ردك على هذا الموضوع

شكل النظام السياسي وطبيعته في عراق المستقبل

ابتسام محمد العامري*

 

على الرغم من أن المشهد السياسي العراقي لم يتحدد بشكله النهائي والثابت لحد الآن بسبب تقاطعات وتجاذبات أطرافه، إذ يقدم كل طرف رؤيته الخاصة لمستقبل العراق، ومع أن المستقبل ليس قدرا محتوما، لكن هناك طروحات متعددة بشأن شكل النظام السياسي وطبيعته في العراق، ولكل طرح منها إيجابياته وسلبياته، وتحقيق أي طرح منها يعتمد على ما ستسفر عنه الظروف الحالية في العراق، ومدى قدرة الشعب العراقي على اختيار البديل الأفضل.

والسؤال الذي يطرح هنا هو هل سيكون النظام السياسي في العراق مستقبلا دكتاتوريا أم ديمقراطيا؟

مع أن قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية قد نص على إقامة الديمقراطية سبيلا للحكم بما يضمن حقوقا متساوية للعراقيين جميعا بقومياتهم واتجاهاتهم، لكن حتى لو تحققت هذه الديمقراطية بعد إجراء انتخابات المجلس الوطني الانتقالي في 30 كانون الثاني 2005 داخل العراق وخارجه، والانتخابات العامة المقررة بعد إقرار الدستور العراقي في أواخر 2005، غير أن ممارسات معينة يُخشى أن تؤدي إلى عودة البلاد مستقبلا للعهد الدكتاتوري وهو أحد الأشكال المطروحة للنظام السياسي المقبل، فمثلا وجود تنوع سياسي كبير يتراوح ما بين التيارات الدينية واليسارية والقومية والديمقراطية الليبرالية والقبلية العشائرية ومجاميع الأحزاب الصغيرة ذات الطبيعة الظرفية والقوى السياسية التي تضررت جراء سقوط النظام السابق.

هذا التنوع السياسي الكبير وعلى الرغم مما يتسم به من مزايا منها أنه يعكس طبيعة مكونات الشعب العراقي ويتيح لها المشاركة في العمل السياسي الذي حرمت منه سنوات طويلة، غير أن له مشكلاته ومساوئه المتمثلة في أن هذه التيارات إذا لم ترتقِ إلى مستوى وعي طبيعة العمل السياسي التعددي التنافسي واستحقاقاته، فإن ذلك سيؤدي بالبلاد إلى حالة من الشلل السياسي وفقدان القدرة على جعل التنوع منبعا لقوة الإرادة السياسية للنظام المأمول، وهو ما سيحول دون تمكنه من معالجة الآثار السلبية التي أفرزها النظام السابق، وما ستفرزه فترة الاحتلال أيضا والشروع في بناء نظام سياسي واقتصادي جديد.

إن هذا بطبيعة الحال سيمهد الأرضية المناسبة لظهور دكتاتور جديد ولو بعد حين، وستكون وعوده المتمثلة بالتخلص من فوضى الديمقراطية هي السبيل لكسب الجماهير واستغلالها لإعادة العراق مرة أخرى إلى جحيم الدكتاتورية.

وستكون هناك عوامل تساهم في تدعيم بنية السلطة الدكتاتورية وإعادة إنتاج النظام التسلطي حتى لو استندت إعادة هذا الإنتاج إلى أسس مغايرة لسابقتها، فالثروة الكبرى للعراق من نفط ومعادن وزراعة وغيرها، ستساهم في ترسيخ أسس هذه السلطة التي ستضع يدها على هذه الثروة لدرجة تمكنها من الاستغناء عن المجتمع الذي سيضطر للتنازل عن حقوقه السياسية والمدنية مقابل الحصول على ما يكفي لسد رمقه.

وكذلك سيطرة الشعبوية على عمل النخب الاجتماعية سواء تلك التي تكون في موقع السلطة أو المعارضة، فالشعبوية التي ستحظى بدعم السلطة وتشجيعها ستحول دون أولا: محاسبة السلطة بشكل فعلي، وثانيا: تحقيق أهداف وبرامج واضحة وحقيقية.

إن التأكيد على ضرورة تشجيع نشوء وعي ديمقراطي صحيح على وفق ما يمليه هذا الوعي في الممارسة السياسية اليومية سيكون واحدا من الأسباب التي تمنع عودة الدكتاتورية إلى العراق مرة أخرى ويعمل على تحصين العملية الديمقراطية.

أما الشكل الثاني المطروح للنظام السياسي المقبل في العراق فهو النظام الديمقراطي بشقيه الرئاسي والبرلماني، ونظرا لأن العراق يمتلك تراثا سيئا للنظام الرئاسي بسبب تحوله التدريجي للدكتاتورية، فإن حظوظ هذا النظام لن تكون أفضل من النظام البرلماني الذي يمتلك تراثا أفضل في العراق.

فالنظام الرئاسي الذي طبق في العراق بعد ثورة 1958 أفرز من السلبيات التي وصلت أعلى مدياتها في عهد النظام السابق حيث التصفية السياسية المباشرة سواء للشخصيات الوطنية بوصفها خصما كامنا للنظام وللتعددية الموروثة هي السمة البارزة للتطور السياسي، ولم يكن من الممكن الحفاظ على الحكم المطلق والأحادي من دون الدخول في حروب داخلية وخارجية مستمرة كان من نتيجتها دمار البلاد على الصعد كافة سياسيا واقتصاديا وعسكريا ومعنويا.

إن النظام الديمقراطي ذا الصيغة البرلمانية هو أفضل النماذج المطروحة لتشكيلة النظام السياسي القادم في العراق، فالنظام البرلماني هو نموذج للحكم السياسي الحي القادر على التعبير عن المصالح المتعددة المتباينة للمجتمع وتوفير الإطار المناسب الذي يضمن هذه المصالح ويعمل للتوفيق فيما بينها ويتجاوز تناقضاتها وحلها بطريقة سلمية، فأي نظام سياسي لا يتطور ما لم يعترف بأن مصدر سلطته هو الشعب سواء كان اعترافا كاملا أو جزئيا ونبذ الأشكال الأخرى للسلطة التي لا تستند إلى هذه الحقيقة، وفي مرحلة ما بعد صدام وبالنظر إلى ما شهده العراق من تصاعد كبير للتيارات المختلفة التي تشكل بنية الشعب العراقي طرح ما يعرف بالديمقراطية التوافقية كحل أمثل في نظر من طرحوه وقام الاحتلال الأمريكي بتكريس هذا الطرح عبر تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أساس الحصص الطائفية والقومية، واعتمد الأسلوب ذاته في تشكيل الحكومة الانتقالية السابقة برئاسة إياد علاوي.

والديمقراطية التوافقية كونها سبيلا للحكم توفر السلم المدني وتصونه بين الطوائف المختلفة المكونة للمجتمع عبر الاستناد إلى التعددية الناجمة عن وجود ثقافات عدة داخل نظام اجتماعي واحد، مما يتطلب وجودا متعادلا لمختلف الفئات لتلافي حدوث مشاكل قد تترك ندوبا واضحة في حد هذا النظام لدرجة تجعل الوضع متفجرا على الدوام.

ويتميز نظام الديمقراطية التوافقية بقدرته على إيجاد حواجز حقيقية لا تسمح لأي فئة اجتماعية بالتعدي أو تجاوز حقوق طائفة أخرى سواء باحتكار السلطة كليا أو جزئيا، حيث يقوم الدستور بوضع تفاصيل هذه التوافقية التي تجعل العمل السياسي والحزبي وكذلك الانتخابي والبرلماني قوة ديناميكية جماعية تساعد باختلاط أدوار الجميع من أجل مصلحة الجميع.

لا يمكن القول إن الديمقراطية التوافقية حققت الكثير حتى الآن، لكن بالإمكان الاستنتاج أنها أصبحت منهجا واسعا قابلا للتطبيق الآن ومستقبلا، كما أن استمرارها وتناميها يؤديان حتما إلى فتح الطريق أمام ديمقراطية حقيقية في العلاقة الوطنية داخل المجتمع، مما يسمح بتعزيز بنيان المؤسسات الديمقراطية الجماهيرية ومؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية، كما سيقدم معنى جديدا شفافا وعقلانيا لمفهوم الشورى الإسلامية كما يوفر فرصا جيدة لنشوء تجربة فيدرالية عراقية خالصة في كردستان العراق.

إن نشأة التجربة التوافقية العراقية من حالة الضرورة بفعل تباين تركيبة الشعب العراقي ومكوناته ومن شروط وطبيعة الديموغرافيا العراقية ذاتها لا يعني أن الشكل التوافقي الذي طبق بعد الاحتلال الأمريكي قد حقق نجاحا كاملا دون نواقص ودون أخطاء، فما زالت كل الإجراءات التي تفتقد الإرادة الشعبية تأتي مفاجأة للمواطنين، إضافة إلى أن واقع الاحتلال الذي فرضته ظروف العراق الخاصة كان يجب الاحتراس منه احتراسا ضروريا كي لا ترتكب أخطاء لا تعرف نتائجها على المواطن العراقي.

إن المهمة الأساسية للديمقراطية التوافقية الآن ومستقبلا إذا ما تم اعتمادها تتركز بالإسراع في نقل العراق من نموذج الدولة الدكتاتورية - الاوتوقراطية كما كانت في عهد النظام السابق إلى دولة ديمقراطية تعتمد مشاركة مواطنيها في تقرير شؤون الحكم.

لقد استند طرح الديمقراطية التوافقية في العراق بناءً على نجاح نظيرتها في لبنان التي تستند إدارة العملية السياسية فيها إلى أسس طائفية لسببين أولهما: وجود تشابه كبير بين طبيعة التركيبة المجتمعية في كل من العراق ولبنان، وثانيهما: لكون النموذج اللبناني يعد من أفضل النماذج الديمقراطية في الوطن العربي.

وعلى الرغم من أن هاتين الحجتين تجعلان للربط ما يسوغه، غير أن من الخطورة الاعتماد عليهما لأسباب منها:

1- إن العملية الديمقراطية المستندة إلى قاعدة التوافق هي ليست بالضرورة النموذج المثالي للديمقراطية الذي يمكن تطبيقه في العراق، صحيح أنه يعتمد مبدأ التعددية السياسية، لكنها ذات طبيعة خاصة تقوم على توازن دقيق داخلي وإقليمي قابل للانفجار في أية لحظة، بمعنى أنها لا تقر سوى شكل جزئي للديمقراطية.

2- إن الحالتين اللبنانية والعراقية يفصل بينهما فرق شاسع، فالوضع العراقي شديد التعقيد ليس على مستوى واحد وإنما على مستويات متعددة مذهبيا وقوميا وطائفيا.

إن المطلوب مستقبلا ليس توزيع العملية السياسية بين جماعات (دون سياسية) كالقوى القبلية والعشائرية بل تدعيم مفهوم المواطنة العراقية القائم حاليا لنقله من كونه أداة للترتيب بين جماعات مختلفة مذهبيا وقوميا وعشائريا إلى آفاق عصرية حضارية مفهوما صحيحا للعملية السياسية بوصفها تقوم على المنافسة السلمية لا على عقلية إقصاء الآخر، وهذا الأمر سيدفع نحو تطوير الإطار الفكري للتيارات المختلفة بما يمكنها من إدارة عملية سياسية بآليات حديثة.

وفي ظل سيادة ظروف كهذه يمكن الحديث حينها عن نموذج ديمقراطي وإن كان يستند إلى قاعدة الديمقراطية التوافقية دون أن يؤدي ذلك إلى تفتيت كيان الدولة وربما إسقاطها في براثن حروب أهلية.

إن تحصين النظام الديمقراطي العراقي الوليد سواء كان برلمانيا أم رئاسيا وترصينه مستقبلا ضد مخاطر الردة السياسية يقتضي اتخاذ الإجراءات الآتية.

أولا: ضرورة وجود مبادئ منظمة للعمل الديمقراطي:

مثلا مبدأ وجود دستور دائم غير قابل للتغيير إلا بشروط وإجراءات دقيقة وشاقة ومعقدة يسهم فيها البرلمان والمحكمة الدستورية والاستفتاء العام لضمان أن يكون التعديل معبرا عن إرادة سياسية عامة وإجماع شعبي وليس لعبة لإضفاء الشرعية على محاولات نسف الديمقراطية بوسائل غير ديمقراطية، وينبغي أن يتضمن هذا الدستور المبادئ الآتية:

1- مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وتنظيم العلاقة فيما بينهما.

2- مبدأ تداول السلطة سلميا كما يجب اتخاذ إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى أن يصاغ النظام السياسي على نحو لا يؤدي إلى هيمنة دائمة لأغلبية بعينها على مجريات الحياة السياسية في المستقبل.

3- مبدأ تحديد سلطات من يتولون المناصب الرفيعة بشكل واضح وبما لا يسمح بتأسيس بؤرة خصبة للممارسة المطلقة للسلطة التي تشكل تمهيدا للدكتاتورية.

4- مبدأ تحديد مدة تولي منصب رئاسة الجمهورية بما لا يتجاوز فترتين لا غير والنص في الدستور على أن أي تغيير لهذا المبدأ يعد خرقا للدستور نفسه، وهو سيؤدي تلقائيا إلى عزل الرئيس من المحكمة الدستورية.

5- مبدأ حق البرلمان المطلق في تعيين الحكومة من بين أعضائه المنتخبين وحقه في مساءلتها كلها أو بعض أفرادها.

ثانيا: توفير الدعم للمؤسسات السياسية الديمقراطية وتشمل:

1- الأحزاب السياسية حيث يعتقد بضرورة أن ينص قانون الأحزاب على منع عمل الأحزاب ذات الطابع العنصري أو التي كانت ممارساتها السياسية مناهضة لجوهر العمل الديمقراطي.

2- يجب أن يكون البرلمان منتخبا بشكل مباشر من الشعب سواء كان من مجلس واحد أو مجلسين، وضرورة امتلاكه لسلطتي المراقبة ومسألة الحكومة.

3- ضرورة دعم مؤسسات المجتمع المدني في نقابات واتحادات مهنية وجمعيات ثقافية وفكرية التي يتركز عملها في ترسيخ قيم الديمقراطية بين أبناء الشعب وجعلهم يألفون العمل التعددي على أن تضم هذه النقابات والاتحادات المهنية أطياف الشعب العراقي كافة.

4- ضرورة أن تتمتع المحكمة الدستورية العليا بصلاحيات قانونية واسعة خصوصا في مسألة حماية الدستور وحق المواطنين أفرادا وهيئات في مقاضاة أي مسؤول في الدولة مهما كان منصبه.

5- الصحافة الحرة التي تعبر عن الأحزاب والجماعات ومؤسسات المجتمع المدني، وهذه الصحافة ستقوم بدور مزدوج أولهما: تطوير ودعم عملية الوعي بالديمقراطية، وثانيهما: إظهار التنوع الفكري الكبير للمجتمع العراقي.

إن نشر الوعي السياسي والتثقيف بهذه القيم يجب أن يتزامن مع عملية التحول السياسي التي يشهدها البلد حاليا والعمل على تضمينها في الأنظمة الداخلية للأحزاب والجمعيات وهو ما سيوفر إطارا فكريا حاضنا للديمقراطية الوليدة لكي يجتاز المراحل الأولى لتجربتها.

وهناك مسؤوليات وخطوات أخرى يجب على الحكومة الديمقراطية القادمة أن تضطلع بها لكي يكمل عملها وهي:

1- تخليص مؤسسات الدولة من العناصر والأساليب المتخلفة.

2- التخلص من الأسلوب الأوتوقراطي والانتهازي في العمل القيادي.

3- الاهتمام بقطاع الشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة من الشعب العراقي وتوعيتهم بطبيعة موقعهم ودورهم وحقوقهم وواجباتهم الاجتماعية لتأهيلهم وإعدادهم ليكونوا أعضاء في المجتمع، وأن يشاركوا فيه وأن يتفاعلوا معه بدل تحويلهم إلى قاعدة يسهل التلاعب بها، واستخدامهم أداة من طرف الحركات والجماعات التخريبية.

4- التخلص من ظاهرة الفساد المستشرية في العراق من خلال تفعيل وتحسين آليات مسؤولية الحكومة من خلال إرساء دعائم الديمقراطية وازدياد مشاركة المواطنين في المسألة العامة.

5- عودة العراق إلى وضعه الطبيعي في المحفل الدولي وتمكينه من أخذ دوره في رسم السياسة الإقليمية والدولية.

6- التقليل من تأثير النظام العشائري على النظام السياسي نظرا للاستعداد التقليدي لدى شيوخ العشائر في تغيير تحالفاتهم وفق مصالهم اليومية.

7- تشكيل المؤسسة العسكرية على أسس غير سياسية.

إن تجربة بناء العراق ستمر في المستقبل بالعديد من الإشكالات والانتكاسات، ولكن في نجاحها في بناء دولة ديمقراطية تعددية ستكون مكسبا للعراق ونموذجا للديمقراطية في الشرق الأوسط.

 


* مركز الدراسات الدولية/ جامعة بغداد