الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

  ملف خاص

فقه الإعلام والرأي العام

الإعلام في فكر الإمام الشيرازي

المهندس فؤاد الصادق*

الدور الكبير، والمحوري للإعلام في غاية الوضوح، ولاسيما مع تحول العالم إلى عصر القرية الصغيرة الواحدة.

الأخطار التي باتت تُهدِّدُ الإعلامَ أخذت تُقِلق المعنيين بمهنيّة الإعلام، وحرفيّته، ودوره الذي وَجِدَ مِن أجله.

جاءَ الإعلامُ كيّ يحاولُ الوصولَ الحقيقة، لإيصالها إلى الجمهور. وَلِدَ ليكون عيناً للجمهور على السلطة، وعلى السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية والقضائية، وتعاظمَ دوره حتى اُطلق على الإعلام اسم (السلطة الرابعة).

 

فما الذي حدث!؟ هل أمسى الإعلام عيناً للسلطة؟

السلطة السياسية، أو الإقتصادية كالشركات العابرة للقارات، أو...، مما بعثَ البعضَ للدعوة لإصلاح دور الإعلام حتى في الدول الديمقراطية، في الوقت الذي دفعَ آخرين لتأسيس سلطة خامسة.

 

ما هو موقف الإسلام مِن كل ما يدور عالمياً حول الإعلام سلباً وإيجاباً!؟

بدأت التحرّي عن أجوبة فقهية لهذه الأسئلة، فعثرت على مخطوطة قيد التحقيق للإمام الشيرازي الراحل (ر) باسم:

 

(فقه الإعلام والرأي العام)

قرأته بشغف، فوجدت الكتاب قيماً وفريداً في المكتبة الفقهية، لكني أحتمل أن الإمام الراحل إنما وضعَ الكتاب المذكور إستكمالاً لما تطرقَ إليه في الإعلام بصورة موزعة في موسوعته الفقهية الكبيرة، والتي لم يُطبع مِنها لحد اليوم سوى 140 مجلداً، فلذلك، ولحاجة المكتبة الإسلامية إخترت إستقراء الفكر الإعلامي للمجدد الثاني السيد محمد الشيرازي (ر) في الأجزاء المطبوعة مِن موسوعة الفقه كمقدمة لصياغة وبلورة النظريات الإعلامية للإمام الراحل الشيرازي في القسم الثاني مِن هذه الدراسة، ليكون ذلك موثقاً، وفي كتاب واحد مستقبلاً في متناول اليد.

* حول دور الأنانية والفردية في تكريس الديكتاتورية عبر تغييب الأخلاقيات الإعلامية وتفريغ الصحافة عن الصحافة المواطنية لتتفرغ إلى التلميع والتسقيط بالتشهير والقذف وكيلّ التهم:

المستبدون والديكتاتوريون الذين نزعَ الله الإيمانَ عن قلوبهم، أنانيون يطمحون إلى الإنفراد، ويريدون الفردية، يريدون أن يُقال عنهم الخير، بينما يُقال عن غيرهم الشر، أو لا يُذكر سواهم، فلا يتورعون عن الإتهام والتسقيط والتشهير بالآخر في وسائل الإعلام وأجهزته، فيتم تجييش الإعلام وموارد الأمة للفتنة والفساد والإفساد والإتهام والقول بالإفك والإثم حُبَّاً للشهرة، وللإنفراد بالسلطة، ولا سبيل لمواجهة ذلك إلاّ بحرية الأحزاب والإعلام وإستقلاليته بعيداً عن الإحتكار والأحادية وتمركز ومركزية السلطة في إطار منهج صائب يكون في ظله الناس بعيداً عن نَهْبَ الديكتاتوريين الذين يفعلون ما يشاؤون، تارة بإسم الحق الإلهي، وتارة بإسم الديمقراطية، وتارة بإسم أنا ربكم الأعلى.

* حول دور الإعلام الفاعِل في ممارسة الرقابة على السلطة القضائية لتقويمها وتأصيل إستقلاليتها وترشيد أداء القضاة والجهاز القضائي:

يجب ضبط القضاة ضبطاً دقيقاً مع لزوم كونهم عدولاً، ولو كان لهم أقوى الملكات، لأن إحتمال الإنحراف يبقى ماثلاً ومُمكناً مع غياب العصمة، وعبر وسائل عديدة منها الصحافة الحرة التي تخافها السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويخشى منها القضاة، لأن الصحفيين الأحرار يُحاسبون الحكام والممثلين والقضاة على كلِّ صغيرة وكبيرة، ومِن دون ذلك الضبط ينحرف القضاة وتصبح أموال الناس ودماؤهم وأعراضهم وحيثياتهم نهب الشهوات ومطمع المستبدين والطغاة.

* حول دور إعلام التعتيم والتلميع والتسويق والدعاية السوداء في خلق أجواء ومناخات سياسية وإجتماعية مُزيفة لابد للإعلامي والصحفي والباحث أن يتعامل معها بوعي وذكاء ومسؤولية في لقاءاته وتحقيقاته ومسحه للرأي العام للإقتراب مِن الحقائق الإجتماعية والسياسية فالإلتزام بمؤشرات الصحافة المواطنيّة:

على الباحث أو الـمُحقق في اللقاءات ونشاطات إستقراء ومسح الرأي العام تحاشي الإعتماد على الشائعات والدعايات والمناخات والأجواء الـمُصطنعة، بل يكون له مِن الذكاء ما لا يخلط الحقيقة بالمصطنع، فالحكام المستبدون يفرضون أنفسهم على وسائل الإعلام، وعلى المحلات والملتقيات العامة بواسطة الشرطة السرية، وعلى قطاعات كبيرة عبر الترغيب والترهيب ليملئوا المجتمع بأنفسهم وأفكارهم، ففي التحقيق ينبغي التمييز بين مناخات كاذبة كهذه وبين الأجواء الحرة، وحين تكون الأجواء مِن النوع الأول لا مناص مِن إجتناب إفرازات وإنعكاسات الحاكم المستبد الـمُرّوِج لسياسة التجهيل والمسيطر على الإعلام، في الحوارات والمقابلات والإحصاءات في عملية البحث عن الحقيقة، كمَنْ يسير في أرض مُلغمة أو شائكة لابد له مِن الحذر وبدقة كي لا يصيب الشوك جسمه وملابسه، وعلى عكس السائر في أرض سويّة.

وما يجب الحذر مِنه في هذه المناخات ضمن الحدود القطرية يصدق أيضاً خارجها، فقد يذهبُ الديكتاتورُ إلى أبعد مِن ذلك فيُسخِّر وسائلَ الإعلام والضمائر ويُجيّشها في نفس المنحى.

فمهمة الإعلامي والصحفي والباحث الإجتماعي تكون أكثر صعوبة وتعقيداً، وتستدعي المزيد مِن الإنتباه والحذر والتدقيق عند ما يكون التحقيق في بيئة تحكمها الأحادية الحزبية، تقديس الفرد، عدم التداول السلّمي للسلطة، إنعدام حرية الصحافة والإذاعة والتلفزيون وما في هذا الإتجاه، والتي في ظلها تمسي الإحصاءات الرسمية، والأجوبة على نماذج الأسئلة وأوراقها المسْحيّة لا تعطي إلا رائحة الحاكم، وذلك مما يملي المزيد من التحقيق والتدقيق والنباهة.

أما الدور الذي يمكن أن تلعبه الأحادية، والترويج لها في الإبتعاد مِن الإعلام والصحافة المواطنيّة الحرة المسؤولة فهو كبير وبحاجة إلى المزيد مِن البحث المستوعب، فلابد للإعلام التعددي الحر المستقل المسؤول مِن إحترام الحقيقة (ثابتها ومتغيرها) لأن البحث عن الحقيقة يعطي الإعلام شرعيته.

وفي خضم حديثه عن مهمة الباحث أو العالم الإجتماعي يقول الإمام الراحل (ر):

عليه أيضاً بيان مواضع الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، والسيء والأسوء، فبعد إستعراضه مختلف السُبل والمعالجات والعادات لابد أن يبين فلسفة الفساد في الفاسد، والصلاح في الصالح، وبذلك يُقرِّب المجتمع إلى ما يصلحه ويقدمه، ويبعده عما يفسده ويؤخره.

وفي ذلك إشارة واضحة إلى تبني الإمام الراحل (ر) للصحافة المواطنيّة، والمسؤولية الإعلامية، ودعوته إلى تحري الدقة والأمانة والإتقان في ذلك، وفي الأبحاث، ومنها الإجتماعية، وما يتوجب على العالم الإجتماعي حيث يضيف (ر):

• المسؤولية الكبيرة والخطيرة والحساسة للكاتب والمحقق والباحث والإعلامي لمساعدة المواطن أو الدولة في الوصول إلى فكر وإعلام دقيق ومحقق، ينهض فيه المفكر والباحث والإعلامي إلى التعاطي الإيجابي الحرّ المتحرر مع حملات بث التحليلات أو التقارير أو الإستنتاجات أو الأخبار البعيدة عن الصحة، أو التشهير بذريعة نسبية الحقائق، وهذا مما تدعو إليه القيم والأخلاقيات الصحفية، ومبادئ إحترام الحقيقة وآداب المهنة، فمراعاة المسؤولية يُكرِسُ الحريةَ، والبحث عن الحقيقة يعطي الإعلامَ شرعيته، ويدعم مشروعيته، ويوظِّفه في الإتجاه الذي خُلِقَ الإعلامُ مِن أجله، والمتمثل في إيصال الحقيقة.

- فيما تقدمَ مِن الإمام الراحل (ر) حول البحوث والدراسات والتغطيات الإعلامية، ومقومات الإتقان فيها ما يشير وينظر إلى التمييز بين الإعلام والدعاية (propaganda) التي تلتقي مع الإعلان، والتي تستخدم أحدث وسائل الإعلام والإتصال بالناس مِن صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما ومنشورات، وإلى جانب أحدث فنون الإيحاء الذاتي المستوحاة مِن علم النفس الفردي والإجتماعي، والتي يتصدرها تجنيد العواطف والمشاعر والإحساسات و....

كما يتضمنَ إشارةً إلى الدِيْماجوجيَّة (Demagogy) المبنية على الكذب وإنتهاز فرصة القلاقل والبؤس والجهل واللجوء إلى التحيز والتحامل، للتسلط على الناس عبرَ تزيين أهواءهم، وبواسطة حيل البيان ومعسول الألفاظ وتبسيط أو تسطيح الأمور مع إبراز المزايا وإخفاء العيوب مما يُعّقِد النقد والحكم الموضوعي المتعقل، وذلك لإستشارة حماس الناس وولعهم، مع عدم الإكتراث بإرشاد الناس إلى مصالحهم الحقيقية، كما نبّه (ر) إلى خطورة إنحسار الإعلام في الدعاية، فإبتعاده عن دور الأساسي الحقيقي المتمثل في إيصال الحقيقة، إضافة إلى تحذيره مِن خطر وقوع الدعاية ولاسيما المبطنة والخفية مِنها ووسائلها في يد الرأسمالية المنحرفة.

وفي معرض حديثه عن الفرق بين الجماعة والجمع، وتحت عنوان: العقل أمْ العاطفة؟

يشير إلى الدعاية التي تُجّنِد العاطفة عادة إلى حد كبير، فيقول (ر):

الجمع أو الإجتماع العفوي أو التلقائي - غالباً - تحدوه العاطفة الشديدة للتجمع والعمل، بدون تفكر في العواقب والنتائج، ولذلك يذوب الفرد في الجمع، حيث لا يرى إلا الجهة التي ينساق إليها، بسبب تلك العاطفة المشبوبة، والغالب أن الديكتاتوريين يستفيدون مِن هذه العاطفة في سوق أو دفع الناس إلى أهدافهم، لا أهداف الناس ومصالحهم، ولهذا نرى أن مثل ذلك يلازم تقديساً مطلقاً لديكتاتور هو وراء الإثارة.

ثم يتعرض (ر) إلى تسليط الأضواء على سلبيات الدعاية والإثارة العاطفية، ومخاطبة مشاعر وإحساسات البسطاء المتمثلة بالديماجوجية، والتي يمكن أن تعاني مِنها الجماعة، أو الجمع، أو السلطة أو الإعلام فيقول:

لكن يلزم أن يعلم أن مثل هذه الأساليب سواء كانت في الجمع أو الجماعة لا تثمر إلاّ على المدى القصير، لأنها تواجه برد فعل مِن جهات:

أ‌- مِن العقل لأنه في النهاية يتغلب على العاطفة، فينقلب العمل العاطفي الديماجوجي المعمول فترة إلى أبشع صورة الكره والذم، ويبقى الذم على القائمين بذلك في المستقبل.

ب‌- سقوط الديكتاتور الذي كان وراء العمل المذكور سقوطاً هائلاً، حيث تنكشف سلبياته وحيله ومكائده.

ت‌- تسلط الأعداء على الجماعة التي تنتهج المسلك المذكور، لأن الأعداء يعملون بتعقل، وجماعة كهذه عملت بالعاطفة والتبسيط وتضليل البسطاء، والعاطفة لا تتمكن مِن البناء فتسقط، بينما العقل يتمكن مِن البناء فيغلب.

ومِن الأمثلة في العصر السابق بنو امية حيث استغلوا عواطف السذج ضد أهل البيت (عليهم السلام) فتسلط عليهم أعدائهم ونسفوهم بما بقوا لعنة التاريخ.

كما أن مِن الأمثلة في العصر الحديث: هتلر، وستالين، وموسيليني، وماو، حيث سقطَ كلهم سقوطاً ذريعاً.

ثم يدعو سماحته (ر) إلى ترجيح العقل على العاطفة بما يمكن تسريته إلى أهداف الخطاب الإعلامي، قائلاً:

وحيث اللازم على الإنسان إتباع العقل، وإنْ كان فيه مرارة عاجلة، وحرمان مؤقت، وعدم الإنسياق وراء العاطفة، وإنْ كان فيه حلاوة وملأ غرور، فقد حذر الإسلام أكبر قدر مِن التحذير عن ترك التعقل والأخذ بالعاطفة، بل أمرَ بالتعقل وما تقتضيه الموازين الصحيحة، وإستشهدَ بالعديد مِن الروايات الشريفة، التي تتناول دور التجربة والعقل والوسطية والتودد منها:

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك)، (إنّ الشقيّ مَن حرم نفع ما أوتي مِن العقل والتجربة)، (لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل)، (لا ترى الجاهلَ إلا مُفرِطاً أو مُفرِّطاً)، (إذا تمَّ العقلُ نقص الكلام).

وهذا لا يتناول دور العاطفة الإيجابي وفاعليته الكبيرة، بل يتعرض إلى نقد التجنيد الإنتهازي العواطف وإثارتها لتجييش الجماهير والبسطاء على طريق تسطيح الأمور والمعالجات لتسويق أهداف ومطامع فئوية أو شخصية.

ومما مرَّ يمكن أن نستشف الموقف الفقهي لسماحته مِن الأبحاث الإجتماعية أو التغطيات والمعالجات الإعلامية العاطفية التسطحية الحماسية الدعائية، فتأكيده (ر) على محورية الإنسان، ومنطلقات الناس ومصالحهم ورغباتهم وحل مشاكلهم بما يستشرف المستقبل، إضافة إلى ما تقدمَ وسيأتي كله يُكرس القراءة هذه.

كما أن سماحته (ر) يتناول نقد الديماجوجية وعدم الإكتراث بإرشاد الناس إلى مصالحهم الحقيقية، والدفاع عن تلك المصالح، مما يضمن إنجاز الإعلام لمهامه الأصلية، ويسد الطريق أمام إستفحال ما يسمى حديثاً بالتوازن المسيء للديمقراطية، أو الإبتعاد عن السياسات المواطنيّة أو الصحافة المواطنية، فيقول ما مضمونه وتحت عنوان التوعية الجماهيرية:

أن المجتمع ليس معصوماً، يعرف قيمة ذوات القيم، أو يعرف تفاهة ما لا قيمة له، خصوصاً إذا كانت سياسات التجهيل والتضليل هي الحاكمة، وعليه فاللازم على المفكرين، أن يقوموا بمهمة التعديل الإجتماعي الفكري، على طريق التعريف بما له قيمة مِن غيره، ومقدار قيمة كلّ ذي قيمة، والحاجة إلى التعديل المذكور تُبرِّزها حالتين:

1- الحالة التي تُسيطر القوة أو السلطة، ومنطقها على الأوضاع، حيث أن الحكومات الديكتاتورية، تمارس سياسة التجهيل والتضليل بواسطة أبواق دعايتها وأجهزة إرهابها، فإن الشريحة الواعية أو المستنيرة تنسحب قهراً مِن ميدان كهذا، ولا يبقى إلا الهمج الذين يسبحون بحمد الديكتاتور، وفي حالة كهذه تنعدم الطرق والسُبل أمام الناس لإستكشاف ومعرفة القيم مِن الزيف، كما تُحرم مِن معرفة مرتبة كلّ قيمة، ودرجة كل زيف.

وفي الحديث الشريف: (إذا ظهرت البدع في أمتي، فعلى العالِم أن يظهر علمه، فمَنْ لَمْ يفعل فعليه لعنة الله).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (ولولا... ما أخذَ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها).

2- الحالة التي يُسيطر فيها المال على الأوضاع، فللمال دور خطير في الدعاية والتعمية والإضلال، وربما كان هذا أسؤهما، لأنه يُخدر بما يوجب إتباع الضحية للجلاد، وقد وردَ في الحديث الشريف: (لعنَ الله الراشي والمرتشي).

وأنه يُسأل عن الإنسان يوم القيامة: عن ماله، مِن أينْ اكتسبه، وفيم أنفقه؟

وقد ذكرنا في كتاب: (الفقه الإقتصاد):-

إن رأس المال كيفْ يسيطر على المجتمع بما يُبعِد السياسة والقانون والإعلام وغيرها عن الصواب. وهذا أيضاً يحتاج إلى توعية الجماهير كي لا يقعوا ضحية التعمية والتجهيل.

وفيما تقدم إشارة صريحة منه (ر) لأكبر أخطار الدعاية والمتمثلة في إحتمال وقوعها في قبضة الرأسمالية المنحرفة، لأسر الإعلام، فتجنيده للدعاية المنحازة لمصالح مجموعات وشركات عملاقة... هذا الخطر الذي يهدد الإعلام ودوره مما قادَ البعضُ مؤخراً للدعوة إلى تأسيس السلطة الخامسة.

ثم ينتقل سماحته (ر) إلى تناول داء التعصب الإجتماعي الذي يمكن أن يؤثر على الجهود الملحة المتقدمة:-

قد يُبتلى الفرد بالمرض العضال مما يصعب علاجه، وقد يبتلى المجتمع بذلك - كما في أيام شيوع الطاعون مثلاً- كذلك قد يبتلى الفرد أو المجتمع بالمرض النفسي، ويُسمى بالتعصب الذي يُعرّفُ على أنه إنحراف في العاطفة بدون المنطق، ولذلك يصر المتعصب على ما في جانبه، وإنْ لَمْ يكن له دليل، ويرفض ما في جانب طرفه، وإنْ كان له دليل.

وإذا تجذرَ أو اشتد التعصب حتى صار الفرد أو المجتمع أو جماعة منه حساساً شديد الحساسية تجاه ما يذهب إليه، سمي ذلك بالعقدة: وكأن النفس انعقدت على ذلك الجانب بدون ملاحظة التوسط والحق، وقد أكدَ الإسلامُ في آيات وروايات، على إجتناب أمور كالتعصب والعقد، وتقدمت بعض النصوص في ذلك.

وننتقل إلى جماعات الضغط، وذلك للتأثير المتنامي لجماعات الضغط في الرأي العام عن طريق الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما واللقاءات والندوات والمؤتمرات، والذي دعا البعض إلى القلق الشديد، والتفكير والتنظير للحدِّ مِن التأثيرات السلبية لهذه الجماعات، والتي باتت مِن جهة تشل مِن حرية الممثلين الشرعيين ودفاعهم عن مصالح ناخبيهم، وتكبحُ الإعلامَ مِن جهة ثانية ومؤسساته وأجهزته مِن القيام بتأثيره المأمول في الرأي العام وبلورته وترشيده.

يقول سماحته (ر) عن الجماعات الضاغِطة:

وجِدت جماعات الضغط للتأثير في كل مِن الإتجاه الـمُجتمعي و الإتجاه الخاص للرأي العام، لما للإتجاهين من وزن وقيمة في سير دفة الأمور، فجاءت ولادة طائفتين مِن جماعات الضغط لما لإتجاه الأمة ككل في الحرب والسلّم، وإتجاه الإقتصاديين في زيادة الأسعار أو عدمه مِن تأثير:

1- الطائفة الأولى: مِن الجماعات الضاغِطة: تتشكل مِن الذين يريدون إنقاذ الأمة مِن الإنحراف الفكري، الذي سببه الجهل، أو التجهيل مِن أصحاب المصالح المنحرفة، وهؤلاء يضغطون على الإتجاه العام المنحرف كي يستقيم، ولا يُخدع بسبب المخادعين، فيسير في ضد مصلحة نفسه، ومثل هذه الجماعات تتشكل مِن المصلحين والمفكرين، وأصحاب العقول الحرة والأقلام النـزيهة.

2- الطائفة الثانية: مِن الجماعات الضاغطة: تتشكل مِن الذين يريدون إستغلال الناس، لأجل أهدافهم وأغراضهم، فإنهم يحاولون أحد أمرين:-

أ- أما تحريف الإتجاه العام، أو الخاص إلى جانبهم.

ب- أو فرض آرائهم على الناس.

وضغط كلتا الطائفتين (الأولى والثانية) يُمارس أو يكون بأسباب هي:

1- الوسائل الدعائية، حيث تحاول الجماعات الضاغطة السيطرة على وسائل الإعلام كالإذاعة والتفزيون والصحف والسينمات والمسارح، والكتب والدراسات وما نحو ذلك.

2- الوسائل الإقتصادية.

3- الوسائل الحقوقية.

4- الوسائل التخريبية.

وبناءاً على ما تقدمَ ربما أمكننا القول بأن سماحته (ر) يُعيد شرعية جماعات الضغط إلى شرعية أهدافها، ووسائل تحقيق تلك الأهداف، مؤكداً على محورية الإنسان وخدمته والدفاع مِن مصالحه، وما يُصلِحه، ويُفعِّل ترشيد الرأي العام في نفس الإتجاه، ومنه يُستكشف الموقفُ مِن العلاقة بين الدعاية والإعلام، ومِن الدعاية ذاتها، وما يُصرِّحُ به سماحته (ر) تحت عنوان (الإعلام الصحيح) يضع النقاط على الحروف:

ثم إن الإعلامَ لو كان لأجل الهداية إلى الحق والإرشاد إلى الصحيح، سميُ (تبليغاً) وإنْ كان لأجل التحريف والإضلال سمي (دعاية)، وإنْ هذه اللفظة تُطلق على الأول أيضاً.

وحيث صارَ العالم الحاضر منحرفاً عن طريق الله سبحانه، وبذلك جعل المحور الدنيا، لا الدنيا والآخرة - كما جعله الإسلام- راجت أسواق الدعاية بالباطل، وخرجَ الإنسانُ عن محورية الكون، لتصبح المادة محوراً، ولهذا نجد مآسي الإنسان في هذا العصر أكثر مِن مآسيه في كل عصر مضى.

وقد أتخذَ أصحابُ الباطلِ الدعاية سبباً لرواج بضاعتهم، والدعاية السيئة تُلبس الحقَّ بالباطل، وتُزيف الحقائق، وتستفيد مِن جهل الناس، فتحملهم الأباطيل في صور حقائق، سواء في العقيدة أو في العمل، أو في البضاعة، أو في غيرها، وأخشى ما يخشى منه الدعائي هو النور، حيث يظهر الزيفُ عن الواقع.

وهذا الأسلوب وإن كان قديماً، حتى إن فرعون كان يقول عن موسى (عليه السلام):

{إني أخافُ أن يبدل دينكم * أو أن يظهر في الأرض الفساد}، {ويريد أن يخرجكم مِن أرضكم بسحره}.

لكن كثرة الأدلة وتقدم الوسائل والأسباب سبب تقوية وتفعيل ذلك.

وعن الطريق لمواجهة الدعاية السئية وآثارها السلبية على الإعلام والرأي العام يقول (ر):

ولهذا كان اللازم على أصحاب الحق والفضيلة، أن يفتحوا الطريقَ أمام البحوث الحرة، ويهتموا بمختلف الوسائل لفضح الباطل اللابس ثوب الحق، ويكشفوا عن مواضع الإعلام الباطل، ومكامن الدعاية الزائفة، وبذلك يكون إنقاذ الضحايا.

ويستعرض سماحته (ر) بعض طرق التزييف الإعلامي (بالمفهوم العام للإعلام):

للدعاية المزيفة طرق كثيرة، وقد تمَّ تدوين كتب في هذا الشأن سُخِرت لها أقلام إجتماعية ونفسية وتربوية، وهنا نذكر جملة مِن الأساليب التي يتبعها أصحاب الدعايات الباطلة، وهي:

1- إستغلال مواضع الضعف عند الإنسان، مثل حالة المرض، والفقر والفوضى، وما أشبه، حيث أن الإنسان في هذه الأحوال هش النفس، سريع القبول، ولذا يشكلون مِن أمثال هؤلاء طابوراً خامساً لنيل أهدافهم.

2- إستغلال ضعاف الشخصية مِن الرجال أو النساء أو الأطفال أو المعوقين، للقيام بدور الدعاية، ثم النفوذ في المجتمع مِن طريقهم.

3- تسخير الألسنة المقبولة مثل إرشاء خطيب، أو مدرس، أو مذيع، أو إذاعة، أو صحيفة أو ما أشبه، لينشر في المجتمع ما يريدونه.

4- التأثير في المجتمع عن طريق التأثير على أقلام الأدباء، وأصوات الشعراء، وقرائحهم، إذْ الأدب والشعر أنفذ إلى المجتمع مِن غيرهما.

5- التوسل بمختلف الإغراءات، أمثال صور النساء البعيدة عن الحشمة، والكرامة الجسدية للمرأة وغيرها، وما للتصوير عموماً مِن تأثير كبير واضح للغاية، ولذا قيل في المثل: (صورة واحدة أنفذ مِن ألف كتاب).

6- تحري الجماعات لنشر دعايتهم، مثل جمعية خيرية، أو جمعية الرفق بالحيوان، خصوصاً إذا كانت الجمعية ذات عنوان براق وسوابق مشرقة.

7- اللّي في اللسان، كما قال سبحانه: {يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه مِن الكتاب}.

مثلاً: يخترع كلاماً، يشبه القرآن الحكيم أو الأحاديث الشريفة في الأسلوب، ليظن الجاهل أنه قرآن أو سنة، فيقبل الكلامَ، فيقول كما وردَ: (حشر مع الناس عيد).

أو يقول: (لا يوضع أحد في قبر آخر) يريد بذلك الإنسياق وراء الجهل، وعدم التعرض بالنقد والنصح والترشيد لسلوك الآخرين، حين يكون سيئاً.

8- التكرار، فيكرر كلامه، حتى يؤثر في السامع، فإن التلقين والإيماء بالتكرار لهما أثرهما الكثير.

9- خلط الباطل بالصحيح، حتى ينخدع السامع والقارئ والناظر بالصحيح الموجود في البين، فيظن أن كل ما يرى ويسمع صحيح... إلى غير ذلك من الأساليب.

وأما عن السبيل لمواجهة ذلك، ولاسيما لقوى الضغط المنحرِفة، التي تعمل على إختطاف حق إتخاذ القرارات مِن ممثلي الأمة مِن جهة، وتنشط مِن جهة ثانية لزج الإعلام في دهاليز الدعاية المظلمة، وذلك خدمة لمصالحها الذاتية الخاصة فيقول سماحته (ر) ما موجزه:

اللازم للوقوف أمام الجماعات الضاغطة المنحرفة العمل على:

أ- كشف تلك الجماعات للملأ، حتى ينفضح أمرهم أمام الناس، فلا يجدوا مجالاً للتستر والإفساد باسم الإصلاح، قال سبحانه:

{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض * قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون}.

ويلزم أن تتم عملية الكشف كماً وكيفاً في إطار الإسلام والإنسانية لا غير.

ب- تثقيف الناس بالثقافة الصحيحة حتى يعرفوا الزيف مِن غيره، فإن الجماعات الضاغطة إنما تتستر وراء الحق لترويج بضاعتها، فإذا إنكشفت الحقائق للناس، لم يبق مجال للظلام الذي يتلفع به الضاغطون.

ج- إيجاد حس الفحص والنقد في الناس، لئلا يقبلوا الشيء بدون التدقيق حوله، وقد بني الإسلام على العقل والبحث، وعدم الإنسياق وراء العاطفة، والتقليد أو الظن في محاكاة الثقافة والفكر وما نحو ذلك، قال سبحانه: {إن الظن لا يغني مِن الحق شيئاً}، {ولا تقف ما ليس لك به علم * إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}.

وحتى أن المشهور لزوم الدليل في أصول الدين، فلا يصح للمسلم أن يقبل إن الله واحد، أو عادل، أو أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي إلا بالدليل، ولذا ولِدَ علم الكلام.

فإذا قيل إن فلاناً رئيس مدى العمر، أو أنه أفضل مِن غيره، أو إن الإقتصاد الإسلامي كذا، أو أن اللازم للدولة جعل الدستور، أو....!! يلزم أن يسأل الإنسان لماذا؟

ولا ينفع أن تقول: للمتنسم أريكة الحكم: لماذا تفعل كذا؟

والحال أن الشعب غير مثقف، فإن الشعب غير المثقف هم الذي يُمكّنون له، بل اللازم تثقيف الشعب، كي لا يتمكن المتنسم أن يعمل حسب هواه...، ولذا قالَ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرّاً). فلَمْ يُخاطبْ الإمامُ (عليه السلام) في هذه الرواية القمةَ، وإنما خاطبَ القاعدة، إذ القمة حصلت على إمتيازات فلا يهمها بعد ذلك أي شيء.

ويخلص سماحته (ر) إلى القول بأن المشكلة في البلاد الإسلامية لا تكمن في الحكام فقط، بل المشكلة في الأمة نفسها أيضاً، لأنها ربيت على بعض الإسلام فقط، وهي الصلاة والصوم و...، وتركت بعض الإسلام الآخر، والذي يتمثل في:

1- الثقافة الحياتية الحية كالإجتماعية وغيرها، فقال (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس). وفي حديث آخر: (عالماً بأهل زمانه)، وفي وصف علي (عليه السلام): (كان والله بعيد المدى شديد القوى).

2- والسياسة، فلا يعرفون مِنها ما ينجيهم، وما يضع الحكام وأسيادهم عند حدهم.

3- والإقتصاد، الذي هو عصب الحياة، ولذا كان إقتصاد كل بلد، أما رأسمالياً، أو شيوعياً، أو مزيجاً منهما، ونهب خيراتهم متواصل.

4- وفهم خطط المستعمرين، وكيفية تغلغلهم في البلاد، وكيفْ يمكن التخلص مِنهم واقعاً، لا صورة.

وما دام هذا الجزء الآخر مِن الإسلام (المذكور في النقاط الأربعة أعلاه) مشلولاً، عاشَ المسلمون في ضياع.

* معهد الامام الشيرازي الدولي للدراسات

Siironline.org

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا