الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

   ملف العدد

منـــــــــــظمـات المجتـمع المـــــــد نــــية

عادل احمد

(المفهوم - الوظيفة - آليات العمل)

 

منظمات، جمع منظمة، أي مؤسسة، بنية مؤسسيه، والعمل المؤسساتي يقوم على مبدأ العمل الجماعي، العمل كفريق، معتمدا على روح المشاركة والتعاون، نابذا العمل الفردي دون أن يمس أو ينقص من روح المبادرة الفردية التي تستثير وتحفز الآخرين على الانخراط التام بالعمل وتفعيله. وكونها مختصة بالمجتمع المدني في مقابل المجتمع الحكومي (مؤسسات الدولة بأنواعها المختلفة) فهي إذن تحيل إلى العمل داخل المجتمع ومن خلاله، ويصفها بعضهم بمنظمات المجتمع الأهلي؛ مع أن، صفة الأهلي كوصف للمجتمع هي صفة سابقة للمجتمع المدني، فصفة المدني مشتقة من المدنية – الحضارة. أي أنه يعكس تطورا اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا داخل المجتمع، ويحيلنا بالتالي ومباشرة إلى مساحة كلية هي الوطن، والى مكونه الأساسي، لبنته الأولى، المواطن، بينما المجتمع الأهلي يحيلنا إلى القبيلة – العشيرة – الطائفة – المذهب – المنطقة وكل ما يعيدنا إلى الحالات السابقة للمجتمع المدني، وهي الحالات التي تعتمد التكوينات والتشكيلات المغلقة على نفسها مهما حاولت الانفتاح على الآخر.

 في المجتمع الأهلي يكون ارتباط الإنسان كفرد بالمجتمع من خلال التوضعات والتكوينات التي أشرنا إليها، أما في المجتمع المدني فيكون ارتباط الإنسان بالمجتمع من خلال علاقاته الاجتماعية التي تتخطى العائلة والعشيرة والدين والمنطقة لتصبح علاقة مباشرة وندية تنتظم من خلال مؤسسات هذا المجتمع ومنظماته المدنية موضوع حديثنا هذا والتي يمكن أن تضم قائمة طويلة جدا من الأسماء المعبرة في جوهرها عن تجاوز المجتمع للمرحلة السابقة، وإذا ما أردنا أن نعدد بعضا منها يمكن أن نورد أسماء من مثل منظمات حماية البيئة ومنظمات الدفاع عن حقوق المستهلك، والجمعيات الخيرية وتلك التي تهتم بالمعاقين أو العجزة، ومنظمات النقابات (المستقلة بالطبع)، منظمات حقوق الإنسان والطفل والمرأة وجمعيات العمل الثقافي والفني والاجتماعي..الخ.

 مفهوم المجتمع المدني لا يزال ملتبس المعنى في بلادنا، السبب في ذلك يعود إلى أن البلدان المتخلفة عموما ومنها بلادنا لم تعرف هذا المجتمع وان شهدت بعض توضعاته هنا وهناك، ومع أن بداية القرن شهدت محاولات حثيثة وناجحة إلى حد ما. ترافقت هذه المحاولات مع عصر النهضة العربي وخاصة في بلدان مثل سورية ولبنان ومصر..ويعود هذا إلى تخلف البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عموما. أما لماذا لم يتطور هذا المفهوم وتلك المنظمات وتأخذ أبعادها وتصل إلى مدياتها، فلأن البنى السياسية والاقتصادية التي عرفتها هذه البلدان، وأساليب الحكم التي مرت عليها، أعاقت ذلك وحالت دونه من خلال الحجر على الحريات العامة وإلغاء الديمقراطية، فالاستبداد والقمع إضافة إلى التخلف والفقر يقود إلى تمزيق المجتمع وتفتيته وإعادته إلى البنى التقليدية السابقة.

 يتميز مجتمعنا المعاصر، وخاصة في بلدان مثل بلداننا، حيث الأوضاع الاقتصادية بالغة السوء، يتميز أو يتصف بأنه يميل، في تعامله مع تعقيدات الحياة المعاصرة وطبيعتها، ومن خلال الانغماس الكلي، الاستغراق، في الركض وراء تأمين لقمة العيش،كأن يعمل في أكثر من مهنة وفي أكثر من مكان لكي يستطيع تأمين الدخل الكافي له ولعائلته. الأمر الذي أدى به بالتالي إلى افتقاد العلاقات الاجتماعية مع المحيط الاجتماعي وحتى العائلي منه. ففي بناء يتكون من اثنتي عشرة شقة نجد أن التواصل بين سكان هذا البناء معدوم تقريبا، وان وجد ففي إطار النساء وخاصة ربات الأسر العاطلات عن العمل منهن، فهؤلاء لا عمل لهن يشغلهن عن زيارة الآخرين. وهذا النوع من العلاقات قاد إلى تفكك البناء الاجتماعي بدءا من خليته الأولى (الأسرة)، وأفقده روح التعاون والمشاركة والمؤازرة. وهكذا أصبحنا نفتقد العلاقات الحميمة للعائلات الكبيرة، والروح التعاونية لسكان المحلة أو الحي أو القرية.

 نتيجة لهذا، من الطبيعي أن يبتعد الناس (مجبرين) عن الاهتمام بالشأن العام في جوانبه المتعددة : الاجتماعية والثقافية والسياسية. إزاء ذلك، تصبح الحاجة إلى منظمات المجتمع المدني حاجة ماسة، لتلعب دور المنظم للناس واللاحم بينهم، وتتحول لتصبح الإطار والشكل الذي لا غنى عنه للحفاظ على وحدة المجتمع وتلاحمه.

 في مثال على إمكانية مثل هذه المنظمات والهيئات واللجان على لعب دور كبير في إنشاء التواصل بين المواطنين وإرساء نقاط ارتكازية للعمل والحوار بينهم نورد مثالين : الأول عن لجان حماية المستهلك، تقوم وظيفة هذه اللجان على الدراسة الميدانية للأسواق التجارية، ومراقبة معايير الجودة والصلاحية وذلك بفحص عينات في المخابر المختصة، وزيارة أماكن الإنتاج للإطلاع على آليات التصنيع أو الإنتاج، وكذلك مراقبة الأسعار، ثم تتولى زيارة المستهلكين إما في البيوت، أو في الأسواق نفسها لتقوم بعمليتين مزدوجتين،الأولى هدفها التعريف بدور مثل هذه اللجان ، والثانية تقديم كل الإرشادات التي من شأنها توفير السلامة للمستهلك وحمايته من التلاعب، وتقبل كل الشكاوى من المواطنين. في مجرى هذا النشاط يتحقق التعارف بين المواطنين وينشأ التواصل والتفاهم والحوار. أما المثال الثاني فهو منظمات ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان، فهذه الأخيرة وبعد إثبات موجوديتها وصدقيتها ستجد أن الناس وخاصة أولئك الذين يتعرض لهم ابن أو زوج أو أخ أو صديق، يبحثون عنهم بهدف إيصال المعلومة الصحيحة والخبر اليقين المتعلق بالموضوع. مثل هذا النشاط سيكسر من حدة التقوقع ويمد الجسور بين البشر،وإبان ذلك ستناقش مسائل كثيرة في مقدمها قضايا الحرية والديمقراطية وحق الرأي والتعبير.

 وإذا ما نجح المجتمع في تعميم مثل هذه التجارب وعمل على انتشارها وتوسعها لتضم إلى ميدان عملها كل جوانب الحياة وتعبيراتها، فانه سيكون قد قطع شوطا كبيرا في مضمار بناء مجتمع مدني قائم على مبدأ المواطنة، وعلى قاعدة الإنسان أولا وفوق كل شيء.

 فحين تكون المواطنة هي معيار الانتماء، حين تسود الحرية، وحين تعاش الديمقراطية واقعيا في حياة المجتمع، حين يشعر المواطن أنه يقبض على مصيره بيديه، وحين يصبح ذاتا حرة تملك الإرادة، وتملك حق الاختيار بين ممكنات متعددة على صعيد الفكر والسياسة والاقتصاد... في ذلك الوقت يمكننا أن نتحدث عن وجود مجتمع تخطى مرحلة المجتمع الأهلي ودخل مرحلة المجتمع المدني.

 منظمات المجتمع المدنية، هي مؤسسات تضم المنتظمين بها على أساس تطوعي واختياري، وهي كل في ميدان عملها تعنى بالشأن العام بدءا من البيئة والصحة وحماية المستهلك وصولا الىالاهتمام بالشأن الثقافي والسياسي والاقتصادي، وترمي إلى النهوض بالوطن وتعزيز منعته الداخلية وتقويته بوجه الخارج، كما ترمي إلى النهوض بالمجتمع ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، من خلال الاهتمام بقضايا الناس، كما في النضال ضد الشروط التي تؤدي إلى الفقر والبطالة والأمية، ومن خلال لعب دور ريادي أثناء الأزمات والكوارث الطبيعية وتلك التي يتسبب بها البشر أنفسهم.

 من صفات المجتمع المدني، أنه مجتمع تعددي، ووجود تعدد للأحزاب ذات الرؤى السياسية والبرامج الاقتصادية والاجتماعية المختلفة هي سمة عامة له.في مقابل ذلك، فان هيئات المجتمع المدنية ومنظماته هي دون الأحزاب سواء من حيث البنية أو الأهداف، دون أن يلغي هذا وجود أهداف مشتركة يمكن أن يتم العمل عليها بشكل مشترك. وفي كثير من الأحيان والحالات نجد بعض هذه المنظمات ينوس بين العمل المجتمعي (الذي وصفنا قسما منه) وبين العمل السياسي، وذلك نتيجة للشرط الواقعي الذي يعيشه المجتمع المعني، أو قد يتحول بعضها إلى بنية حزبية كاملة ومثال ذلك حزب الخضر في ألمانيا. ولكل من هاتين الوضعيتين ظروفها ومعطياتها الخاصة. ففي حين نجد أن الصفة الثانية والتي هي التحول إلى بنية حزبية لا تقوم أو لا يمكن أن تتم إلا في مجتمعات مدنية بالغة التطور لشعوب ودول أو مجتمعات امتلكت مشروعها النهضوي الخاص، وأرست دعائم دولتها، نجد الصفة الثانية - والتي هي النوسان بين العمل المجتمعي والعمل السياسي - هي الصفة الغالبة على كل المنظمات في المجتمعات المتخلفة (قبل المدنية) حيث يسود ما يمكن تسميته بالمجتمع الأهلي، وحيث الاستبداد وغياب الديمقراطية والسياسة من المجتمع هي السمات الغالبة على هذه البلدان أو المجتمعات (سورية مثالا).

 وهذا الأمر يدخلنا مباشرة إلى (الوظيفة) وظيفة هيئات المجتمع المدني. فنحن إذا أردنا الانسجام مع المفهوم العام لهذه الهيئات والمنقول إلينا من الغرب عموما، سنجد أن هناك ضروبا من التعارضات بين المفهوم والوظيفة الأساسية في بلدان منشأ الفكرة العامة، وبين مفهومها ووظيفتها وأهدافها على أرض الواقع في بلداننا، وسبق أن أرجعنا ذلك إلى شرط الاستبداد والقمع وغياب الديمقراطية في هذه البلدان. وعليه، ولكي نصل إلى مرحلة (نقطة) التوافق، عدم التعارض بين المفهوم والوظيفة والأهداف (المتعارف عليها على نطاق العالم) علينا أن نضيف إلى، نجدد، نلائم، نبيء هذا المفهوم والوظيفة والأهداف مع واقعنا وبيئتنا. إن حرية الرأي والتفكير والتعبير والنشر ليس من شأنها أن تسمح لانتهاج سلوك عدائي، في الكتابة والفن عموما،حيال المواطن الآخر، العقائد والأديان الأخرى، بغض النظر عن الأكثرية والأقلية، لأن من شروط الحرية احترام هذا الآخر المختلف واحترام عقائده ورموزه ومقدساته. وليست حادثة تناول الرسول العربي محمد (ص) بالتجريح في الدانمرك مؤخرا إلا مثال على التشوهات القائمة في بنية ثقافية أخرى، ينبغي ملاحظتها والاهتمام بها، فالحرية مسؤولية أولا وآخرا.

 علينا أن نعترف أنه لا يمكننا تجاهل السياسة لا كصفة ولا كهد ف لا عن عمل هذه المنظمات والهيئات ولا عن أهدافها ومن منطلق بسيط. فلكي تنشأ هذه المنظمات وتقوم بعملها لا بد أولا من توفر مناخ الحرية، لا بد للمجتمع أن يكون قد قطع أشواطا على طريق الديمقراطية والتعدد والإقرار بحق الاختلاف، وفي مجتمعاتنا التي يسودها الاستبداد كما أسلفنا، تتحول هذه الشروط لكي تصبح أهدافا؛ فالحرية شرط وهدف، والديمقراطية شرط وهدف، والتعدد شرط وهدف، وإقرار حق الاختلاف شرط وهدف وكذلك قيام المجتمع المدني شرط وهدف..الخ إن عملية التبادل والتفاعل بين الشرط والهدف هي التي تكسب عمل هذه المنظمات وتضفي عليه صفة العمل السياسي.

 هذه الصفة، العمل السياسي، تتأتى من الواقع المعقد والصعب الذي يعيشه المجتمع، فمن المعروف أنه في بلادنا وخلال العقود الأخيرة على الأقل، تمت مصادرة الفعل السياسي والحجر عليه، وبغيابه تم إقصاء الروح الوطني لدى الناس. وبالمقابل تم العمل على نشر آلية ضمت (الرشوة، المحسوبية، التعصب، سوء الإدارة، الفوضى، السرقة والاحتيال على القانون، وكل آليات الفساد والإفساد الأخرى) بحيث أصبحت هذه القيم بديلا وحيدا لمفهوم الوطنية وما يندرج تحته من صفات للمواطن الفرد أولا وللمجتمع عموما. في هذا المناخ انسحبت السياسة من المجتمع، غابت نهائيا، لأنها قمعت بقسوة. كان كل حديث أو إشارة حتى إلى مساوئ حكم الحزب الواحد، أو تلميح إلى الحرية أو الديمقراطية، أو ذكر لمواطن الفساد وسوء الإدارة، أو إبداء ملاحظة عن التناقض بين الواقع والمثال، أو بين المعلن والممارسة الواقعية، كان من شأن أي من هذا أن يحيل صاحبه إلى دائرة الوقوع في الممنوع والمحرم (السياسة) وبالتالي ونتيجة للقمع والملاحقة حتى لمجرد الاشتباه غابت السياسة، غاب الفعل الوطني، غابت الأحزاب أو انسحبـت إلى الزوايا الخلفية (ومما زاد في سلبية هذا الأمر، هو أن قمع السلطة أي القمع الخارجي بالنسبة للمواطن ترافق مع قرار مبطن بالقمع الداخلي نابع منه ذاته عبر فرضه رقابة ذاتية داخلية صارمة على أقواله وسلوكه)، ليبقى في المجتمع سيدا وحيدا هوا لسلطة الاستبدادية وأجهزة أمنها وأدواتها القمعية الأخرى، وليبقى الحزب الوحيد المسموح له بالعمل هو حزب الفساد ونهب المال العام وإفقار المجتمع (فرض هذا الحزب نفسه بلغة الحديد والنار ليتمدد وينتشر ويغطي مساحة الوطن عبر آلية أشركت الجميع تقريبا - إلا من رحم ربك - موالاة ومعارضة ومواطنين في أهدافه وممارساته).

 وعليه، فان وظيفة هذه الهيئات والمنظمات تكتسي طابعا مزدوجا، ثقافي وسياسي. ففي الجانب الثقافي هي معنية بنشر ثقافة الحرية، ثقافة التعدد والاعتراف بالآخر. بنشر روح المواطنة وتعميق مفهوم الوطنية والعمل الوطني. بتقديم الإجابات على الأسئلة المطروحة وتحديد المفاهيم المتداولة وشرحها من مثل مفاهيم : الوحدة الوطنية والسلم الأهلي وطرق تحقيقها، والإجابة على أسئلة الديمقراطية ووسائل الانتقال الكفيلة بالانتقال إلى المجتمع الديمقراطي ألتعددي. أما في الجانب السياسي فهي معنية بتحويل هذه الأفكار إلى واقع عملي معاش من خلال سلوك أعضائها ومؤيديها، من خلال تكوين بؤر إشعاعية تنتشر وتتوسع أفقيا بحيث تتحول لتصبح جزءا من نسيج المجتمع، وشكلا من أشكال تمظهراته التي يعبر من خلالها عن آرائه في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.

 هذه الوظيفة المزدوجة، لا تعني بحال من الأحوال، أن هذه الهيئات هي منظمات سياسية أو يمكن أن تتحول إلى أحزاب سياسية، فهذا أمر ليس في منطلقاتها ولا من أهدافها. وهذا ما يفتح الباب أمامها واسعا لكي تضم في صفوفها عقائد دينية متنوعة، ورؤى فكرية متعددة، وأشخاصا قادمين من أحزاب مختلفة، ولكن ما يجمعهم هو الشأن العام والعمل الميداني الذي يخدم التقدم والتطور، ويصب تلقائيا في خدمة مشروع نهضوي وطني. ولعل شعار عصر النهضة العربي الأول : الدين لله والوطن للجميع ؛ والذي رافق مرحلة التحرر الوطني، وساهم في نجاحها، لعل في هذا الشعار خير تكثيف لطبيعة هذه الهيئات وتوجهاتها. ونلفت هنا إلى أن أزمة وإشكالية " لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا " مثلا تعود في أساسها إلى عدم قدرة هذه اللجان على تمثل طبيعتها ووظيفتها والمزاوجة الناجحة بين هذه الطبيعة والوظيفة مع الهدف الأساس.

 بطبيعتها هذه، تصبح وظيفتها في المحصلة العامة، ليس الانتقال بالمجتمع ومعه، والانتقال بالمواطنين ومعهم، درجة أعلى نحو الارتقاء فقط، بل وكذلك تهيئة المجتمع وتحضيره كي يكون قابلا للعمل السياسي ومنخرطا فيه، مما يفسح في المجال أمام الأحزاب والتنظيمات السياسية لكي تعمل في مناخ يسوده التنوع، وبجو مشبع بالحرية، وبإنسان يمارس الديمقراطية والحوار عن وعي وإدراك. يمارسها كسلوك يومي، كطبيعة متجذرة في وجدانه وقناعا ته.

 أما آليات هذه الهيئات والمنظمات فهي عديدة ومتنوعة، وهي من الغنى بحيث أنها نفسها تدل على طرائق وأساليب جديدة على الدوام. ولكي نكون أكثر وضوحا، سنتخطى الحديث عن المنظمات المختصة بحقل واحد أو ميدان معين، كمنظمات حقوق الإنسان أو منظمات البيئة مثلا، لنتحدث عن منظمات جامعة لعدد متنوع من ميادين العمل والنشاط. إن هيئة تضع في برنامجها أنها ستعنى بالشأن الوطني العام، وبالشأن الثقافي والفكري والحوار الديمقراطي، بالعمل على تمتين روابط الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، كما ستعنى بالشأن الاجتماعي من رحلات وسهرات ومشاركة الناس في همومهم اليومية، والتصدي لمظاهر الفساد وآلياته، كما ستعنى بالشأن الاقتصادي وستقف دائما إلى جانب الفئات المسحوقة في المجتمع.... إن برنامجا من هذا النوع يتيح مساحات واسعة للتحرك والنشاط وبعث الحيوية في المجتمع. وخاصة إذا كان فهم هذه الهيئات قائم على إدراك المعوقات التي تقف في وجه تقدم المجتمع وتطوره من مثل فهم العلاقة بين الاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية، أو فهم الكم الهائل للكبح الذي يمثله التدخل أو الضغط الخارجي لمشروع نهضوي ولفكرة الحرية والديمقراطية.

 وقبل أن نختم، ينبغي الإشارة إلى المحاولات التي لا تتوقف والتي تقوم بها جهات ومؤسسات غربية لاختراق هذه المنظمات وبالتالي وعن طريقها اختراق المجتمع العربي ثقافيا وسياسيا بهدف إضعافه وتطويعه لكي يلتحق به وينضوي ضمن المشاريع الكونية لطعم المال والاقتصاد والإعلام. وهنا تكمن مخاطر انحراف هذه الهيئات والمنظمات عن أهدافها ومقاصدها لتتحول إلى وسيلة من وسائل النيل من الثقافة والهوية، وتصبح حصان طروادة في مجتمعنا العربي. إن مثل هذه المحاولات ينبغي أن تكون مكشوفة للمشتغلين في هذا الميدان، والذين عليهم ألا يغتروا بيافطات المساعدة المادية أو المعنوية، بل ينبغي أن تكون علاقتهم بالآخرين علاقة ندية، وأن يتمسكوا بمبدأ الاستقلالية الكاملة، وأن يرفضوا كل الإغراءات المادية أو المقدمات التي تقود إليها (المنح، الجوائز..الخ).

 أخيرا، ربما يشكل العمل على / ومن خلال هذا النوع من الهيئات والمنظمات تعويضا عن/ وبديلا مؤقتا لعمل الأحزاب في الواقع الراهن، حيث العزوف عن العمل السياسي والحزبي على أشده بسبب من العقل الاستبدادي المهيمن على السلطة ومن خلالها على المجتمع، وعلى الثقافة والفكر. وهنا يصبح الهدف المتمثل بنشر ثقافة الحرية والمواطنة والديمقراطية، هدفا ساميا وملحا، وضرورة لهزيمة وإلغاء الأسباب والمعوقات التي تقف حائلا أمام قيم الحرية والتقدم الإنساني.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا