذاتها البحث في الامكانية الحقيقية ربما بتسليم ابن لادن ورفاقه.

ـ من السهل فهم هذه القضية. فعندما يريد رجل المافيا ان يقبض اموالا مقابل الحماية، فإنه لا يطلب اذناً من المحاكم، مع انه يعرف تماماً انه سوف يحصل على هذا الاذن، لكن بقيامه بذلك فهو يشير الى وجود سلطة يتعين عليه الخضوع لها، وهذا مبدأ غير مناسب له. وفي مقابل ذلك، تعرف الولايات المتحدة جيداً ان عليها ان تترك بوضوح في اذهان الجميع ان لا احد يعلو عليها وذلك كي يشعر الناس بالخوف. فهذه هي الطريقة التي تعمل على اساسها الشئون الدولية. بل انه يوجد مفهوم يعرّف ذلك الاسلوب، يجب الحفاظ على «المصداقية». فهذا هو السبب الرسمي الذي قدمه كلينتون وبلير وآخرون عندما قصفت صربيا، والذي استحضر في مناسبات اخرى عديدة. وبينما تنحصر احدى مهام المثقفين في العثور على دوافع ارقى، غالباً ما تكون الأسباب الرسمية اكثر صراحة وواقعية، فالمهم هنا هو ان يظل واضحا للجميع من هو الآمر الناهي في نهاية المطاف.

والقادة الأمريكيون لا يشكّون بالمطلق، لا قولاً ولا فعلاً، في اللجوء احادي الجانب الى القوة العسكرية للدفاع عن مصالحهم، وهذا ما كانت ادارة كلينتون تكرره في غالب الاحيان، وهي لم تخرج بذلك عن الخط الذي اتبعته ادارات سبقتها. ذلك ان هذا الموقف طبيعي جداً في اوساط من يستحوذون على سلطة مفرطة ويقتنعون بأن لهم الحق في استخدامها وهم في حل من أي عقاب.

انتهاك القوانين ـ إذا كانت السياسة الأمريكية تقوم في احد جوانبها على انتهاك القوانين الدولية، ألا يعني ذلك شيوع صيت الولايات المتحدة كمروج للعنف الدولي؟ ـ من وجهة نظري ان انتهاك القوانين الدولية والحفاظة على المصداقية هي امور تفلت من بين ايدينا. ولأسباب مشابهة، اشارت هيئة الاركان العامة لكلينتون في دراستها الرئيسية حول «ردع ما بعد الحرب الباردة»، الى انه «ليس من المستحسن ان نبدوعقلانيين وباردين زيادة عن اللازم.. وان أحد مظاهر الصورة القومية التي نسقطها يجب ان تتمثل في ان الولايات المتحدة تستطيع ان تتفاعل بطريقة لا عقلانية وانتقامية اذا ما هوجمت مصالحها الحيوية»، وانه مفيد لموقفنا الاستراتيجي ان «تبدو بعض العناصر قادرة على فقدان السيطرة». وهذا ما يتطابق تماماً مع أحكام الوثائق الداخلية ويسهل عملية الانجراف باتجاه التاريخ السابق، طبعاً ليس فقط في الولايات المتحدة، لأن هناك الكثير من السوابق. فنحن امام صفات طبيعية جداً للسلطة المفرطة.

ـ إذن هي «حرب ضد الإرهاب» مفيدة جداً للميزانيات العسكرية، كما كانت الحرب الباردة، بدءاً بتوزيع الثروة الداخلية وتبرير القوانين القمعية وعقلنة العنف ضد المنشقين في جميع أنحاء العالم. ترى هل تقوم بالقصف كي تتمكن من الحصول على فوائد أكبر، داخلياً وعالمياً من الحرب ضد الإرهاب؟ ـ هذا ادعاء عقلاني. فلقد شددت صحيفة «وول ستريت جورنال» بشكل دقيق على ان برامج التسلح اصبحت «معفاة» من الاقتطاعات الخاصة بالميزانيات. ولقد خصصت الولايات المتحدة قبل 11 سبتمبر اموالاً للدفاع أكثر من مجموعة ما خصصته خمس عشرة دولة تليها في هذا الميدان، بمعنى ان ذلك يعتبر «اهانة»، ومنذ ذلك الحين وهذا الفارق آخذ بالنمو. كما استغلت الادارة بطريقة فجة خوف وقلق السكان لفرض مجموعة واسعة من الاجراءات يصعب ابتلاعها كان يمكن ان تواجه بمعارضة شعبية قوية في ظل ظروف اخرى، وهي الاجراءات التي تنطلق لإقرار مفاوضات ذات طابع ستاليني، مفاوضات من اجل تحسين التجارة» وهو اسلوب كان يسمى في السابق «الطريق السريع»، ويستند الى اقتراحات المحاكم العسكرية وإجراءات أخرى من أجل تعزيز سلطة الدولة القوية جداً، المعجبة كثيراً بالمحافظين. مع ان كل ذلك لا يثير الدهشة فينا، فجميعنا حذرنا منه بأسلوب واضح جداً بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر بقليل.

لكني أكرر ان هذا الأمر طبيعي. فهؤلاء الناس يحاولون استغلال وتفجير زلزال بأهداف مشابهة. فالأنظمة السلطوية تسعى دائماً لبسط سيطرتها ونفوذها بجميع الوسائل الممكنة. وفي صراع الطبقات أو في مواجهات أخرى بين السلطة المركزية والسكان عموماً، يتابع احد الطرفين محاولة تحقيق اهدافه بدون كلل، مستخدماً جميع ما في متناول يده من اسلحة لسحق معارضيه وحشرهم في زاوية الجمود والاذعان. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ينبغي انتظار شيء مختلف؟ حسناً، إن الحقيقة هي انه داخل الادارة الحالية يوجد فرد غير مألوف زيادة عن اللازم وذلك في أطروحاته الفاشية تقريباً ولديه الآن تأثير كبير. لكن ذلك ليس اكثر من مسألة ارادة. طبعاً لدينا حق العالم كله في ان يعارض تلك المحاولات وحقنا في ان نرفص ان نكون مروعين او ان تكمم افواهنا، كما جرت العادة دوماً. فهناك الكثير من الفرص، حيث يبدو لي ان الرأي العام متسق وطنياً على نحو اقل بكثير مما يمكن للمرء ان يستنبطه من ملاحظاته للنخب التي ـ أكرر بطريقة طبيعية جداً ومع سوابق تاريخية متعددة ـ تريد ترويض «الافعوان» باللجوء الى شرح مطول للمصطلح الذي سيطر به الكسندر هاملتون على الجمهور الخطير دائماً.

عنصر النفط ـ لنتحدث عن النفط، لماذا ترفض ان يكون النفط عنصراً مركزياً في هذه الحرب، مع العلم ان احداً لا يشك بأهميته بالنسبة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ ـ غالباً ما يكون النفط الستارة الخلفية لجميع الخطوات التي تتخذ في ذلك الجزء من العالم حيث تمتلك منطقة الخليج الاحتياطي الأكبر والأسهل بالنسبة الى عملية استخراجه. كما تتمتع آسيا الوسطى أيضاً بأهمية كبرى من ناحية القوة، لكن ليس بالدرجة نفسها. ومع ذلك، فإن تلك العناصر ثابتة، فهي لم تتغير مع 11 سبتمبر. وبالنسبة لنقل النفط والغاز عن طريق افغانستان، لا شك ان هناك مصالح لكنها مسألة ثانوية. ذلك ان سيطرة الولايات المتحدة على المصادر الخام للطاقة أهم بكثير من أي مسألة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار دور العراق المؤجل في هذه اللحظة، لكنه من المؤكد انه سيكون دورا مهما جدا ذات يوم، لان السعودية هي البلد الوحيد الذي يسبق العراق فيما لديه من احتياطيات نفطية معروفة. ولقد تأثرت علاقات الولايات المتحدة مع كل من المملكة العربية السعودية ودول أخرى بسبب الحرب في أفغانستان. وحتى العناصر الأقرب الى الولايات المتحدة مثل قطر، التي استضافت مؤخرا مؤتمر التجارة العالمية، رفضت أن تدعم الحرب التي تشنها الولايات المتحدة، كما يبدو ان الجمهور العريض قد أدار ظهره لها وعاملها بعداء غير مسبوق، وهذا يمكن مشاهدته جيدا في البلدان الأكثر تحررا. لهذه الأسباب، يبدو الاحتمال ضئيلاً بأن يشكل النفط عنصرا ذا أهمية في تعليل هذه القضية.

ـ إذا أخذنا المسألة باتجاه معاكس، لماذا تنهج الولايات المتحدة سياسات بقدر ما تعرض مدخلها على النفط للخطر ـ تضع مصالحها الجيوسياسية في مهب الريح أيضا، كما تجازف بتنامي الخلاف الداخلي في المملكة العربية السعودية؟ ـ هذا السؤال ساحر جدا. فبما اننا لا نملك مدخلا الى الوثائق السرية. فليس بوسعنا سوى وضع النظريات. لكن يبدو ان القوى المسيطرة في الادارة الأمريكية تثق بأن السيطرة المطلقة للعنف سوف تكفي من أجل ابقاء الامور تحت السيطرة. وهذا بالضبط ما يوحي به النمو الهائل للميزانية العسكرية، بخاصة عسكرة برامج الفضاء التي تضع قناع «الدفاع الصاروخي» والتي توصف بصراحة بالغة بأنها موجهة لايجاد قوة عسكرية هجومية لم يسبق لها مثيل ويمكن ان تستخدم من أجل تخويف واخضاع العدد المتنامي من المحرومين الذين تنتجهم عملية العولمة، وكذلك من أجل حماية المصالح التجارية والاستثمارات، وذلك بالطريقة ذاتها التي مارستها الأساطيل الحربية في أوقات سابقة. ولا يوجد أي سر في هذا. أما لماذا لم يظهر على الصفحات الأولى للصحف، كما يجب أن يكون، فذلك يعود الى المؤسسات العقائدية التي لا ترغب بذلك.

الغاء المعونات ـ إذا انتقلنا الآن من الأسباب الى النتائج، فإننا نلاحظ ان بعض التقارير قد أشارت خلال الأسابيع الاخيرة الى ان نحو سبعة ملايين و500 ألف أفغاني يتعرضون لخطر الموت جوعا اذا انقطع تدفق المساعدات الطارئة التي تصل الى بلادهم. هل نحن أمام مبالغات من جانب المنظمات الانسانية؟ أم اننا تجاه ما يمكن ان يتحول الى أكبر انتهاكات لحقوق الانسان في السنوات المئة الاخيرة؟ وما الذي يمكن فعله للحيلولة دون ذلك؟ ـ لقد قطعت فعلا المعونات الأكثر ضرورة أو ألغيت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وذلك في لحظة حاسمة، أي بالضبط قبل بدء الشتاء القارس الذي يمنع بشكل جدي عملية توزيع المساعدات. أما التقارير المتعلقة بظروف اللاجئين الأفغان في الصحافة البريطانية، خصوصا وفي وسائل اعلامية أجنبية أخرى عموما، فهي رهيبة. وبالاضافة الى انه لا يعرف الى أين يصل هذا الأمر، فإننا لا نعرف أيضا إذا ما كانت السابقة التاريخية تنفع بشيء أم لا. لكن من بين الذين يسيطرون على مقاليد السلطة يوجد مبدآن رئيسيان يتعلقان بهذه المسائل، الأول يتمثل في ان الجرائم المتعلقة بالأعداء الرسميين يجب التحقيق بها بدقة بما يتفق مع المبدأ العقلاني جدا القائل انه لا يجب تضمين من قتلوا بشكل فعلي فقط، وانما ايضا العدد الاكبر بكثير من الاشخاص الذين يموتون نتيجة السياسات الاختيارية. والثاني يتمثل بأن تلك التكتيكات المذكورة يجب منعها بشكل شديد الدقة في حالة جرائمنا ومسئولياتنا الخاصة.

إن تطبيق هذين المبدأين موثق بشكل جيد جدا في الحاضر وأحيانا بطريقة مأساوية. ومن أجل الاشارة فقط الى أحد الأمثلة التي لا تحصى، نقول انه لو ان الـ 80000 كوسوفي الذين أبعدوا عن ديارهم بالقوة قد تعفنوا في معسكرات التجميع في صربيا لكنا علمنا بذلك، ولكنا تورطنا في الحرب فعلا. لكن هذه المشكلة ليست موجودة، لكنها تتناول معسكرات تجميع في تيمور الشرقية أو في اندونيسيا، لان المسئولية تصوب في خط مستقيم تجاه واشنطن ولندن. والحقيقة هي ان كوسوفو كانت تغلي بالمحققين القضائيين سعيا وراء طمس أي أثر يدل على جرائم العدو الرسمي. لكن على الرغم من طلبات الأمم المتحدة والمنظمات الانسانية والتيمورية وآخرين، لم يرسل الى تيمور الشرقية أي محقق قضائي، وذلك بالرغم من ان الجرائم المرتكبة هناك في الوقت نفسه كانت أخطر بكثير طبقا لأي مقاربة عقلانية أو أخلاقية. إن سهولة اضافة أمثلة أخرى عديدة مخيبة للآمال.

كما يجب ألا ننسى، قطعا، أن الاشخاص لا يموتون جوعا أو بردا بلحظة. فالمسألة ليست كما لو انهم يعيدون الرأس الى الجسد بعد ان تم بتره. ذلك ان هؤلاء الأشخاص يمكنهم البقاء على قيد الحياة خلال وقت طويل وهم يأكلون الأعشاب والجذور. ومع ان أبناءهم يمكنهم الموت من الامراض، لكنه من الصعوبة بمكان تحديد السبب المضبوط. وبسبب كل ذلك فإن كل شيء يقوم على عدم الاكتراث بالجرائم نفسها وفي بذل كل الجهود الممكنة لتوجيه الأنظار الى الاعداء الرسميين.

ما الذي يستطيع أن يفعله الناس؟ أيكون التصرف الصحيح أولا بممارسة أعلى قدر من الضغط على الحكومة كي ترسل أو كي تسمح بارسال المساعدات الانسانية على ان تصل الى أكبر عدد ممكن من الاشخاص المعرضين للهلاك. وثانيا محاولة فهم وتعميم العناصر المستورة التي أدت الى هذا الوضع، حتى ولو كان من أجل تقليص امكانيات تكرار ذلك فقط.

ـ إذا كان قد تم تدمير ما تبقى من أفغانستان على نطاق واسع وتم تنصيب تحالف الشمال الذي اعتبر في السابق تنظيما سيئ الصيت. لماذا تظل الولايات المتحدة تعترض سبيل تدفق الاغذية باتجاه المواطنين الافغان المتضورين جوعا؟ ـ أشك بأنها تعترض هذا السبيل بكل معنى الكلمة. والأكثر احتمالا هو ان الولايات المتحدة لا تعتبر ان هذه المسألة ذات أهمية كبرى. وعليّ أن أضيف انه من بين كل الامور التي قلتها وكتبتها حول هذه القضية خلال الاشهر الاخيرة، كان هناك تعليق غير جدي لي تم الاستشهاد به بشكل سيئ، ولذلك أريد ان أوضح انهم نسبوا لي التأكيد على ان الولايات المتحدة كانت «تحاول» ايجاد كارثة انسانية، وهذا سيكون بمثابة ان تصف المخططين الأمريكيين بالانسانية المفرطة والى جانبهم جوقة المرتلين التي تتغنى بفضائلهم. إذا مشيت ودهست نملة، سيكون من الخطأ القول اني «حاولت» قتلها، فالصحيح هو القول اني اعتبرت ان تلك الامكانية لا معنى لها مطلقا واني لم أكترث لأمرها. الشيء نفسه يمكن أن يقال في هذه الحالة. ببساطة لا يهم، خصوصا عندما يكون المخططون متيقنين زيادة عن اللازم من ان العواقب لن تعلن ولن يحقق بها بشكل جدي.

ـ هل سيوجه الهجوم المحتمل ضد العراق الى بغداد ام انه سيكون ضد أهداف أخرى مثل الصومال والسودان ... إلخ؟ ـ إن استخدام قوة هائلة ضد أعداء بلا دفاع أمر له تأثير سلبي على الناس، ومن السهل العثور على سوابق تاريخية في هذا الشأن، من وجهة نظري، فقد كان النجاح العسكري متوقعا لأسباب لم نعد نناقشها منذ شهور وهي منشورة، لكن ما أدهشني حقا تمثل في ان رجال طالبان قاوموا كل هذا الوقت تحت قصف لا يصدق. والفظيع في هذا السياق والمثير للاهتمام أيضا يتمثل باعتبار النجاح في استخدام القوة غير المتكافئة كتبرير لتلك القوة، وهو امر ليس فيه جديد كذلك.

يوجد في الادارة الأمريكية وبين مفسري النخبة ايضا افراد أكثر من مستعدين لاستغلال أي فرصة من أجل مهاجمة الدول الأخرى، طالما ان هذه الدول ليست قادرة على الدفاع عن نفسها وطالما يمكن تنفيذ الهجوم عن بعد وبلا قصاص. وفي المقابل، حاولت الحكومات الاوروبية كبح جماح تلك النزعات التي يخشاها عن حق، جانب كبير من العالم. وما يجري سوف يعتمد الى حد كبير على الوضع الداخلي، وبالنسبة لأولئك الذين يقفون الى جانب أعمال عنف جديدة، فإن المهمة بكاملها تنحصر في الحدث وليس بالتنظير له.

ـ بالطريقة ذاتها التي مثلت احداث 11 من سبتمبر هدية للأجندة السياسية الخاصة ببوش وحملته الانتخابية. ألم تخدم الهجمات «الانتحارية» الاخيرة في اسرائيل الحكومة الاسرائيلية من أجل تصعيد هجماتها ضد الفلسطينيين؟ ـ في جميع أنحاء العالم، أدركت الدول القمعية ان لديها الفرصة أيضا لتصعيد القمع والإرهاب تحت عنوان «الحرب ضد الإرهاب». واسرائيل ليست حالة استثنائية في هذا الصدد، مثلما لاحظنا منذ 11 سبتمبر. ذلك ان إرهاب السكان جذوره مغروسة في اليأس والقنوط، وهذا يفسر الامر، لكنه لا يبرره. فبالاضافة الى ان هذه الاعمال الإرهابية فظيعة، فهي في الوقت نفسه هدية تقدم للعناصر الاكثر صرامة ووحشية في سلطة الاحتلال وحلفائها الأمريكيين. معك حق فيما يتعلق بالمسار الرهيب الذي بدأ يتحول الى حرب جائرة بتأثيرات مدمرة بالنسبة لكلا المجتمعين الفلسطينيين والاسرائيليين. وبقول ذلك، يكون واضحا انه يجب علينا ألا ننسى عدم التماثل الهائل في القوة والامكانيات. فالفلسطينيون ليسوا هم من يحتل اسرائيل بطريقة قاسية ووحشية منذ نحو 35 عاما بمساعدة حاسمة من الولايات المتحدة.

هناك الكثير مما نستطيع فعله. عندما نقرأ حول عمليات قتل السياسيين والمدنيين التي ترتكبها المروحيات الاسرائيلية، علينا ان نفهم، كما تفهم الضحايا، انها مروحيات أمريكية بطيارين اسرائيليين قدمت الى اسرائيل والأمريكيون على علم بأنها ستستخدم بتلك الطريقة. ولنأخذ على سبيل المثال اتفاقية جنيف الرابعة، التي أطلقت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة من أجل تجريم فظاعات النازية، حيث كانت الولايات المتحدة من بين أوائل الموقعين المجبرين بسبب عظمة مواقف الاتفاقية التي ألزمت الاطراف الموقعة على احترامها. الآن وما عدا الولايات المتحدة واسرائيل، طالب العالم برمته مرارا وتكرارا بتطبيق الاتفاقية هذه في الاراضي التي تحتلها اسرائيل بدعم من الولايات المتحدة. ولقد تم الاعراب عن النتيجة ذاتها من قبل اللجنة الدولية للصليب الاحمر الذي يحمل مسئولية السهر على تطبيق الاتفاقية. والحكومة السويسرية هي السلطة الحكومة المسئولة، ولقد نظمت بوصفها كذلك مؤتمرا حول هذه القضية في الخامس من ديسمبر الماضي. ولقد قوطع المؤتمر من قبل الولايات المتحدة واسرائيل واستراليا التي أدهشت العالم بموقفها الذي اتخذته بضغط أمريكي، بحسب ما أكدته وسائل الاعلام الاسترالية. واستهلت صحيفة «فايننشال تايمز» اللندنية تقريرها حول المؤتمر بالتالي: «أقرت دول الاتحاد الاوروبي الخمس عشرة البارحة اعلانا بدون مقدمات يؤكد من جديد على عدم شرعية المستوطنات الاسرائيلية في الاراضي المحتلة وتطالب اسرائيل باحترام القوانين الانسانية العالمية». وفي اليوم التالي واثر عملية بحث مستفيضة في قاعدة البيانات لم يتم العثور على هذا التقرير في أي من وسائل الاعلام الأمريكية، وذلك بفضل ديفيد بيترسون. ولا يستطيع المرء، إلا بطريقة عرضية، ان يجد نصا يتحدث عن ان «الفلسطينيين يطالبون» بتطبيق الاتفاقات في الاراضي المحتلة. فالاحداث الحقيقية لا يمكن نبشها اذا ما ابتعد المرء عن وسائل الاعلام الأكثر أهمية، مما يثبت لنا اتساع تنوع الاحداث التي نستطيع ويجب علينا القيام بها.

الذي يحدث عادة في مثل تلك الاوضاع، ان يقوم كل خصم بالتركيز على جرائم الآخر، حيث تكون الاتهامات صحيحة. أما ما يمكن فعله من الخارج، كلما كان ذلك ممكنا، فهو محاولة جعل كل طرف يعترف بعدالة اتهامات خصمه. هذا هو الشرط المسبق لقلب تصعيد دورة العنف، حيث لا يوجد، طبعا، أدنى تكافؤ في هذه الحالة، وهنا نحن لا نشاهد الاشياء من الخارج بسبب الدور الاساسي والحاسم الذي تتمتع به الولايات المتحدة في الحيلولة دون وقوع بعض الجرائم التي أدينت من جديد في اعلان الخامس من ديسمبر الذي لم يعلن عنه أبدا.
لقد اهتمت وسائل الاعلام بشكل غير عادي بشريط الفيديو الذي اشار فيه ابن لادن الى الحادي عشر من سبتمبر حيث اكد المفسرون ان هذا الشريط يقر بطريقة ما بشرعية قصف افغانستان، كما لو ان اكتشاف المعاقبة بلا قانون على جريمة قانونيا باكتشاف ان المجرم كان مخطئا.

ومع ان البعض قال ان الشريط كان مزورا الا انني اعتقد انه أصلي وأنه يضيف بعض القوة للافتراض القائل ان منظمة ابن لادن كانت متورطة بشكل مباشر في هجمات الحادي عشر من سبتمبر الانتحارية لكنه يبقى بدون جواب السؤال (ليس مهما جدا) حول اذا ما كان هو من قاد شخصيا تلك الهجمات؟ وحسب ما نشر في التاسع من نوفمبر اي بعد شهرين من الهجمات، فإن ابن لادن أقر القطاعات من جديد وبطريقة حاسمة وتباهى بأنه كان على علم بما يجري قبل الاحداث، ذلك انه كان مسئولا عن منظمته. ونحن لا نعرف مدى جدية ذلك الطرح، وبالطريقة ذاتها لا نعرف ايضا ما اذا كان بريجنسكي قد تبجح بكون الروس وقعوا في الفخ الافغاني في ديسمبر 1979، مع ما جلبه ذلك من عواقب وخيمة على الشعب الافغاني.

ان صلف بريجنسكي لن يكون كافيا من اجل ادانته بالجرائم التي يتباهى الى درجة الاعتزاز بها حيث من الممكن ان تكون عمليات التباهي تلك جدية، لكن من الممكن ان لا تكون كذلك ايضا. وفي الحالتين كلتيهما يتم ابلاغنا بشيء حول الناس الذين يطلقون هذه التغييرات المليئة بالتباهي لكنها تحتاج الى براهين من اجل اثبات صدقيتها.

ويستخدم ابن لادن تعبير «نحن» ايضا متكلما عن نفسه كما هو مفترض ـ وذلك كي يوضح ان القائمين بالهجمات اخطروه بالعملية «بالضبط قبل ان يصعدوا الى الطائرات» وليس واضحا بأي طريقة كان من الممكن ان يحدث هذا في مغارة في افغانستان.، وهو بالتأكيد امر غير معقول كلية، يوقظ الشكوك حول مدى جدية باقي تأكيداته. لكن هذا في واقع الامر لا أهمية له. فإذا كانت الولايات المتحدة تعتقد بأن ابن لادن هو المذنب فإنه توجب عليها السعي بكل السبل للحصول على اذن ـ كانت ستحصل عليه بكل سهولة ـ باعتقاله لتقديمه لمحكمة ذات مصداقية كان من الممكن ان تكون محكمة العدل الدولية، مع ان امكانية ذلك مستبعدة ذلك ان الولايات المتحدة ترفض محاكمته، وربما كانت هناك امكانية لانشاء محكمة خاصة ما تضطلع بهذه الحالة. اما الطريقة التي كان من الممكن من خلالها ان تضطلع محكمة جدية بهذه البراهين فهذه قضية اخرى مختلفة. ومهما كان الرد الا انه لا يمت بأي صلة بقرار مهاجمة افغانستان سعيا وراء الانتقام من ابن لادن وشركائه بدون الأخذ بعين الاعتبار العواقب بالنسبة للسكان، التي كانت سيئة زيادة عن اللازم اصلا. ومن اجل تقييم ذلك القرار يجب اعتبار البراهين المتوفرة والاهداف المعلنة في تلك اللحظة انها مسألة منطق بسيطة.ولابد ايضا من التذكير بأن هدف الاطاحة بنظام طالبان عبر وسائل عنيفة جاء في وقت لاحق، فلقد تم الاعلان عنه رسميا في نهاية شهر اكتوبر، اذا لم تخني ذاكرتي. ولا املك معلومات عن اي نقاش حول مواقف الفئات الافغانية المعارضة للطالبان، المهمة جدا في تلك المرحلة التي تضمنت موقفها المعلن من عمليات القصف ونداءاتها الموجهة للولايات المتحدة والتي تمثلت في انه بدلا من مهاجمة بلادهم، كان يجب دعمهم في جهودهم من اجل الاطاحة بنظام طالبان من الداخل، الامر الذي اعتبروه اكثر فعالية وامكانية حدوثه اكبر.

بايجاز يمكن القول ان البراهين الجديدة المكتشفة الآن وحتى بعد تقويمها سوف تترك المسائل المهمة على ما كانت عليه سابقا.ونحن نتساءل بعد قول ذلك الا يجب ان يدهش الغرب من رد فعل ابن لادن؟ ففي نهاية المطاف نحن نعلم علم اليقين ان التهليلات بالفظاعات والتبجحات بالنسبة للمسئوليات ما هي الا عملة قديمة رائجة.سنعتبر الجواب ليس اقل مدعاة للنشوة من النصر الذي حققه المرشح المدعوم أمريكيا في الانتخابات النيكاراجوية عام 1990. تلك الانتخابات التي جرت تحت تهديد واضح بأن انتخاب اي مرشح آخر سيفضي بالضرورة الى استمرار الخنق الاقتصادي والحرب الإرهابية التي كانت مشتعلة في البلاد والتي ادت الى عواقب رهيبة.وفي شهر نوفمبر عام 2001 عاد التاريخ ليكرر نفسه عندما كنا «متحدين في الفرح» امام فوز مرشح الولايات المتحدة في نيكاراجوا اثر تحذيرات واضحة من العواقب الرهيبة في حال أخطأ الناخبون بالاختيار في بلد يحتل الآن المكان الثاني في نصف الكرة الارضية الغربي من حيث مستوى الفقر، بعد هاييتي التي تأتي في المرتبة الاولى وهذين مجرد مثالين فقط، لكن هناك المزيد.

ارتكاب الجرائم لماذا ينبغي ان نذهل اذن من ان يكون لأحد رجال العصابات في كهف افغاني رد فعل امام جرائم ترتكب بالطريقة ذاتها من قبل النخبة الغربية ويحملونه مسئوليتها؟ ففي اليوم الذي ستدرس فيه هذه القضايا بجدية، سيكون بامكاننا ان نأخذ على محمل الجد احتفالات وسائل الاعلام، وليس قبل ذلك؟ ـ أصاب الجمود الكثير من اليساريين حيال فكرة اننا امام حرب عادلة او انه ليست هناك من امكانية بتغيير الاشياء وطبعا انت لم تذعن لوجهات النظر تلك حيث مازلت تحاول تجنب الكارثة والحيلولة دون وقوع المظالم. هل لديك شيء آخر لتقوله من اجل توضيح هذين الغموضين او اي شيء آخر؟ ـ اعتقد انه ليس لدي شيء لأقوله ابعد مما هو واضح للجميع والذي اعرفه هو انه لا احد تعرض ابدا لحرب غير عادلة ولم يبد شكواه من آثار خطيرة. ومن اجل ان تأخذ هذه النظرية موقعها الجدي، ينبغي علينا ان نكون مستعدين لقبول ان هذه المباديء نفسها يجب ان تطبق على افعالنا الخاصة، وهذا امر اعتبره تحصيل حاصل اخلاقي. وانا لا ارى انه في اي جزء من العالم يتم الحديث او حتى الاقتراب من تلك المعايير الدنيا. وكما جرت العادة، فإن كل شخص يجد نفسه امام مأزق الاذعان للمتطلبات الاكثر قوة او التفكير مليا وبشكل حذر بالعواقب وباتخاذ افضل موقف. واذا كانت النتيجة هي ان ذلك الموقف لم يكن الافضل ـ نادرا ما يكون كذلك ـ اذن فنحن نواجه الكثير من الخيارات، كما يعرف العالم كله.(عن الريبليون)

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا