الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

   ملف العدد

المجتمع المحلي والمجتمع المدني*

جدلية الانتماء والولاء في العراق..

أ. د. قيس النوري*

المجتمع المحلي..

لعل أهم ما يميز المجتمع المحلي الكلاسيكي في العراق الدور المحوري الذي يلعب بناؤه القرابي في توجيه علاقات وأنشطة أعضائه، إلى جانب وحدة النسب وتماثل أسلوب الحياة والانتماء المذهبي وانسجام المصالح ونمطية السكن وشكل الزواج وبساطة القيادة.

ويتصدر الانتماء والولاء أولويات التطبيع الاجتماعي والنفسي والثقافي لأعضاء هذا المجتمع والجماعات الثابتة المماثلةله (Sprott،1958،pp24-34)، يرافق ذلك غرس القيم العشائرية وتعميق الالتزام الذاتي بتنفيذها، وهذا لاشك يغني المجتمع المحلي عن استخدام الرقابة الخارجية لضبط سلوك الأعضاء، ولو رجعنا إلى بداية تاريخ العراق الحديث للاحظنا كيف تعزز التآزر الداخلي للعشائر في ظل الخطر الخارجي الذي نتج من صراعاتها المستـــــــــــــمرة (Thesiger،1968،pp.185-188)، جدير بالذكر أن التركيب العشائري في العراق والعالم الثالث قد وفر مادة اثنوغرافية غزيرة للكتاب التطوريين والاستشراقيين الذين وضعوا الشعوب الآسيوية والأفريقية في خانة المجتمعات البدائية (Said،1991،pp.141-145).

وتوصف المجتمعات المحلية العشائرية بالمغلقة لرفضها قبول الغرباء بين أعضائها إلى جانب مقاومتها للأفكار الوافدة (Hallpike،wilmsen،2002)، ومع ذلك ظل الفلاحون يترددون على المدن- كما حدث منذ العصر السومري- لتبادل منتجاتهم الغذائية مقابل السلع المتوفرة في أسواقها (Redfield،1958،p.30) غير أن الريف العراقي ازداد تخلفا وعزلة في العهد العثماني لفساد الإدارة وتردي مؤهلات السلطة الحاكمة، وكان من الطبيعي في ظل تلك الظروف العسيرة أن تفاقمت روح التعصب الاجتماعي وازداد السحر والخرافة والجمود على القديم والخوف من التغيير، وعاشت تلك الجماعات حياة فقر وجهل شامل خصوصا بعد إقامة نظام الإقطاع مع بداية الاستعمار البريطاني وانتقال الهيمنة على أراضي العشائر إلى شيوخها.

إننا ندرك جيدا أن المجتمع المحلي هو البؤرة الأولى (بعد الأسرة) التي انطلق منها الانتماء في ابسط واقدم أشكاله، وقد ظلت الأمية الشاملة واسعة انتشر السحر والخرافة السمة الأكثر خطورة في الريف العراقي عموما، كل ذلك جاء نتيجة للعزلة وتواضع جهود الحكومات وإهمالها للريف، ولم يتيسر لسكان العشائر مستلزمات التوعية الوطنية كالحملات الصحية والإعلامية والثقافية والسياسية والاجتماعية. إضافة إلى عدم توافر دورات التأهيل المهني مما أبقاهم على حالة خطيرة من الركود والتخلف عبر الشطر الأكبر من القرن العشرين. وما تزال الأمية والفقر في القرى تنتظر الجهود التنموية الهادفة لرفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمواطنة هناك، وهكذا صار تخلف الريف عائقا وعبئا ثقيلا تنوء به الدولة ولعل اخطر ما في الواقع الريفي العراقي ضعف الوعي المؤسسي وتجاهل سيادة القانون وضمور الانتماء النفسي والفكري للدولة والمجتمع ككل.

وإذا كانت عملية التنمية الريفية في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي قد حققت قدرا محدودا من التغيير الايجابي، إلا أنها ضئيلة في المجالات الفكرية والاجتماعية حيث يهيمن التقليد العشائري الذي ينأى عن معايير الحداثة والتطور التي تركز على العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولعل واقع المرأة يتصدر مؤشرات هذا التخلف العشائري.

ولا مجال للشك أن أهالي الريف لا يعارضون التحديث التقني الذي يتضمن استخدام الجرار الآلي ومضخات المياه ووسائل رش المبيدات الزراعية والأدوات الكهربائية ووسائل الاتصال المرئي والمسموع والهاتف والثلاجات والمكيفات، ولكنهم يبدون خوفا وقلقا عميقا من التحديث الفكري والاجتماعي الذي يهدد القيم العشائرية المرتبطة بالأسرة والزواج ووصاية الرجل على المرأة وأنساق النسب وكثير من الممارسات العشائرية الأخرى، وبالرغم من التحولات التكنولوجية التي شهدها المجتمع المحلي خصوصا في المجال الزراعي والمنزلي، لكن تعصب الريفيين للتقليد العشائري بمضامينه الأخلاقية والطقوسية والاجتماعية المحلية ما يزال كبيرا.

ولعل من بواقي الثقافة العشائرية المعيقة للتقدم ازدراء بعض المهن والحرف الحضرية خصوصا الخدمية منها والتمسك بالعمل الزراعي وملحقاته، ولا يخفى أن هذه المواقف تعرقل جهود الحكومة في تأهيل المجتمعات المحلية وتقريب المسافة التقنية والفكرية والاجتماعية بينها وبين المدن تمهيدا لاندماجها في تيار التحديث والتقدم المجتمعي.

جدير بالقول إن النهوض بالمجتمع المحلي العراقي يواجه التحدي الرئيس الذي يتمثل في الرؤية الكونية العشائرية Worldview التي تفتقر للطموح وتكتفي بالحد الأدنى من متطلبات الحياة، وهي تتلخص في ستر العرض والشرف ونيل ما يكفي من الزاد لأفراد الأسرة والعشيرة، إلى جانب التركيز الذهني على ماضي العشيرة وتهميش المستقبل، واضح أن هذه الرؤية إلى الحياة تكاد تخلو من روح التحدي والمغامرة والانجاز المطلوبة للاسهام في فرص هذا العصر وتحدياته، ولعل المفارقة اللافتة للانتباه هي وجود هذا البون الفكري والاجتماعي والتنظيمي الشاسع بين المجتمع المحلي العشائري وما يعانيه من تخلف مذهل وبين المجتمع المدني العراقي بكل إمكانات التطور والنهوض.

وهكذا عاش سكان الريف العراقي ظروفا بالغة القسوة عبر قرون طويلة دون أن تتحرك الحكومات للتخفيف من بؤسهم، ونتيجة لتلك العزلة والحرمان نمت لديهم روح الشك والارتياب إزاء الحضر كما لم يحسنوا الظن بالحكومة التي قصرت بتأدية واجباتها نحوهم خصوصا ما يتعلق بفتح ما يكفي من المدارس ومراكز مكافحة الأمية والعيادات الصحية والتأهيل المهني، وتوفير وسائل الاتصال والمواصلات ومعالجة انتشار البطالة.

بالرغم من كل ذلك نمت علاقات الريف الخارجية بصورة خجولة من خلال المدارس النادرة والتجار الحضر القادمين إلى القرى لعقد الصفقات مع الفلاحين، وجولات الرسميين الخاطفة في القرى القريبة إلى جانب رحلات الفلاحين المتباعدة والقصيرة إلى المدن للتسوق أو لزيارة العتبات المقدسة أو مراجعة بعض الدوائر الحكومية، ولعل أهم التحولات التي حصلت في المجتمع المحلي دخول العملة المتداولة الحديثة التي ألغت نظام المقايضة ليحل نظام متبادل السلع بالنقود.

ولا نغفل الإشارة إلى موجات النزوح الريفي الواسعة التي دفعها الفقر إلى المدن- خصوصا العاصمة بغداد- حيث تشكلت تجمعات المهاجرين العشوائية في الضواحي، وكان لا بد لهؤلاء النازحين أن يبدؤوا رجلة التكيف الاجتماعي والنفسي والسلوكي لواقع المدينة الغريب عليهم مع الاحتفاظ بقسط كبير من ثقافتهم العشائرية. أما قوة انتمائهم القبلي فتظهر في تكتلهم السكاني وتعصبهم للنسب العشائري والتزامهم بحضور المناسبات الاجتماعية الخاصة بهم- الأفراح والمآتم والأعياد- وتحمل تبعات الديات التي يدفعونها عن جرائم القتل التي يرتكبها أعضاء عشائرهم. كما تبرز ميولهم العشائرية في التدخل في كثير من شؤون أفراد عشائرهم، خصوصا الإناث، والتشديد على مراعاة قواعد الزواج القرابي التي انكمشت تدريجيا، لكن تيار الحرية الفردية في المجتمع المدني ولد ضغطا متزايدا على البناء الاجتماعي العشائري لهؤلاء خصوصا بالنسبة للأفراد الذين سكنوا بعيدا عن مجتمعات أقاربهم واندمجوا بصورة متزايدة في المجتمع المدني (AL-Nouri،1998،p76).

 

المجتمع المدني..

من المسلمات الميدانية التي ترسخت في علم الانثروبولوجيا أن المجتمعات العشائرية المتواجدة في أنحاء العالم ظلت إلى زمن قريب تمثل نموذجا (بدائيا) للحياة البشرية وتأسيسا على هذه العمومية لابد من إدراك المسافة الزمنية والثقافية الكبيرة التي كانت تفصل بين هذا النموذج وبين المجتمع المدني الديمقراطي الغربي، لكننا نجيز لأنفسنا الحديث عن المجتمع المدني في بلادنا مدركين الرواسب العشائرية التي ما زالت عالقة فيه.

ومما يعقد مهمة الخوض في أعماق المجتمع المدني تعدد أشكاله وتباين درجات تقدمه بحكم تدرج المدى الواسع الذي تتوزع عليه تلك الأشكال، لكننا لغرض التبسيط نحاول التركيز على الملامح المركزية للمجتمع المدني العراقي التي تميزه بقوه عن المجتمع المحلي الريفي، وهي توفر الأرضية المطلوبة لمناقشة موضوع الانتماء والمواطنة بشكلها الجديد.

بغض النظر عن عملية التحضر عبر تاريخ العراق القديم (Schwab،1992،pp.112-113)، لقد بدأ المجتمع المدني العراقي رحلته الحضارية الحديثة- خصوصا في العاصمة بغداد- منذ انتهاء الحكم العثماني وتأسيس الدولة العراقية في عام 1921 وقد تخللت تلك المسيرة اتجاهات متجددة مثلت معالم نهضة العراق الحديث التي ترجح كفة المجتمع المدني فيها بوصفه نموذجا يستقطب النماذج العشائرية والقروية.

 

من أهم تلك الاتجاهات

* بروز وازدهار الإدارات المحلية التي تدرجت من ابسط الوظائف كالحارس الليلي ومراقب البلدية والشرطي والجندي والموظف الصحي، ثم ارتقت إلى مراكز الإدارات البيروقراطية التي يصعب حصرها وهي تتمثل بالوزارات وأقسامها المتخصصة الكثيرة، في كل هذه الإدارات جرى استبدال زعامات الشيوخ وما تضمنته من ولاءات وانتماءات بمراكز تقنوقراطية وسياسية ذات طابع مدني متخصص ولعل هذا التحول يمثل أهم طفرة في حركة التطور نحو الدولة الحديثة والمجتمع المدني.

* ظهور وتطور الأعمال المهنية والحرفية التي ترجع أصولها إلى العصور الوسطى، خصوصا فترة الحضارة العباسية المزدهرة لكنها أشرفت على الاندثار في العهد العثماني والتقطت أنفاسها مجددا مع بدء تشكيل المجتمع المدني الحديث، علما بان التطور التكنولوجي للمهن يسبق تطورها الفكري والاجتماعي بحكم عامل التخلف أو (التلكؤ الحضاري)

(Murdock،(pp.118-126) Cultural lag).

* انتشار المدارس الحديثة وبدء التدريس بالمناهج العلمية والتربوية.

* بدء ظهور بعض منظمات وجمعيات المجتمع المدني التي تكاثرت وازداد تنوعها.

* ظهور وتطور مفهوم الاحتراف وتحوله إلى مركب ثقافي Cultural Complex يحظى باحترام اجتماعي متزايد بدليل أن كثيرا من الحرفيين صاروا يتقلبون بأسماء مهنهم: كالنجار والخياط والبناء والمهندس والمعلم والبزاز والمدرس وعشرات غيرها.

* بزوغ بدايات متواضعة للديمقراطية وفي مقدمتها تحمل الحكومة مسؤولية حماية جميع المواطنين ومنح حرية اختيار العمل والتوظيف لهم دون ضغط أو تمييز يذكر وهذا تقلصت مساحة العيب مع تغلغل المعايير والقيم الحضرية الجديدة على حساب القيم التقليدية (Frankel، 1962، pp. 103).

* شجعت ظروف المدينة ازدياد الاختلاط بين فئات الشعب على الصعد الدينية والمذهبية والقومية في مختلف مجالات العمل والسكن والزواج والتنظيمات والصداقات.

* بداية يقظة المرأة ونمو فرص التعليم والتوظيف أمامها في مختلف مؤسسات الدولة إلى جانب إسهامها في بعض المنظمات العلمية والاجتماعية والصداقات.

* نمو تأثير النخب الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تعزز دورها القيادي بوصفها قدوة على طريق التحرر من العشائرية والانتماءات الضيقة.

* تطور المعايير الحضرية البديلة المناسبة لتقييم مراكز وأعمال الأفراد وفقاً لمستوى الإتقان المهنية دون رجوع للانتماء الفئوي.

* تعاظمت أهمية البيروقراطية وارتفعت مكانة الموظفين البيروقراطيين مع ازدياد أهمية المؤسسات الإدارية المدنية المتخصصة (Frankel، 1962، p.p.99-105)

* تغلغل الأثر العلمي والثقافي للجامعات والمعاهد العالية بحكم الاتصال والتفاعل المباشر بينها وبين المدن يعكس الأرياف التي ظلت بعيدة نسبياً عن ذلك التأثير.

* من المتوقع أن يفضي تفتت الروابط الاجتماعية وانكماش روح المحلة إلى حالة من الاغتراب في المدن الكبيرة، وهذا ما حصل في المجتمع الغربي (Henry، 1972، pp. 86-7) إلى جانب تضاؤل الرقابة العشائرية على حياة الأفراد مما عزز من حريتهم واستقلاليتهم.

* اتساع مجالات المنافسة بين الأفراد والجماعات وتصاعد الميول التجارية والنفعية بعكس أجواء التعاون ونكران الذات والتضحية التي كانت تشكل أرضية التفاعل الاجتماعي اليومي في المجتمع المحلي.

لا شك أن هذه الخصائص تؤشر ما تعرض له المجتمع المدني العراقي من تحولات أسهمت في ابتعاده المتزايد عن النموذج العشائري الريفي. ومع تنامي هذا التباين والتنوع أزداد جذب المدينة للنازحين الريفيين الذين تدفقوا عليها هرباً من الفقر وطلبا للعمل وفرص الحياة الأخرى. وهكذا تعاظمت أعداد هؤلاء النازحين ونمت معها فاعلية التفاعل والتثاقف التي شملت جوانب حياتهم كلها. ومن الطبيعي أن تتأثر- بين أمور أخرى- أنساق الانتماء

التي درجوا عليها في أريافهم لتقترب من استحقاقات الواقع الحضري والمدني الجديد.


* هذا القسم الاول من الدراسة عن المجتمع المحلي والمدني، وسيكون القسم الثاني الذي سننشره لاحقا يعنى بجدلية الانتماء أو الولاء

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا