التأثير والتأثر المتبادل ومخاطر التغريب

التأثير والتأثر المتبادل بين الثقافة العربية والثقافات العالمية كان عنوان المحور الرئيس لابحاث مؤتمر مجمع اللغة العربية في مصر هذا العام، المؤتمر عقد في القاهرة مؤخرا وشارك في أعماله نخبة متميزة من كبار اللغويين ورؤساء المجامع اللغوية العربية كما شارك فيه مستشرقون من أوروبا وأمريكا بصفتهم أعضاء مراسلين في مجمع اللغة العربية المصري.

ولأن موضوع المحور الرئيسي لأبحاث المؤتمر يطرح في فترة تاريخية شديدة الخلط انجرفت فيها الحضارة الغربية الحديثة الى دوامة العولمة بما تهدف اليه من طمس متعمد للثقافات الأخرى وعلى رأسها الثقافة العربية، فان المشاركين بالأبحاث نوهوا الى أن عملية التأثير الثقافي المتبادل وما تبعها من حوار حضاري رفيع أصبحت في ظل العولمة محاطة بدوافع أمريكية تستبدل الحوار بالصدام والكلمة بالقنبلة والعطاء المتبادل بالهيمنة والسيطرة.

ولعل هذا ما دفع الدكتور عبد العزيز المقالح « اليمن » عضو المجمع للقول في مقدمة بحثه « ترددت كثيرا قبل الموافقة على المشاركة في كتابة هذا البحث لمجموعة اعتبارات منها:أولا أن موضوعه يقترب من حديث صاخب يشغل العالم في هذه اللحظة الزمنية حول ما يسمى بالصراع بين الثقافات أو الحضارات. ثانيا ان قراءة اشكالية هذا الموضوع تحت دوافع ومؤثرات خارجية وفي مناخ محموم لاطروحات فكرية وممارسات ساخنة لا يبقي للنظرة الواعية والعقلانية مجالا. ثالثا: أن الفعاليات الفكرية والثقافية حول تبادل المعرفة وحوار الثقافات تملأ الساحة العربية بمسلمات وبديهيات تعكس مظاهر التخلف والقصور التي انعكست في الواقع الثقافي العربي تجاه ردود أفعال العولمة ومنطقها الأعوج الذي يوشك أن يعصف بالثقافات الانسانية ويمهد السبيل لظهور ثقافة أحادية الجانب نشأت في أحضان الهيمنة والطموح المستفز والهادف الى السيطرة التامة على العالم.

رابعا: لقد زاد من حدة الشعور بخطورة الهيمنة الخوف من نتائج الأحداث التي جرت في الحادي عشر من سبتمبر 2001م في كل من نيويورك وواشنطن حيث انقسم ازاءها الغرب ـ المؤثر بثقافته ـ الى فريقين أحدهما يرى أن تلك الأحداث تستدعي من الغرب وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية موقفا ايجابيا ازاء الثقافات الأخرى والاقلاع عن اتهامات بالتشرنق في حدود ضيقة والارتياب من كل وافد واعادة النظر في جوانب كثيرة من منطق العولمة الثقافية، تزعم هذا الفريق بعض الدول الغربية في مقدمتها فرنسا، أما الفريق الآخر فهو المندفع نحو تأجيج نيران الصراع بين العالم المتقدم وبقية العوالم والاسراع في تعجيل تحقيق العولمة الاقتصادية والثقافية والاعلامية بأقصى سرعة ممكنة بغض النظر عن العواقب وعن أشكال الظلم والعنت التي ستلحق بالأمم والشعوب العاجزة عن المقاومة».

واذا كانت الترجمة في الماضي هي النافذة الأولى للتأثير المتبادل بين الثقافات فان الدكتور المقالح يرى أنها لاتزال وسيلة من وسائل التعرف على الآخر والوقوف على أشكال ونماذج من التنوع الخلاق في مجال الفكر والابداع على حد سواء، فالثقافات كالتاريخ لا تعيد نفسها، ولكنها تضيف الى نفسها وتطور من قدراتها في سياق ابتكاري لا يتوقف أو يتعثر وأسئلتها الجديدة لا تلغي الأسئلة القديمة فلكل عصر أسئلته ومشكلاته وهمومه وثقافة كل شعب قادرة على التطور والاضافة بمقدار ما تحمل من رغبة في التفاعل مع الآخر.

ويرى المقالح أن التفاعل بين الثقافات وبخاصة بين ثقافتنا العربية والثقافة الغربية الراهنة لابد أن تكون الأمة بمثقفيها على دراية بمخاطر التغريب، وأن تنمي جانبا كل الأفكار الداعية للتغريب وأن تعمل على تمحيص الدعوات التي شاعت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين المعلنة عن الاستعداد للالتحاق بأوروبا لا لأنها غير صحيحة وحسب وانما لأن أوروبا ترفض أن نكون جزءا منها حتى لو رغبنا في ذلك.

ومن الدعوات الجديرة بالتمحيص أيضا تلك التي تتعالي الآن دفاعا عن العولمة أو لتقليل من أخطارها ويبدأ الخطأ عند أصحابها من خلط بين مفهوم الحضارة ومفهوم الثقافة من جهة، فضلا عن الخلط بين حوار الحضارات وحوار الثقافات من جهة ثانيا. فالحضارة من منظورنا ـ يقول المقالح في بحثه ـ هي جهد انساني مشترك يغتني بالتراكم والتفاعل ويمد الحاضر بالمنجز الفكري الخلاق والأرث الثقافي القادر على خلق الشخصية الجديرة بالحوار.

وما في الغرب اليوم ـ بشقيه الأوروبي والأمريكي ـ ليس حضارة بالمفهوم الشامل والدقيق للحضارة، هناك اكتشافات تقنية وتصاعد صناعي مدهش لكنه خال من أي معنى للحضارة بمفهومها الانساني الرفيع، كما أن الحضارة واحدة وليست حضارات قد تقوم في مكان ما ثم تنتقل باشعاعات الى مكان آخر، وهي قد تمنح الأمة والشعب الذي يقودها قدرا من المكانة وربما شيئا من الهيمنة الدولية ولكنها لا تتحول الى طاقة حربية منفلته ضرب هذا وتهدد ذاك وتحتل هذا الجزء وتدمر وتسعى الى فرض لغتها وأسلوب معيشتها على الشعوب المستضعفة كما يحدث الآن في مناخ التمدن المنفلت غير المحكوم بأخلاقيات الحضارة وانسانيتها.

وفي بحثه ينوه الدكتور أحمد بن محمد الضبيب « السعودية » الى خطورة النقل عن الغرب بلا تمحيص، ذلك لأن الثقافة الغربية رغم المشتركات الانسانية بينها وبين الثقافات الأخرى انما هي ثقافة ذات خصوصية وذات أهداف تسعى اليها.. يقول الضبيب وكان المؤمل أن تنعم البلاد العربية بعد زوال الاستعمار عن أقطارها الرائدة برؤية وطنية وحدودية يلتئم فيها الشمل ويتحد فيها الهدف وينظر فيها الى المستقبل على أنه مستقبل عربي واحد فتتوحد السياسات ـ وان اختلفت الأنظمة ـ

ويتحقق بينها التكامل في الثقافة والاقتصاد والدفاع، ولكن لسوء الحظ لم يحدث، لا لأنه مستحيل الحدوث ولكن لأن الاستعمار لم يخرج من هذه البلدان الا وقد اطمأن الى أن ما يريده سوف يتحقق بأيدي أبناء هذه الدول، وأن ما بثه من أفكار خادعة قد وجدت ملاذا أمنا في أدمغة بعض المنتمين الى فكره من أصحاب الرأي أو صناع القرار وهكذا انحرفت المسيرة من الاحتكاك بالأجنبي فأصبح مفكرونا ومثقفونا أصداء وأبواقا لكل ما يصدر عن الغرب،

خيرا كان أو شرا، وأخذ أدباؤنا ونقادنا يستوردون النظريات النقدية الغربية التي سادت ثم بادت في أوروبا ويطبقونها لا على أدبنا الحديث فحسب وانما على الأدب الجاهلي والاسلامي القديم، وأخذ بعض ضعاف شعرائنا ـ تحت شعار الحداثة ـ يرصدون كلمات باهتة باردة ثم يزجون بها للمطبعة مع وسمها بكلمة شعر على الديوان المزعوم لثقتهم أن الناس لن تتقبل هذا الكلام الغث الا على أنه من ردئ النثر ـ ويضيف الضبيب قائلا ـ

ولم يقتصر الانحراف على الآداب والفنون، حتى ابتعد المثقفون عن ذائقه العربي واضطروه الى صياغة فنون أخرى من الأدب الشعبي لتلبي احتياجاته، وانما امتد الانحراف الى أمور أخرى كالاقتصاد الذي انتهى بنا الى تحويل رجال الأعمال لدينا الى سماسرة يستوردون البضاعة الأجنبية ويسوقونها في بلدانها.

ومن السعودية الى المغرب حيث نلتقي ببحث هام للدكتور محمد محمد بنشريفه بعنوان « التأثير المتبادل بين الأمثال العربية والأمثال الأسبانية» ولعل هذا التلاقح بين التراث الشعبي الأسباني والتراث الشعبي العربي هو ثمرة من ثمرات الثقافة العربية في الأندلس حيث يذهب البحث الى أن الأندلس كانت بلدا تتعايش فيه الأديان والأجناس وتتعدد فيه اللغات والثقافات، وكان ذلك التعايش والتعدد في ظل دولة الاسلام ووحدة المذهب وسيادة اللغة العربية.

ويقدم الدكتور بن شريفة في بحثه 120 مثلا اسبانيا يرددها الشعب الأسباني اليوم وهذه الأمثال هي في الأصل أمثال عربية اذا أنها أو ما يشبهها يتردد على ألسنة الناس في البلاد العربية.

وفي بحث بعنوان « الثقافة العربية جزء لا يتجزأ من الحضارة العالمية » يحدثنا الدكتور نيقولا دوبريشان عضو مجمع اللغة العربية المصري المراسل من رومانيا يقول دوبريشان منوها الى أثر الثقافة العربية في الحضارة الأوروبية « بعثت أوروبا ونهضت وهي تستمع الى أصوات الفلاسفة والعلماء العرب في مساجد المدن الأندلسية وأندهش الأوروبيون بالأفكار الخاصة بدوران الأرض وتحرك النجوم،

وترجمت أعمال العلماء العرب الى اللغة اللاتينية واستمرت دراستها في الجامعات الأوروبية على امتداد قرون من الزمان وكان «قانون» ابن سينا في الطب المترجم في القرن الثاني عشر مراجع أساسية لدراسة الطب في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، وأطلعت أوروبا القرون الوسطى على فلسفة الأغريق بفضل التراجم العربية، واعترف العديد من الباحثين الأوروبيين في ميدان تاريخ العلوم بأن العرب كانوا اساتذة لأوروبا طوال ستة قرون كما ألفت مئات الكتب والبحوث عن تأثير الشعر العربي القديم وحكايات ألف ليلة وليلة والمقامات على آداب العالم منذ قديم الزمن الى عصرنا هذا

وعن تطور وتأثير الفنون وبخاصة العمارة والنحاتة التي بلغت مبلغ الرقة والأناقة كما انتشرت في العالم كله اخبار وحكايات وليس مجرد نوادر عن العلماء والخلفاء وتكريم العلماء في قصور الخلفاء والأمراء الذين كانوا عشاقا مشهورين للكتب وتجميعها في المكتبات».

وفي بحث عن «تأثير النظريات العلمية اللغوية المتبادل بين الشرق والغرب» يحدثنا الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح رئيس المجمع الجزائري للغة العربية عن تأثير منطق أرسطو في الفكر العربي وامتزاجه بالنحو العربي، فعلى أثر ما حصل من تسرب الكثير من المفاهيم المنطقية في النحو العربي في نهاية القرن الثالث عشر أعجب العلماء بما أدخل من الحدود على النحو مما سموه « بأوضاع المنطقيين وخاصة في الكثير مما جاء بعنوان « مختصر في النحو » ألف لتعليم العربية مثل «الموجز» لابن السراج و«الجمل» للزجاجي وغيرهما، ففيهما أثر واضح للمنطق اليوناني الا أن النظرية الأساسية لم تمس.

وفي سياق آخر يقول الدكتور الحاج صالح ان روجر بيكون العالم اللغوي الانجليزي كان قد أطلع على ماكتبه أبو النصر الفارابي في كتاب « احصاء العلوم» ونقل الى اللاتينية عن هذا الكتاب « أن النحو هو في جوهر واحد في جميع اللغات وأن كانت تتنوع تنوعا عرضيا» ويقول الفارابي في نفس الكتاب الذي نقله بيكون في القرن الثاني عشر الميلادي وهذه لا توجد في العربية فقط بل في جميع الألسنة. فعلم النحو في كل لسان انما ينظر فيما يخص تلك الأمة وفيما هو مشترك له ولغيره.

ويؤكد الدكتور الحاج صالح أن الفارابي هو أول من قال بذلك في تاريخ الانسانية ولم يسبقه الى ذلك الا بعض النحاة كالمبرد، إذصرح بأن الأقسام الثلاثة للكلام هي موجودة في جميع اللغات وربما استوحى الفارابي من شيخه ابن السراج فكرته من هذا الكلام فعممه بتطبيقه على جزء كبير من اللغة.

أما الدكتور عبد الكريم خليفة رئيس المجمع اللغوي الأردني فانه يتوقف في بحثه عند النقله اللغوية الكيفية التي أحدثها العالم العربي أبي على محمد بن الحسن بن الهيثم «996م ـ 1021م » في اللغة فارتقى بها من لغة أدبية معبرة عن فنون الأدب الى لغة علمية منضبطة ذات مصطلحات وأساليب تعبر عن العلوم المختلفة. يقول الدكتور خليفة «استطاع ابن الهيثم ومشاهير العلماء العرب والمسلمين الذين عاصروهم والذين تبعوه ان يرتقوا بالعربية كي تصبح لغة التعبير عن حصيلة ما وصلت المعرفة الانسانية،

وأن تصبح من خلال مصنفاتهم التي يصعب احصاؤها لغة العلم والبحث العلمي في جميع مجالات المعرفة بعد أن كانت لغة الآداب والفنون والحياة العامة، وقد ترك العلماء العرب والمسلمون ومنهم ابن الهيثم أحد مشاهير الرياضيين والعالم المبدع بالطبيعيات آثارا مميزة في تطور اللغة العربية العلمية للتعبير عن الفكر العلمي،

فكانت اسهاماتهم رائعة في صياغة المصطلحات والتعابير العلمية وتحديد معانيها في ميادين المعرفة، وكانت القاعدة العامة تتجه الى وضع هذه المصطلحات وصياغتها في نسيج العربية الفصيحة وذلك عن طريق الاشتقاق والمجاز والنحت والنقل من معنى محدد للدلالة على معنى آخر وحققت العربية في هذين القرنين « الرابع والخامس للهجرة » أدق الخصائص للغة العلمية سهولة ألفاظ وبساطة تراكيب ووضوح معان الى جانب الدقة في التعبير عن الحقائق العلمية».(بيان الثقافة)

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا