الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

المحافظون الجدد وترسيخ بنية العنف في العلاقات الدولية

سعد سلوم

مصطلح لقائمة مغلقة مفتوحة!

منذ أحداث الحادي عشر من أيلول والى يومنا هذا أخذت أجهزة الإعلام والمراقبين والمتشككين والمنظرين والمؤامراتيين يلوكون مصطلح النيوكونز (المحافظين الجدد) وهم يذهبون في تعريفهم مذاهب شتى بل ويركنون إلى الأساطير والتأويلات وتتضارب آراءهم حول هذه المجموعة التي يلفها الغموض رغم إنها باتت تحت اسطع الأضواء!

فهل النيوكونز: تعبير سياسي فلسفي على قاعدة دينية منبثقة من الفكر الأصولي الإنجيلي،؟ أم أنهم مجموعة متشددة في الحزب الجمهوري، أو لوبي يميني متطرف، أو جماعة حول الرئيس بوش أو طرح سياسي برنامجي معلن؟ أم تراهم إذا ما أنسقنا وراء نظرية المؤامرة، جماعة شبه سرية، التقت بطريقة الجماعات الماسونية وظلت تعمل بصمت ماكر خارج الدوائر الرسمية وبعيدا عن أعين الجمهور المتشكك منذ ربع قرن حتى جاءتها الفرصة الذهبية لتقود انقلابا في التفكير والسياسة الأمريكية وتقبض على مفاصل السلطة ومن ثم تتزعم العالم وتؤسس لفكرة الإمبراطورية الكونية الجديدة.

وقائمة هذه الجماعة تطول أو تقصر حسب الأضواء المسلطة وحظهم في تفعيل أفكارهم، فهي تشمل: (ايرفنغ كريستول) الناشط في المعهد الأمريكي للمشاريع، احد ابرز معاهد المحافظين الجدد. بل انه يعد عرابا للنيوكونز. و(ديك تشيني) الذي شغل منصب نائب الرئيس، وكان عضواً في الكونغرس ورئيساً لموظفي البيت الأبيض ووزيراً للدفاع في عهد بوش الأب وهو أقرب الناس وأكثرهم تأثيراً على الرئيس بوش الابن. (دونالد رامسفيلد):شغل منصب وزير الدفاع - وعمل مديراً لمكتب الفرص الاقتصادية عام 1969 في عهد نيكسون وكان عضواً في الكونغرس ورئيساً لموظفي البيت الأبيض. و (بول وولفوفيتز): شغل منصب نائب وزير الدفاع وهو المفكر الاستراتيجي والمنظر القيمي الذي يمد رامسفيلد بالرؤى الكبرى التي يمكن أن يبني أفكاره عليها، ومهندس مبدأ الضربة الوقائية المعروف. و (لويس لبي): مساعد ديك تشيني- ويعتمد عليه بشكل كبير في تنفيذ رؤاه التي يمكن أن يبني عليها أفكاره السياسية. (وليام كريستول):رئيس الدعاية العامة لحزب الحرب في إدارة جورج دبليو بوش، ألان كيس:تولى منصبا في وزارة الخارجية في عهد ريغان. كلارنس توماس:قاضي المحكمة العليا. وزير العدل (جون أشكروفت) وأ. لويس (سكوتر) ليبي:رئيس الأركان وكبير مستشاري الأمن القومي لدى نائب الرئيس تشيني، اليوت ابراهامز:المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البنتاغون، فرانك غافني: ترأس مركز سياسة الامن، وقع إعلان مبادئ مشروع القرن الأمريكي الجديد وهو من المؤيدين لإسرائيل بقوة. وكين أدلمان: عضو مجلس سياسة الدفاع. وستيفن كامبوت: شغل منصب وكيل وزارة الدفاع للاستخبارات. وريتشارد بيرل: شغل منصب رئيس مجلس السياسة الدفاعية وهي الهيئة الاستشارية لوزارة الدفاع. ولين تشيني:وهي مؤرخة وباحثة وزوجة ديك تشيني وكانت قد ترأست بين عامي 1986-1987المؤسسة الوطنية للإنسانيات. وغاري شميت: المدير التنفيذي لمشروع القرن الأمريكي الجديد. وغاري بور:رئيس مجموعة القيم الامريكية. وابرام شولسكي: مدير مكتب الخطط الخاصة في البنتاغون. وجيمس وولزي: شغل منصب الرئيس لوكالة الاستخبارات المركزية.... و غيرهم.

لغز الانبثاق

وهؤلاء النيوكونز (المحافظون الجدد) الذين جاء غالبيتهم من خارج صفوف اليمين الاميركي حيث قدموا من صفوف اليسار التروتسكي والتجمعات الليبرالية، وتعود معظم اصولهم العائلية الى دول اوروبا الشرقية، كيف حدث أن أصبحوا محافظين؟ ومن ثم نيو محافظين!حيث يسأل إيرفنج كريستول، احد ابرز وجوه النيوكونز مشيرا إلى ملازمة هذه الصفة له:نيو ماركسي، نيو تروتسكي، نيو اشتراكي، نيو ليبرالي، وأخيرا نيو محافظ!

وهناك العديد من المقاربات حول ولادة النيوكونز (المحافظين الجدد):

1- يذهب (سكوت ماك كوينل) أنهم ولدوا فعلا اثر نقاش مفصلي بينهم وبين المحافظين التقليديين عام 1965 حول قانون الهجرة وهو النقاش الذي كشف تأثيرات الخلفيات الفكرية المختلفة للفريقين حيث أصبح مقال حمل عنوان (أوان إعادة التفكير في الهجرة) مادة لجدل هائل بين الفريقين انتهت بتبلور الأرضية التي تطورت فيما بعد الى ظهور مجلتي (ذي ناشونال ريفيو) و(ويكلي ستاندرد) الاميركيتين.

2- وهناك رؤية تتبناها (اللوموند دبلوماتيك) تذهب إلى أن ولادتهم جاءت في السبعينيات حين تمكنت هذه المجموعة من الإطاحة بسياسة الانفراج وإقصاء مفهومي الاحتواء والتعايش المسلح اللذين طورهما (جورج كينان) أثناء الحرب الباردة (1).

3-لكن هناك من لا يغفل النظرة إلى (المحافظين الجدد) كقصة يهودية أمريكية بدأت في مكان آخر، وتحديدا في أوساط نيويورك الفكرية اليسارية، حيث كانت الماركسية في الخمسينات بالغة التأثير، وكي يميز هؤلاء المثقفون اليهود أنفسهم عن (الماركسية - الستالينية) ويعلنون اختلافهم عنها، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي حيث كشفت الكثير من فظائع ستالين، وحدثت انقسامات عديدة داخل الأوساط اليسارية الأمريكية، وتحولوا إلى (التروتسكية)، ليصبح الصراع ضد الاتحاد السوفييتي هو الأولوية في نظرهم، وخاصة أن هذا الأخير كان قد دخل في مواجهة داخلية مع (منشقيه اليهود)، كما كان يمنع هجرة اليهود السوفييت إلى الخارج، وقد تضامن (المحافظون الجدد) منذ ذلك الوقت مع هاتين الموضوعتين، كما اختلفوا مع بقية اليسار الأمريكي الذي بدا بعضه يندد بالصهيونية وبالاحتلال وبالسياسات الإسرائيلية. هؤلاء (التروتسكيون) اليهود، انشقوا عن (الحزب الديمقراطي الأمريكي)، الذي كان ينتمي معظمهم إليه، ومنذ ذلك الوقت، وحتى اليوم سينعش هؤلاء الخارجون على اليسار المتطرف، أفكار اليمين المتطرف، وسيعني اسم المحافظين الجدد بالتالي هذا التزاوج غير المقدس بين اليهود المنشقين عن الحزب الديمقراطي في أواخر الستينات ومطلع السبعينات، وبين المحافظين المتطرفين حاملي افكار (جولدووتر) ومدرسة (فتيان شيكاغو) في الحزب الجمهوري، ليتعمد هذا الزواج لاحقا بالتحالف مع البروتستانتيين الأصوليين المتعصبين الذين كانوا في حالة حرب مع اليهود، عندما كان الحزب الديمقراطي المدافع عن حقوق هؤلاء، كما بقية الأقليات والملونين والفئات الاجتماعية المغبونة، في وجه (هيمنة التعصب المسيحي) (2). ويعزز هذا الرأي اعتراف بول وولفويتز بإن هذه المجموعة تتكون من الأحفاد المباشرين للهولوكست وصعودهم تزامن مع صعود الحديث عنها في الولايات المتحدة في الستينيات لاسيما بان أواخر الأربعينيات والخمسينيات لم تأخذ فيها هذه القصة الحجم الذي أخذت في أوروبا في تلك الآونة(3).

شتراوس فيلسوف التدمير الخلاق

ويربط الكثيرون تبلور الجماعة كظاهرة على يد الفيلسوف اليهودي الأمريكي من أصل ألماني ليوشتراوس الذي ولد في العام 1889 في ألمانيا وعاش فيها حتى العام 1937م، ثم انتقل في هذا العام إلى أميركا قبل الحرب العالمية الثانية وعاش حتى العام 1973م، ويعد هذا المفكر واحدا من أهم شراح هوبز وأفلاطون من وجهة النظرية السياسية. فكان مؤرخا لأفكار هذه النظرية بين القديم والحديث. وقد خص هوبز بدور المرجع الأول لليبرالية، الانغلوأمريكية تحديدا، وقد عمل شتراوس بعد وصوله للولايات المتحدة الأمريكية أستاذاً للفلسفة في جامعة شيكاغو بعد أن كان قد شهد بشكل ملموس ما أسماه انهيار الديمقراطية البرلمانية الألمانية على يد النازيين والشيوعيين في آن معاً، ولذلك حقد على الأيديولوجيات التوتاليتارية حقداً شديداً وقال إن صراعاً حتى الموت أصبح مفتوحاً بين الديمقراطية وهذه الأيديولوجيات، (لنلاحظ هنا بذور أطروحة فوكوياما) ووصف هذا الصراع بأنه صراع بين الخير والشر وهو ما طبقه ريغان بخصوص الاتحاد السوفياتي الذي سماه إمبراطورية الشر، وبوش الابن الذي كرس كل جهوده لمحاربة ما أسماه محور الشر وبالتالي شنُّ حربٍ عسكرية وممارسة ضغوط سياسية على منطقة الشرق الأوسط بوصفها حسب وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية (بؤرة الإرهاب الشرير) (4) وبعد الاكتشاف العجائبي لهذا الفيلسوف من قيل النيوكونز أخذوا اليوم يتذرعون بالهوبزية، حسب ترجمة شتراوس لها (لا سيما كتابه الفلسفة السياسية لهوبز) بما يؤول بالمنطلقات النظرية للواقعية الانكلو أمريكية الى نسج ايديولوجيا للنظر والعمل معا. ويراد لها أن تؤسس استراتيجية شمولية تعتمدها أكبر (قوة دولتية) يشهدها العصر (5). بالإضافة لذلك تنادي الشتراوسية لمجموعة من الأفكار العامة ذات الصلة بالسياسة الأمريكية الحالية (6):

- رفض الحداثة وتفضيل المنطق على التفكير.

- استعمال الكذب والخداع للمحافظة على السلطة.

- فرض الدين على الجماهير وإبعاده عن الحكام.

- استعمال القوة لكبح العدائية لدى البشر من خلال دولة قوية كابحة.

- الإيمان بالريادة الأمريكية الخير.

وحين كانت الحرب الباردة على أشدها، كان شتراوس يدعو إلى عسكرة الديموقراطية. كان يقول إن الديموقراطية لا تكون قادرة إلا إذا كانت قوة عسكرية باطشة. وكان يدعو إلى زيادة تسلُّح الولايات المتحدة وإلى رَصْدِ جميع الإمكانات المتاحة للسلاح. فالحرب، في رأيه، تُربَح بالردع قبل أن تبدأ العمليات العسكرية والمعارك. وكان شتراوس يقول إن على الديموقراطية أن تستغل كلَّ طاقاتها لتحقيق أهدافها. وقد برَّر وجود سلطوية مطلقة وديكتاتورية فاشية. هكذا يلتقي الضدُّ في مبادئه ضدَّه

وعلى أساس هذه الأفكار، عمل مايكل لادين، أحد (الخبراء) في فلسفة ميكافيلي السياسية والعامل في مركز American Enterprise Institut.

فأصدر كتابًا عام 1972 سمَّاه الفاشية العالمية، دارسًا الفاشية الإيطالية. وكان يحلو له التمييز بين (الحركة الفاشية) و(النظام الفاشي): النظام ديكتاتوري؛ أما الحركة ففيها تكمن الطاقة على التغيير. أي أن الحركة الفاشية تلغي القديم، تمحوه لتظهر العناصر الدينامية الجديدة. ومن هنا راح يدعو إلى حركة جديدة - فاشية بالطبع - لا تظهر في بلد واحد، بل في العالم كلِّه. وعلى الولايات المتحدة أن تكون العامل الذي يحرِّر دول العالم كلَّها من الأفكار القديمة. فهذا دورها في (الثورة) المقبلة، أو في ما سمَّاه (التدمير الخلاق)، الذي أوجَزَه على النحو الآتي:

التدمير الخلاَّق غايتنا في بلادنا وفي العالم. علينا أن نهدم النظام القديم، كلَّ يوم، وفي الميادين كلِّها، من التجارة إلى العلوم فالأدب فالفن فالسينما فالسياسة والقانون. كان أعداؤنا، على مدى التاريخ، يكرهون هذه الزوبعة من الطاقة والخلق، لأنهم رأوا فيها تهديدًا لعاداتهم وتقاليدهم (مهما كانت)، ولأنها تجعلهم يشعرون بالعار لعجزهم عن مواكبتها. وما إن يدركوا أن أمريكا تخرِّب مجتمعاتهم التقليدية يخافون منها، إذ لا يريدون ذلك. فهم لا يشعرون بالأمن لمجرَّد وجودنا؛ مجرَّد وجودنا، لا سياستنا، يهدِّد شرعيتهم. لذلك يهاجموننا كي يستمروا على ما هم عليه. لذا علينا أن ندمِّرهم كي ندفع إلى الأمام مهمتنا التاريخية (7).

ريغان وتدمير إمبراطورية الشر

في الثمانينات، وفي عهد إدارة رونالد ريغان (1980-1988) لعب النيوكونز الذين كانوا من الحزب الديمقراطي، ثم انضموا إلى الحزب الجمهوري دوراً سياسياً مهماً، حاثين إدارة ريغان على استعمال شدة أكثر قسوة مع الاتحاد السوفياتي من أجل إسقاط النظام الشيوعي هناك. وقد كانت المكارثية كأداة قد شغلت حيزاً مهماً في عملية التشكل الإيديولوجي في حقبة الحرب الباردة وسيشهد هذا التوجه إحياءً بعد ضمور، في عهد الرئيس الأمريكي الجمهوري والمكارثي النشأة رونالد ريغان (1981-1989) ليشكل عهده منعطفاً جديداً في السياق ذاته على مستوى العلاقات الخارجية، وانطلاقا من إيديولوجيا صراعية ذات نكهة دينية واضحة. وهو العهد الذي شهد الحضور الأهم للنيوكونز في إي إدارة أميريكية ومنحهم فرصة إعادة منهجة خطابهم وأجندتهم التي شغل (القضاء على الشيوعية) أولى أولياتها كمقدمة لسيادة نظام عالمي جديد تحكمه الإمبراطورية الأمريكية واستعيدت مفردات خطابهم الإيديولوجية الدينية. وفي خطابه الشهير أمام مجلس العموم البريطاني عام 1982 وصف ريغان الإتحاد السوفياتي بأنه (إمبراطورية الشر) التي على الولايات المتحدة وحلفائها باعتبارها إمبراطورية الخير أن تهزمها. وهو ما انعكس على شكل سياسة أمريكية جذرية حول العالم وفي الفضاء، من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأقصى والكوريتين مروراً بالشرق الأوسط، وشمال أفريقيا (أفغانستان، الحرب العراقية - الإيرانية، لبنان، ليبيا) وانتهاءً بأميركا اللاتينية (نيكاراغو) ليزيد هذا من حجم الإنفاق العسكري (35%). وهو إلى ذلك سيعلن ما سماه الحرب على (الإرهاب الدولي). المهمة التي سيستكملها نائبه وحامل أرثه جورج بوش في عهده الرئاسي (1989-1993) الذي سيتزامن مع السقوط المدوي للخصم الإيديولوجي مما سيفسح المجال أمام النيوكونز ليقدموا هذا السقوط على أنه نصر تحقق نتيجة سياستهم وأيدلوجيتهم مثل (وعد توراتي)، في حين سيعلن بوش (النظام العالمي الجديد) وفق رؤية يمينية مبشراً بحقبة الإمبراطورية الأميركية، في ما أعتبر لحظة تاريخية ثانية تفوت الولايات المتحدة للعودة إلى المدرسة الجفرسونية (نسبة لجفرسون) حيث تنشر الولايات المتحدة قيمها من داخل الحدود وليس من خارجها برفاهها ونجاحها كدولة رعاية، تحد من تدخلاتها الخارجية وما يترتب على ذلك من مخاطر والتزامات متزامنة، وفق تصنيف والتر راسل ميد للمدارس السياسية الأربع في الفكر السياسي الأمريكي في كتابه اللافت (Special providence 2003). إلا أن التصور الجفرسوني أستبدل بتصور أكثر جذرية ويذهب إلى حيث رمى الخطاب اليميني في مساره الغائي ألا وهو إقرار الإمبراطورية (8).

فلسفة الأواني المستطرقة

يشير ميشال بوغنون في كتابه الخطير والذي ترجم حديثا للعربية (أمريكا التوتاليتارية، الولايات المتحدة والعالم إلى أين؟) إلى استراتيجية الهيمنة وأيديولوجيا التوسع الأمريكية وذلك من خلال رؤية تحليلية ثاقبة، ويتناول في احد الفصول الهامة في الكتاب فن صناعة الرأي العام ودوره في قولبة التفكير وتنميط المواقف، والتزوير، الذي مارسته الولايات المتحدة كفن كبير، باحتراف وتقنية عالية. وهو يعتبر أن النجاح الأول لها كان في مجال الاتصال والأعلام وهي مدينة بذلك إلى خبرة طويلة في مجال الإعلان، واحتكار كبريات وكالات الصحافة الدولية وقوتهم المالية، وبالطبع إلى سلبية الأجهزة الإعلامية الموازية في مجمل العالم. ومنذ أن أصبح التلفزيون أداة مثاقفة قوية، وهوليود صاحبة مدافع إعلامية (عابرة للقارات)، أصبح نمط الحياة الاستهلاكية الأمريكية قابلا للتصدير، وبلا منافس جدي يحمي العقول من التزوير والقولبة والتنميط مما خرب الذوق، وهو ما أشار إليه فيليب سولر في كتابه (حرب الذوق) الصادر عام 1995 (11).

وقد استوعب النيوكونز مبدأ أساسيا، وهو:أن (الأفكار لها نتائجها). وقد كانوا يؤمنون بأنه ينبغي دوما البدء بتغيير الوضع السائد فكريا، وان يكون انتشار الأفكار سابقا لتأثيراتها في حياة الناس، ولا بد إذن من تمكين أولئك الذين ينتجون الأفكار وينشرونها بين الناس من القيام بذلك في ظروف حسنة، وهذه هي أهمية مراكز البحث والتفكير المستمرة حتى اليوم، والتي يسيطر على أهمها وأكثرها قدرة على التأثير، النيوكونز. بل أن هيئات التفكير، شكلت مع الحكومة الأمريكية ما يشبه (الأواني المستطرقة) فوفرت ملجأ دائما لمثقفيهم الذين كانوا يعملون في الحكومة أثناء حكم الجمهوري ريتشارد نيكسون، وخلال حكم الديمقراطي جيمي كارتر، ليعودوا بعد ذلك مسؤولين في إدارة الرئيس ريغان وجورج بوش الأب، ثم يلجؤون مجددا إلى (هيئات التفكير) لمتابعة (نضالهم) أثناء ولايتي الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، ليعودوا مع جورج بوش الابن إلى أهم مواقع التأثير في القرارين الداخلي والخارجي في الإدارة الأمريكية الحالية (12).

بل إن هناك من يذهب إلى إن الأفكار المحركة للقرار الأمريكي اليوم هي ذلك السيل المتدفق من مؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية فعلى سبيل المثال فان احد هذه المراكز (مركز دراسات المشروع الامريكي) هو الذي صك واشاع تعبير (الدول المارقة) وخطورة هذه القضية تظهر عندما نعرف بأن أهم الأسماء من النخبة الامريكية الحاكمة هم نجوم هذه المراكز:فرونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس هما من نجوم مركز (هوفر) للدراسات الاستراتيجية وإن تشيني وكذلك زوجته كلاهما من نجوم مركز دراسات المشروع الأمريكي كما أن ريتشارد بيرل (امير الظلام) هو أكبر داعية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بدءا من الحرب على العراق. وأن أحدا لم يعد في مقدوره ان يناقش ان هذه المراكز أصبحت بذاتها (حكومة الظل)في أمريكا بل وتأكد أنها الحكومة الخفية الحقيقية التي تصوغ القرارات السياسية وتكتبها ثم تترك مهمة التوقيع للرئيس وكبار معاونيه في الإدارة! (13).

وقد يصح وصف نجوم النيوكونز الاستراتيجيين (بالمنظرين الميتاستراتيجيين) إذا ما استعرنا المصطلح الذي اقترحه (فتحي التريكي)حيث أصبحت الاستراتيجية العسكرية على يدهم خاضعة لميتافيزيقيا الحرب (الميتاستراتيجيا): إن الميتاستراتيجيا تحدد معقولية الحرب من حيث هي عملية ضرورية للمصلحة التي تحددها مجموعة من البشر لنفسها. وهم بذلك لم يتركوا للمثقفين تحديد النسق التفكيري والقيمي المصاحب للحرب بل ضموا هذه (الميتاستراتيجيا) الى الحقل العملي الإجرائي للاستراتيجيا نفسها، فأصبح بذلك العسكري هو المدبر للحرب والمبرر لها والماسك بزمامها بل أصبح هو العسكري والمثقف في الآن نفسه!وهذه ما حصل في الحرب ضد العراق حيث أصبح الجنرال هو المفكر والمدبر والراسم لا للعمليات الميدانية فقط بل وأيضا للنسق التفكيري والقيمي. أي للميتاستراتيجيا (14).

المتلاعبون بالعقول

وقد كانت الأرضية مناسبة لهيمنة النيوكونز ما داموا يتحكمون بوسائل الإعلام وكان رهانهم على ما يسمى العجز الثابت في الذاكرة الأمريكية السريعة النسيان لأمور لا تخصها مباشرة، كما على قدرة التنظيم في صفوفهم ونجاحهم في اختراق وسائل الإعلام للتأثير في العقلية الأمريكية. فالفرد الأمريكي سهل التسيير في رأي نخبة النيوكونز، وبالتالي فإن ما يسمى الرأي العام يمكن تجييره واحتكاره (15).

ومن اهم المجلات التي يستغلونها لترويج سياساتهم (16):

 National Review Commentary

 New Republic

 Weekly Standard

 Hudson Institute

 Heritage Foundation

 American Enterprise Institute

بالنسبة لعالم السياسة (ستيفن واين)، الأستاذ بجامعة جورج تاون بواشنطن، يتوفر النيوكونز على الفعالية المطلوبة ويتفوقون على مجموعات اليسار الأمريكي بخصوص إعداد الاستراتيجيات وفي كل شيء يساعد على نشر المعلومات نحو الرأي العام ووسائل الإعلام التي من شأنها أن تؤثر على الكونغرس الأمريكي. في سنة 1998 وحسب دراسة نشرتها جمعية مراقبة وسائل الإعلام كانت أكثر من نصف المعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام من إنتاج مجموعات التفكير التابعة للنيوكونز، مقابل 16 في المائة من مجموعات التفكير اليسارية، إلا أن تأثيرهم سرعان ما شهد ارتفاعا غير مسبوق خلال فترة رئاسة جورج بوش، غير أن مجموعات التفكير اليمينية استفادت من دعم ومساندة المؤسسات والأثرياء الأمريكيين المحافظين. خلال السنوات الأخيرة، ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية عشرات المؤسسات التي كانت تشتغل بشكل تشاوري من أجل رسم الخط السياسي لفائدة واشنطن. إضافة إلى وجود مكثف في وسائل الإعلام، أصبحت مجموعات التفكير اليمينية تشكل مزرعة لتفريخ المستشارين السياسيين (17).

وهناك مؤسستان (هيئات تفكير) يشرف عليهم النيوكونز، ومن خلالهما يحررون أفكارهم ومخططاتهم (18):

1-مجلس سياسات الدفاع التابع لوزارة الدفاع: يرأسه ريتشارد بيرل ويضم هنري كيسنجر ونائب الرئيس السابق دان كويل، ووزيري الدفاع السابقين جيمس شيز لنجز وهارول برون والمتحدث السابق باسم مجلس النواب نوت جنجريتش، وعدد من كبار قيادات الجيش والسياسات الأمريكيين.

2-مشروع القرن الأمريكي الجديد هو (القرن الواحد والعشرون) تأسس عام 1997 ويرأسه أحد منظري المحافظين الجدد (ويليم كريستول) ويؤكد بأن عقيدة بوش تجمع بين القوة والمثالية أي بين المدرسة الجاكسونية والمدرسة الويلسونية. .

رجالات البرنامج الامبراطوري

1-كريستول ومشروع القرن الأمريكي:ويضم مشروع القرن الأمريكي الجديد نفسه عددا قليلا من الأشخاص، بالإضافة إلى كريستول، ومدير المشروع غاري سميت. ومنذ تأسيسه عام 1997 يعمل المشروع بصورة أساسية كمنبر يمكن أن يصدر النييوكونز البارزون من خلاله توصيات سياسية، ويدعون المحللين أصحاب النفوذ من التيارات الفكرية الأخرى إلى الانضمام إليهم. وقد وقّع على ميثاقه التأسيسي الذي دعا إلى (سياسة القوة العسكرية والكفاءة الأخلاقية على نهج الرئيس الراحل ريغان) مجوعة أغلبها من النيوكونز، مثل محرر التعليقات السابق نورمان بودهوريتس، وآي لويس ليبي كبير موظفي مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، وبول وولفوفيتز، ومدير شئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي إليوت أبرامز. ولكن عددا آخر من الأشخاص الذين يرتبطون أكثر بموقف قومي متطرف -خاصة وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وتشيني، وقطب الإعلام ستيف فوربس- وقعوا أيضا، وكذلك فعل (غاري بور) أحد زعماء اليمين المسيحي الأمريكي.

وهكذا كانت تركيبة الموقعين نذيرا بتشكيل ائتلاف الصقور الثلاثي -المحافظين الجدد، والقوميين العدائيين، واليمين المسيحي- الذي دانت له السيطرة على السياسة الخارجية لإدارة بوش بعد هجمات 11 من أيلول.

ومنذ عام 1997 حتى انتخاب بوش أصدر مشروع القرن الأمريكي عددا من البيانات السياسية التي وقعها نفس الشخصيات، أو أخرى على شاكلتها، وكذلك عدة تقارير أطول، وكتابا بعنوان (المخاطر الحالية) الذي وصف الكثير من المبادرات السياسية التي تبنتها إدارة بوش. وفي البداية حث مشروع القرن الأمريكي الجديد واشنطن على العمل من أجل (تغيير النظام) في العراق عام 1998، وهي الفكرة التي أصبح وولفوفيتز من أشد المتحمسين لها (19).

2-وولفوفيتز وأستراتيجية الضربة الوقائية:ويذهب رتشارد كلارك في كتابه (في مواجهة جمبع الأعداء) أن بول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع وأحد أشد النيوكونز تطرفاً كان خلال شهور طويلة يؤكد بأن الهدف الرئيسي يجب أن يكون (الإرهاب العراقي) لا القاعدة، وهذا رغم أن دوائر الاستخبارات الأمريكية لم تعثر على أي دليل على تبني العراق لعمليات إرهابية ضد أميركا. غير أن هجمات 11 سبتمبر منحت وولفوفيتز وكثيرين من أمثاله ممن كانوا طوال التسعينات يرغبون بمهاجمة العراق، الفرصة لتحويل تركيز الرد الأمريكي من القاعدة إلى العراق. حتى أنهم وصفوا العراق بأنه أكبر خطر يهدد الأمن القومي الأمريكي. وكان الدافع الحقيقي وراء ذلك حسب كلارك هو تحسين وضع إسرائيل الاستراتيجي بالقضاء على بلد عربي كبير ومعاد، والحد من الاعتماد الأميركي على النفط السعودي بخلق مصدر آخر للنفط موال وصديق (20).

ومنذ ما يزيد على عقد، كان بول وولفوفيتز يردِّد أن على أمريكا أن (تكون موجودة في أنحاء العالم قاطبة لتدافع عن مصالحها ومصالح أصدقائها وحلفائها، وقد ظهر هذا الكلام في وثيقة تسرَّبت في آذار 1992 إلى صحيفتي (نيويورك تايمز)و (واشنطن بوست) وأطلق عليها اسم (إرشاد التخطيط الدفاعي) ضد الدول التي تمتلك أسلحة دمار شامل حيث تحدث فيهاوولفوفيتز عن ضرورة اعتماد (الضربة الوقائية وهو الكلام ذاته الذي ردده بوش الابن في ما بعد وعرف بعدئذ بأسم (مذهب أو مبدأ بوش).

ومنذ العام 1992، راح بول وولفوفيتز يرسم ما يجب أن تكون عليه خطة الدفاع الأمريكية. ومن الخطوط العريضة التي ذَكَرَها (منع ظهور أية قوة جديدة تنافس الولايات المتحدة). وراح يفصِّل كيف يكون ذلك، بقوله إن على الولايات المتحدة أن تمنع أية قوة إقليمية من السيطرة حيث تكون الموارد كافية لخلق قوة على المستوى العالمي. والأقاليم التي ذكرها: أوروبا الغربية، شرق آسيا، الاتحاد السوفييتي السابق، وجنوب غرب آسيا.

وشدَّد وولفوفيتز في تلك الوثيقة على الدور الذي على الولايات المتحدة القيام به: عليها أن تعلن استعدادها لصون النظام العالمي الجديد - ولها فيه الدور الرئيسي - وعليها أن تقنع منافسيها بقبول هذا الواقع الجديد، كما عليها أن تثني الدول الصناعية عن عزمها على لعب أيِّ دور في أية منطقة من مناطق العالم. وهذا يضمن، في رأيه، العظمة لأمريكا إلى الأبد. هكذا، على طريقة ديغول، مجَّد عظمة أمريكا، وعلى طريقة الشيوعيين، روَّج للسيطرة على العالم. جمع بين الفكرتين، فكانت الأحلام بإمبراطورية عظمى على مدى الأيام (21).

وكان التطبيق الفعلي لهذه الأفكار خلال الحرب على العراق (انتهاج مبدأ الضربة الوقائية) وتم إحداث التغيير السياسي المطلوب بدفع العراق كقطعة الدومينو الأولى وانتظرت تعاقب الأثر الذي سيعمل على تغيير المنطقة العربية بآسرها، وهي النظرية التي كان وراءها (ريتشار بيرل) أمير الظلام.

3-ريتشارد بيرل ونظرية الدومينو:عرف بيرل باللقب المروع (أمير الظلام) واستحقه عن جدارة لبراعته بالتلاعب بوسائل الإعلام ويجمع بين كونه عقلا استراتيجيا (قد يحيل بلدا بأكمله إلى خراب) وبين كونه مؤلفا روائيا من النوع الروائي الفلسفي التعليمي (22) وقد كان بيرل واثقا من انهيار الأنظمة السياسة في منطقة الشرق الأوسط على طريقة الدمينو السياسي وحين وجه إليه سؤال عما إذا كان لم يدرك المخاطر المترتبة على البراكين السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً ما حدث في مصر وسورية والعراق من انقلابات بعد نكبة عام 1948، وما حدث في إيران مُصدّق، ضحك صاحب النظرية معتبراً بأن شعوب المنطقة لا تجرؤ على أن تعيد الكرة مرة أخرى وأن الأنظمة ستتهاوى كما يتهاوى الدمينو. و ريتشارد بيرل الذي يبدو كستالينيٍ دخل لتوه عصر الإيديولوجيا، ربما لم يتعلم أن الدمينو قد ينقلب بشكل عكسي، وأنه بقدر ما يمكن أن يؤدي إلى تدمير أنظمة بقدر ما يستطيع إما أن يعززها أو يتوجها أو يرتكس بها إلى مواقف أكثر محافظة، أو في كثير من الأحيان يأتي بأنظمة سياسية أكثر تشددا. وعلى كل حال فإن بيرل ينطلق من نظرية ثنائية (الكبت، القمع/ الاستجابة)، وهي تستند إلى نظرية (ويللهلم رايش) الذي عاش النموذج النازي واقتنع بقاعدة طالما رددها:(إن أول عمل قام به القمع أنه مهد السبيل لكل استبداد تالٍ له).

لكنه لم يدرك- بالتأكيد- أن معادلة العلاقة بين قهر الشعوب واستجاباتها لا تشير بطريقة خطية وفقاً لنموذج ويللهلم رايش فقط، إنما تسير بأشكال عشوائية لا يمكن البت بها تماماً كحركة جزيء غازي بين عدد كبير من الجزيئات الغازية الأخرى التي لا يمكن التكهن رياضياً وإحصائياً بإمكانية أو طريقة حدوث فعلها، وتحتاج كما يقول الاختصاصيون الرياضيون إلى معادلات تفاضلية يمكن أن تكون لها مجموعة لا نهائية من الحلول، وبالتالي فثمة نظرية أخرى تتحدث عن ثنائية (القمع) والرد عليه بصورة غير متوقعة وبشكل يجسد ثنائية (القمع/ العنف المضاد، هذه النظرية التي لا يعرفها ريتشارد بيرل وبسبب جهله بها ورط نظام الإدارة الأمريكية الحالية بآلية من التعامل مع قضايا الشرق الأوسط تنم عن جهل واضح بطبيعة شعوب المنطقة، الأمر الذي قد يعزز نظرية الدمينو المعكوس؛ فتقوى أنظمة راديكالية أو محافظة، وتنشأ على خلفية الديمقراطيات المعلنة التي كثر الحديث عنها كحلول (خطية) أيضاً لمشكلة العلاقة بين تلك الأنظمة والغرب، وتنشأ أنظمة أكثر تشدداً وتخلفاً الأمر الذي يستدعي حسابات من نوع أكثر رصانة عند التعامل مع الشأن السياسي في المنطقة (23).

الطريق الزلقة لمشروع كوني

لقد أمن المحافظون الجدد ان الولايات المتحدة ملزمة حسب تعبير النيوكينز (ماكس بوت) بإدارة الدول المضطربة وهو الدور الذي كانت تضطلع به بريطانيا من قبل. وقد ذهب المؤرخ البريطاني (نيال فيرجسون) إلى أن أمريكا هذا العصر تختلف عما كانت عليه بريطانيا في القرن التاسع عشر. ولكن بعض النيوكينز يردون عليه بأن أمريكا أصبحت إمبراطورية بالفعل، وإن إدراك ذلك ليتطلب سوى قدر من فهم الواقع! ولكن النيوكينز هم الذين يخطئون حقا في الفهم حين يخلطون بين سياسة التفوق وسياسة الإمبراطورية، فقد تكون الولايات المتحدة أكثر قوة عما كانت عليه بريطانيا وهي في قمة الإمبريالية، ولكن سيطرتها على الأوضاع الداخلية في الدول الأخرى أفل مما كانت عليه بريطانيا عندما كانت تحكم ربع العالم، فقد كان البريطانيون على سبيل المثال يتحكمون في كينيا في مناهج التعليم وغدارة المدارس والضرائب والقوانين وعلاقاتها الخارجية، بينما لا تتمتع الولايات المتحدة بمثل هذه السيطرة على أية دولة! (24)

لذا فأن طموح النيوكونز الإمبراطوري قد يضر الولايات المتحدة ويعزلها شيئا فشيئا عن المجتمع الدولي وقد ذهب انتوني كوردسمان (أستاذ في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية-واشنطن) في تقرير قدمه أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي يوم الأول من شباط 2005 إلى انه ربما يكون النيوكونز في أمريكا كارثة قومية تامة في تشكيلهم للسياسة تجاه العراق، وهذا في الواقع الفعلي ينطبق على كل جانب آخر من السياسة الخارجية كان لهم تأثير فيه. وكانت الفكرة القائلة بأن العراق سيظهر فجأة كإنجاز ناجح يحول الشرق الأوسط نحو الأفضل هو مجرد تخيل لم يفعل شيئا أكثر من البرهنة على مدى انفصال المحافظين الجدد في أمريكا عن الواقع (25).

كما يمكن للمرء ان يثبت استنتاجات رئيسة بصدد النيوكونز أهمها: أن أيديولوجيتهم الجديدة يمكن أن تندرج تحت خانة الإيديولوجيات القومية الثورية. فهي تقوم على نظريات صارمة أهمها نظرية تفوق الأمة وتعتمد في تطبيقها على مبدأ القوة والتفوق العسكري واعتبار كل من يعارضها أو لا يقف إلى جانبها عدواً يجب التخلص منه أو على الأقل إضعافه. من هنا كان وصف الفيلسوف الأوروبي يورغن هابرماس للمحافظين الجدد (بثوريي واشنطن أصحاب المشروع الكوني) أدق وأفضل وصف لما يمثله هؤلاء...

وصل المحافظون الجدد الى السلطة مع جورج دبليو بوش وكانت أفكارهم جاهزة ومكتملة ولا يلزمها إلا التنفيذ. ولكن أفكاراً ثورية كهذه لا يمكن فرضها على الشعب الأميركي الذي يؤمن بالديموقراطية والسلام بدون ذريعة مقنعة. فكان على هؤلاء انتظار الفرصة لمباشرة تنفيذ مخطط معد منذ سنوات. والمدهش أن أحد رموز هذا التيار وهو ويرمز نشر مقالاً بتاريخ الأول من كانون الثاني 2001 أي قبل ثمانية أشهر من أحداث 11 أيلول، وأكد فيه على ضرورة وضع مخطط حرب مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وانتظار أزمة سياسية طارئة لأنه كما قال حرفياً: (الأزمات هي الفرص التي ننتظرها لإطلاق مخططاتنا (26)).

المهم أن إحداث الحادي عشر من أيلول كانت قد مهدت الطريق أمام النيوكونز لإحداث انقلاب كبير أحدث عسكرة هائلة للعولمة ونقلها من الجوانب الاقتصادية إلى الجوانب الأمنية كما كان من نتائجه أيضا أحداث تغييرات ذات طابع سياسي في الولايات المتحدة على المستوى الداخلي والخارجي، رتب لسيطرتهم وتسيدهم المشهد السياسي واندفاعهم إلى مقدمة الصورة مع أفكار وبرامج سياسية نقلوها إلى حيز التطبيق وأنجزوا جزءا مهما من مشروعهم الفكري. وجاء احتلال العراق ليؤكد هذا الهدف والبرنامج فلم يكن ذلك بالتأكيد بهدف إزالة أسلحة الدمار الشامل أو التخلص من حكم صدام حسين واستبداله بآخر أو بهدف السيطرة على مصادر الطاقة بقدر ما كان الهدف متمركزا في تأسيس إمبراطورية لعصور الفوضى التي يشهدها النظام الدولي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، مما قاد في النهاية إلى سياسية هوبزية أمريكية متميزة دشنت لبزوغ اللوثايان الدولي في صورته الأمريكية عبر الانتصار لنهج المغامرة العسكرية واستخدام القوة والتهديد باستخدامها في العلاقات الدولية والتصويت لصالح سياسات التفوق والهيمنة الإمبراطورية.


هوامش

1-خالد محمود، المحافظون الجدد في أمريكا يحكمون العالم، صحيفة البيان، العدد 643، الثاني عشر من سبتمبر 2003.

2-شوقي أبو شعيرة، إدارة بوش:قصة المحافظين الجدد، جريدة الخليج، 14-2-2002. 3- خالد محمود، مصدر سابق.

4-راكان المجالي، الخلفيات الدينية والفكرية اليمينية لخطاب بوش عن حالة الاتحاد، جريدة الرياض، العدد 13382- 12 فبراير 2005،

5-مطاع صفدي، نظرية القطيعة الكارثية بين حضارة العنف والمدنية الإنسية، مركز الإنماء القومي، بيروت، 2005، ص115.

6- شاكر النابلسي، المحافظون الجدد والليبرالون الجدد بين الواقع ومهاترات الغوغاء، مقال منشور بتاريخ 19 حزيران 2004 في:

Arabic Media Internet Network - Internews Middle East

7-قيصر عفيف، أولئك (المحافظون الجدد) الأمريكيون ليسوا محافظين ولا جددًا، مقال منشور في موقع معابر، على شبكة الانترنيت الدولية.

8-هشام حسين يونس، الإمبريالي والديني بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، مقال منشور في:

www. mowaten. org

12-شوقي ابو شعيرة، مصدر سابق.

13-محمد حسنين هيكل، الامبراطورية الامريكية والإغارة على العراق، دار الشروق، 2003، ص272.

14-فتحي التريكي، العقل والحرية، دار تبر الزمان، تونس، 1997، ص138-141.

15-المحافظون الجدد في إدارة بوش لديهم أقوى سلاح سري، 2003 Media. Communications Group مجموعة الاتصالات الإعلامية

16-قيصر عفيف، مصدر سابق.

17-موقع جريدة الأحداث المغربية، المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية: طائفة دينية أم مكتب للدراسات؟

http://www. ahdath. info

18-شوقي ابو شعيرة، مصدر سابق

19- جيم لوب، سياسة أمريكا-مزيد من القوات غير المهمة من فضلكم،  اي بس اس.  2005 IPS-Inter Press Service

20-ريتشارد كلارك، في مواجهة جميع الأعداء، ترجمة وليد شحادة، الحوار الثقافي، 2004، ص56، 53، 86. رجب البنا، أمريكا (رؤية من الداخل)، دار المعارف بمصر، 2004، ص333-334.

21-قيصر عفيف، مصدر سابق.

22-بوديار وأخرون، ذهنية الإرهاب-لماذا يقاتلون بموتهم، ترجمة وإعداد بسام حجار، المركز الثقافي العرابي، بيروت، 214-215.

23- الدكتور عماد فوزي شُعيبي: (كلنا شركاء)، نظرية الدمينو معكوسة، مقال منشور في شبكة المعلومات الدولية، 14-3-2004.

24- رجب البنا، أمريكا (رؤية من الداخل)، دار المعارف بمصر، 2004، ص333-. 334.

25-أنتوني كوردسمان، نحو استراتيجية أمريكية فعالة في العراق، مجلة المستقبل العربي، بيروت، العدد، 313، لسنة2005، ص37، 41.

26-باسم يموت، الوضع العربي في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، جريدة المستقبل، العدد1334 -30 حزيران 2003، ص17.