ردك على هذا الموضوع

اللاعنف في الفكر الشيعي

جمال الخرسان

 

حينما ترفع الديانات السماوية شعارات ولافتات تدّعي أنها ومن خلالها تضمن سعادة الدارين، وتكفل عيشاً كريماً للبشرية.. إذن من الطبيعي جدا أن نقف على مقولات الأفق المفتوح عند روّاد تلك الدوائر اللاهوتية... فالرحمة والتسالم... والتعاطف والتراحم وغيرها تلك هي ما نتوقعه من صفات يتحلى بها الديّانون.

لكن من غير الطبيعي أن يتحول الدين في لحظة من الزمن إلى سحابة سوداء لا تمطر إلا رصاصا...فتحيل الدنيا لجحيم لا يطيقه حتى ملائكة السماء، وهذا بالضبط ما تؤكده ظاهرة العنف الديني التي أصبحت لصيقة بالإرهاب، ومن ثم اقترنت ظواهر الذبح والتفخيخ والفتيا التفكيرية بالدين الإسلامي لسبب أو لآخر.

انطلاقا من تلك النقطة المهمة والخطرة جداً كان لزاماً على أصحاب الشأن ان يضعوا جلّ الاهتمام على الجوانب الأكثر إشراقا في البعد الإسلامي، فيسلطوا الضوء على دعاة مباديء التسامح الإنساني، وهم ليسوا قلة في تراث الإسلام الكبير، ذلك التراث الذي لا يحفظ مال وعرض وأرواح المسلمين ويحترم عقيدتهم وما يعتقدون، بل يحفظ حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى الإسلام (أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

تلك الوصية المعروفة من الإمام علي (ع) إلى أحد أصحابه الذي كان واليا آنذاك.

لكن أصحاب الأدمغة المفخخة لهم رأي أخر يتعامل مع الإنسانية بأساليب تنأى عن التعامل بها حتى حيوانات الغابة، ذبح وتفخيخ، ترهيب وتقتيل، وتمثيل حتى بالجثث المتفحمة، حتى أصبحت مفردة العنف مفردة تعبث بأمن الشعوب ومستقبل الأمم ووحدة الأوطان، ومع أن الكثير من أصحاب اللحى الطويلة والجباه السود عرف عنهم ذلك السلوك بامتياز إلا أن تعميم ذلك الاتهام وإصدار أحكام شمولية على الإسلاميين خطأ فادح لا يمكن تبريره بكل تأكيد.

وبالتالي تقع على الباحث مسؤولية كبيرة في الترويج لدعاة العقلانية والخطاب المرن، عسى أن يساهم في استعادة صورة غير مشوهة لدين كان أكثر من ساهم في ظلمه هم من يدّعون الالتزام بتعاليمه.

إن الفكر الشيعي ومع ما عرف عن تاريخه بأنه لعب دور المعارضة أكثر من دور الحكومات، إلا أن مسارات الاعتدال والترّيث والنضوج فيه كانت شفيعة في إجبار الباحثين عن الحقيقة، أن يبدوا مزيدا من الاهتمام أكثر من السابق بذلك التراث المعاصر.

مسارات الاعتدال أو اللاعنف ليس المقصود بها هنا ذلك السلوك التطبيقي الفردي على الصعيد الاجتماعي الخاص في إطار الأخلاقيات المندوبة في الإسلام، وأن كانت تلك الممارسات أيضا منبوذة ومستنكرة في إطار الفكر الشيعي، لكن ما نعنيه هنا هو اللاعنف في إطار الفكر السياسي والفكري العام، الذي يتعلق بمشروع أمة ومصير جماعات إنسانية بكاملها.

وفي وقفة على عجالة سنحاول أخذ عينات عشوائية من النصوص التي تعكس الأفق المفتوح في الفكر الشيعي.

وفي هذا الصعيد بالذات يقول الشيخ المنتظري:

(إن الإسلام دين العقل والمنطق، وهو يعارض جميع اشكال العنف والاغتيالات ذلك لأنها- فضلا عن كونها انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان- تتسبب في اختلال النظام وسلب الأمن العام من المجتمع) (1).

أما السيد السيستاني فيؤكد (أن الدين الإسلامي لا يجيز العنف، بل ينهى عنه، ويأمر بإصلاح ذات البين، وحفظ العلائق الأسرية، ورعاية حقوق الجيرة، واحترام حقوق الأقليات الدينية..) (2).

وبدوره السيد محمد الشيرازي يضيف على ذات الصعيد: (العنف ثمرته العنف فالمجتمع الذي يؤمن بالعنف يتربى كل أفراده على العنف، حيث أن من سيئات العنف أنه لن يقتصر على الأعداء فقط، بل يتعداهم الى الأصدقاء أيضا) (3).

ذلك التشخيص المتأني ليس نابعا عن بعد نظري فقط، بل عن معايشة وسلوك يتحلى به الحراك السياسي الشيعي طوال تاريخه الطويل، ثم أن التاريخ الإسلامي قدم لنا وثيقة تاريخية مشرفة وهي دستور المدينة المنورة الذي جاء في أحد فقراته:

(هذا كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم، وأن بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).

وطالما تكثر الصفحات السوداء بممارساتها اللاإنسانية حينما تعكس صورة مشوهة عن الإسلام، كذلك في الطرف الآخر تعلو أصوات متنورة توازن ذلك التراجع الأخلاقي والإنساني عند أصحاب الأدمغة المفخخة، وهكذا فإن (أعمال الإرهاب بجميع أشكالها لا يتجوز حتى مع العدو) (4) ذلك نص ما أكده الشيخ ناصر مكارم شيرازي، فأين هذه الرؤية.. مما ظهر أخيرا من فتاوي وخطب رنانة تفوح منها روائح الذبح والدماء..!!

ويرى السيد صادق الشيرازي ان (الانتصارات تلو الانتصارات التي يحققها الله تعالى لرسوله الكريم، لا تحمله على إجبار الناس باعتناق الإسلام، بل يعرض عليهم الإسلام فمن قبله فهو، ومن لم يقبله فلا جبر عليه بالقبول) (5).

إذن فالتعصب وهو الوجه الأخر للعنف يواجه حصارا خانقا في أفق أصحاب العقول النيرة بين علماء ومفكري الشيعة، كما هو الحال مع أعلنه الشهيد محمد باقر الصدر قبيل استشهاده في خطابه المعروف: (فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل والاضطهاد).

تلك النصوص ليس بمقدورها أن تغطي مساحة الفكر الشيعي الكبيرة، لكنها تقف عند استشرافها في وقفة متأملة وتستدعي من الباحث وقفة متأملة تعتمد النهج الأكاديمي العلمي طريقة في التعامل وأسلوبا يبتعد عن التعصب في التعاطي مع الرؤى والأفكار.

 


1- مجلة النبأ- العددان 67- 68 آب 2002 حوارات مع المرجعيات الدينية

2- نفس المصدر المتقدم.

3- الإمام الشيرازي التنوع الإنساني المبدع تالف مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات الطبعة الثانية 2002- ص148.

4- مجلة النبأ- العددان 67- 68 آب 2002

5- السياسة من واقع الإسلام- السيد صادق الشيرازي- الطبعة الثانية- ص 224.