ردك على هذا الموضوع

مقدمة للقاءات مع الأكراد

المثقفون الكرد... أحاديث وشجون

أجرى الحوارات حيدر الجراح

 

هذه الأوراق ثمرة لقاءات مع عدد من الأدباء والكتاب الكورد في مدينة السليمانية على هامش ملتقى كلاويز الثقافي والأدبي الثامن الذي انعقد في 4/12/2005.. تكشف هذه الأوراق عددا من الحقائق التي قد نتفق معها وقد نختلف حد التقاطع من خلال زاوية النظر إليها... وهي الزاوية (الثقافية) في الحالة الأولى والزاوية (القومية) في الحالة الثانية. إلا أنها تبقى حقائق أخذت تتجذر في أرض الواقع وفي عقول الكثير من المثقفين الكورد والناس البسطاء.

وهذه الحقائق هي:

1- بروز الهوية القومية لأكراد العراق بشكل حاد وجارح أحيانا إزاء الهويات الأخرى في المجتمع العراقي.

2- رسوخ ثقافة الخوف والشك إزاء الآخر الغريب (العربي) حتى اتجاه أبناء البلد الواحد.

3- الإحساس بالقوة المتعاظمة التي تخفي شعورا هشا بالاستمرارية (استمرارية القوة) نتيجة للمخاوف المتراكمة للتجارب التاريخية العديدة.

4- الاستماتة بالتمسك بالمنجز السياسي والاقتصادي المتحقق في مدن الشمال الكوردي، واعتباره منجزا متفردا غير قابل للمشاركة من قبل الآخرين.

5- الاعتزاز باللغة الكوردية إلى حد القطيعة الكاملة مع اللغة العربية، وخاصة من الأجيال الجديدة.

إضافة إلى حقائق أخرى عديدة قد تحتمل الإيجاب والسلب يمكن اكتشافها من خلال هذه الأوراق.

1- الراصد للأدب الكوردي يجد هناك تحولا في الدعوة للأخوة بين مرحلتين، ما قبل التسعينات وما بعدها، يجد غياب هذه الدعوة في المكتوب بعد التسعينات، كيف تعللون هذا التحول؟

* برهان البرزنجي: كل الشعوب مبتلية بما يفكر به السياسيون، وما أتى على الأمم السابقة إلا من جراء آلة الفكر العسكري لقادتهم، لكني عندما ألج فيما تقوله الأبواق ألجأ إلى (كلكم لآدم وآدم من تراب) إذن نحن أخوة، لكن في العراق أرادت المسالك الفكرية أن تكتب ما تؤمن به ربما مستشيرة رأي الشعب أولا، لكن لكل منطلق فكري جديد لابد من إيقاعات تاريخية تتكئ عليها ينفتح كل في صورة، وإلا فهي الصداقة.

* حمه كريم هه ورامي: بعد استخدام الأسلحة الكيمياوية ضد الشعب الكردي في حلبجة ومناطق أخرى في كردستان، وبعد عملية الأنفال والتعريب والتهجير القسري وتهديم ما يبلغ خمسمائة قرية كردية وغيرها من المآسي والكوارث التي قام بها النظام الدكتاتوري المقبور، انطفأت شعلة شعار (الأخوة الكردية العربية) وخاصة بعد تحرر جزء من كردستان، هذا الشعار رفعه الشعب الكردي فقط تزلفا وتقربا من النظام الجائر، ولم نسمع يوما من المقابل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي من يتفوه بهذا الشعار، إذاً هذا الشعار شيء من الهراء يرفعه الضعفاء يسترحمون به الأقوياء، ولم يؤمن به لا الأكراد ولا المقابل، لذا ذهب في أدراج الرياح المميتة، رياح الأسلحة الكيمياوية الفتاكة.

2- هل تحتاج ثقافتنا في الوضع الراهن أن تدعم وجهة تعزيز الوحدة الوطنية والهوية العراقية أو المواطنة العراقية؟

* برهان البرزنجي: نعم تعزيز الوحدة الوطنية جميل دائما لكل الأمم والشعوب، وكم هو جميل أن يعترف الآخر بالآخر وأن يكونوا زراع خير وأن تكون قبورهم أحادية وأن لا يوسعوا في القبور بحجم XL للطرف الآخر لكي يستوعب جماعات، هذه هي المعاناة لكل الأمم والأمة الكوردية، ما نعنيه أننا مع الوحدة ضمن إطار الاعتراف بجمالية الأطراف المكونة- لكينونة المكون، لوحدة الموضوع المراد الكلام عنه، فإن فكّر السياسيون لخلق أجواء تعزز الوحدة الوطنية في أي بلد عليهم أولا إعطاء ما للآخر من حقوق، وبذا يجتمع الشمل وينكرون بذلك عمل المنكر.

* حمه كريم هه ورامي: نعم على الثقافة العراقية عامة أن تدعم وتفرز الوحدة الوطنية في إطار دولة مبنية على المؤسسات المدنية وعلى فكرة الديمقراطية مع الاعتراف بثقافة الشعوب العراقية المختلفة وخاصة الثقافة الكردية العريقة، وعلى الثقافة تربية جيل جديد بعيدا عن التعصب الأعمى الذي لا يرى غيره ولا يحسب له حساب.

* نوري بيخال: دعني أقول لك وبصراحة تامّة بأنني لا أفهم ما تقصده (ثقافتنا)، فإذا تعني بذلك (العراقية) فأنا لا انتمي إليها وليس هناك شيء يربطني بها وبهويتها سوى (جبر التاريخ!)، لأنني ككوردي ضحية توازن القوى ومكايد المصالح السياسية التي لم يشأ القدر بأن يكون لي فيها محل من الإعراب، لكن هذا لا يعني أنني أرفض الآخر العربي أو الآشوري أو غيرهم، بل أكن لهم التقدير والمحبة، وأؤمن بأن لهم الحق في الحرية والانتماء، ومن هذا المنطلق الذي يستمد منطقه من التاريخ السياسي، فإن الوحدة العراقية وصيانتها لا تعنيني بشيء، ولن أجد نفسي مجبرا على أن ادعم هذه الفكرة، التي أراها مجاملة ساذجة يساندها خطاب يهدف إلى إعادتنا إلى ما كنا فيه، لكن قد يقول لي الواقع السياسي- الجغرافي غير ذلك، ولا أتهرب منه، وعلى هذا الأساس أتعامل معه بشكل اربح اللعبة فيه، لا أستطيع، بل وليس من حقي أن أتكلم باسم الكورد، لكن لا اشك قطعا بأن الشارع الكردي يحلم بتحقيق ما أتمناه أنا، ربما ينبغي علينا دعم الحوار بين الجميع سعيا لفك العقد وإيجاد حلول منطقية لتلك المعضلات التي أفرزها المنظور الشوفيني المتجسد في الأنظمة السياسية المتعاقبة طوال ثمانية عقود من الزمن في العراق، لكن أن ندعم ونكون نحن الفاعل والمفعول به لتكرار التاريخ، أظن هذا غير ممكن.

3- هل ترون حاجة في أن تتولى الثقافة العراقية فتح ملفات ساخنة مثل: الطائفية، الاختلاف وقبول الآخر، التعددية السياسية، التعددية العرقية؟

* برهان البرزنجي: الشعوب مساكين، يلعب بمصيرهم جبروت آخر أقوى من تفكير أو من مخيلة أشباه الرجال، فبذلك أول ما يقومون به هو شحن الهمم وتحريك الشارع للقيام بأعمال يستحسن لهم تسميتها بالبطولات، ويسميها المساكين ويلات ومذابح، استنكر وبشدة كل من يزرع الشوك في عيون الأبرياء والأطفال.

* حمه كريم هه ورامي: الطائفية في نظرنا حالة مقيتة يجب محاربتها بقوة لأنها حتما تؤدي إلى التناحر والتنابز التي عفا عنها الزمن أما التعددية السياسية إن كان المقصود منها أن يكون للفرد أو الجماعة تكوين حزب سياسي يرضي رغبة الجميع أو إعطاء الحرية لكل واحد أن يختار حزبا سياسيا أو تنظيما سياسيا إن كان الأمر كذلك فالتعددية السياسية في إطار الدستور مقبولة وجيدة، أما التعددية العرقية إن كان القصد منها إعطاء الحق لأي شعب من شعوب العراق في تكوينه لتنظيماته السياسية أو الاجتماعية فهذا أيضا حق لهم من الحقوق الأساسية التي أقرتها الدساتير الإنسانية وعلى رأسها قانون حقوق الإنسان، فالقوة تأتي من إتاحة الفرصة لإرضاء رغبات الشعب كحق طبيعي له.

* نوري بيخال: لا شك أن فتح هذه الملفات ضرورة في جميع الثقافات، وهي من أساسيات العبور أو تجاوز مرحلة الشمولية، فلا بد أن يدرك الجميع بأن جمال الحياة مرهون بالاختلاف، وهو سر ديمومتها، طبعا إذا تجاوزنا الفهم الايديولوجي وكسرنا قيد أوهام الاستعلاء على الآخر، مؤمنين بأنه هناك الآخر المختلف (عرقيا، سياسيا، ثقافيا، حضاريا.. الخ) قد نفتح على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا آفاقا رحبة، في العراق يجب الاعتراف بالتعددية العرقية قبل السياسية، حيث زجّت رغما عنها في بوتقة ثقافة وسيادة شمولية التي طالما ادعت وتدعو إلى سموها على غيرها، إن جوهر الديمقراطية هو الاعتراف بالآخر والتعددية السياسية، ذلك المبدأ الذي لم يرَ النور على مر العقود الثمانية الماضية، ليس في الممارسة، بل وحتى في الخطاب السياسي العراقي، ولو نتحسس شيئا ما من قبيل هذا هنا وهناك، فالهدف منه كان بكل بساطة تضليل الشارع، المهم من فتح هذه الملفات هو كيفية طرحها على الساحة، ينبغي أن تكون الأسئلة بمستوى طموحات الأطياف المختلفة.

4- هل ثقافة التسامح وثقافة الاختلاف متأصلة في سلوكنا وممارساتنا الحياتية المتنوعة بعيدا عن الحزبية السياسية.. فالعراق مثلا كان كيانا بنفس هذا التنوع والتسامح والاختلاف المعترف بالآخر، لكننا نرى الآن هذا العنف المدمّر، هل ترون في هذا العنف فعلا مستوردا من الخارج أم أنه كان كامنا فينا؟

* برهان البرزنجي: نعم ثقافة التسامح متوفرة بين من رضي أن يكون عراقي المولد، إن التسامح متأصل كأصالة الجبل الكردستاني للعراق لأنه رغم ما فعل بهم من اعتقالات مشؤومة والضرب بالأسلحة الكيمياوية من قبل سلطة الحكم إلا أن الجبل بقي ولم يرحل عن كردستانيته وعن أصالته العراقية وبقي الجوز والتوت والصنوبرات في تربة الوطن متماسكة، وبقيت الطيور فيها تنشد مع السياب.. الشمس أجمل في بلادي من سواها.

أما العنف المدمر لهيكلية بناء العراق فأقول ليست لدى العراقيين ثقافة تفجير الذات، بل إنها مستوردة، العراقي عندما ينسى نفسه يذبح ويقتل وحتى يلطخ يده بدماء آلاف الأبرياء وهذا ما فعل عبر التاريخ في العراق، لكنه لا يفكر بأن يضع نفسه في فكي رحى الموت مطلقا، وكبشر يهاب الموت حتما فلو علم أنه ميت لا محال لما قتل ولما حارب أبدا، لكن مشيئة العقل المدمر وما وراء العقول المدمرة، وجهالة الشعب الذي تعلم فقط كيف يستخدم الخنجر للغدر والبندقية في قتل وإزالة ما مطلوب منه دون أن يفكر بما جاء في النصوص السماوية والإنسانية على السواء.

* حمه كريم هه ورامي: ثقافة التسامح متأصلة ومترسخة لدى بني البشر تنبع من أعماق النفس، ولكن الثقافات المذهبية المبنية على تسلط عنصر على الآخر ثقافة مضللة تجعل من الذين يعتقدون بها كبش فداء يدفعون ثمنها غاليا وهم لا يستطيعون الحركة نحو الأمام لأن كاهلهم مثقل بها والطريق أمامهم مليئة بالأشواك، لو تصفحنا تاريخ العراق القديم منه والحديث لوجدنا أن الضعف المدمر هو السائد، الخلفاء والأمراء والسلاطين أذكرهم واحدا واحدا حسب الترتيب الزمني نجد أنهم قد حكموا العراق بحد السيف، القتل هو دينهم وتشريد الآخرين هو أخلاقهم والانغماس في الملذات على حساب المظلومين هو سيرتهم، ماتوا قتلا لأنهم قتلوا الآلاف قبل أن يقتلوا، والتاريخ شاهد على ذلك، كل ذلك أتى نتيجة اعتقادهم المذهبي وثقافتهم المتهورة المبنية على الظلم، سفك الدماء والغدر بغيرهم.

أما بالنسبة لهذا العنف المدمر الذي يجتاح العراق اليوم أظن أن جذوره في الداخل متأصلة وفروعه متفرقة وإن الأرضية مهيأة والفروع تتغذى من الأصل أو الأصل يأخذ القوة من الفروع، اعتقد أن العنف في حقيقته ليس كامنا في الأعماق وإنما أتى نتيجة تشكل العراقيين بالثقافات المدمرة الطائفية والعشائرية الموروثة القديمة التي بنت أسسها على الأنفال وأخذ الجزية من الآخرين، هذا عربي له نخوة وهذا أعجمي أدنى، هذا الشعب اختاره الله والشعب الآخر أقل وأدنى، فالثقافة في مجملها أتت من تلك الأفكار الهوجاء، لم تأت ثقافة عراقية تدعو إلى الإنسانية والمساواة لحد الآن، نعم هناك أفكار هنا وهناك تدعو إلى أن البشر سواسية كأسنان المشط، ولكن هذا الشعار رفعه المنكوبون الذين شعروا بالحيف، ولم يكن مصداقا في واقع الحياة وعبر التاريخ، إذن أن العراقيين طالما اعتقدوا بأنهم أصحاب الحق ولهم فضيلة قصوى يبقون هكذا، ويترنحون تحت وطأته أبدا.

* نوري بيخال: الإنسان، أي إنسان، فضلا عن أنه كائن غريزي، بما فيه غريزة التسلط والتعالي، إلا أنه محب للحياة والأمان والرفاهية، إذن لازلنا نحمل في طياتنا نوعا من الحب والود تجاه ذاتنا والآخر المختلف، أيّا كان هذا الآخر، ولو لم تكن هذه الثقافة متأصلة في سلوكنا وتجارب حياتنا في التعايش تثبت ذلك لكان الوضع أسوأ، ربما الأحزاب السياسية ونشوء الكيانات والتجمعات الآيدولوجية رغم تمثيلها لأهداف (سياسية - قومية - وطنية) إلا أنها كان لها نوع من الدور في تشويه هذه العلاقات داخل القومية الواحدة، أو المذهب الواحد، والطائفة... الخ، وكانت سببا في حدوث الكثير من الإشكاليات والمعضلات داخل كيان واحد.. قد اختلف معك في شطر من سؤالك، اعتقد أن كون العراق سابقا منذ تأسيسه كيانا يحتضن الأطياف المختلفة، لم يكن طبيعيا.. بل كانت جبرا تاريخيا وسياسيا، والدلالة على ذلك الأحداث الدموية التي حدثت في زمكنات مختلفة، فلنأخذ الثورة الكردية كمثال على ذلك، ولهذا الواقع المصطنع الذي رآه العراق في تاريخه السياسي، نجده غير ثابت، أما بالنسبة للعنف الموجود حاليا، بغض النظر عن الأعمال الانتقامية لبقايا البعث البائد، فلا اتفق معك تماما بأنه مستورد، تقف وراءه الأنظمة السياسية الشمولية الجارة للعراق، التي تخاف من ترسيخ أسس الديمقراطية، إضافة إلى ماكنات إنتاج الشوفينية العمياء في المنطقة.

5- بعد الدموية والعنف في بعض أطراف العراق الموجه ضد أقليات كالمسيحية، أو ضد طائفة كالشيعة وقبله ضد قومية كالأكراد والتركمان، هل يستطيع العراق المستقبلي أن يتجاوز هذه المساحة من التراكم ويتسامح.. كيف تقرأون هذه الآفاق؟

* برهان البرزنجي: العراق بكل أطياف شعبه أعطاه الله ميزة، ألا وهي ميزة التسامح من دون الأمم، أي ميزة التسامح أكبر من غيره، والدليل على ذلك الأكراد عندما دخلوا مناطقهم محررين لم يقتلوا شيخا ولم يقلعوا شجرة واحترموا النساء والأطفال، والأجمل من كل ذلك هو العفو عمن آذى شعبهم وتركه إلى القانون والعدالة حتى تثبت إدانته في الجرائم ضد الإنسانية، والشيعة في إعلانهم التوبة لمن انخرط مع جيش أبرهة عندما أراد مسح الجنوب.

* حمه كريم هه ورامي: إن العنف الدموي ضد الأكراد والأتراك والمسيحيين والشيعة عنف يتقزز منه كل صاحب وجدان حي، يستطيع العراقيون التجاوز عنه إن غيروا أفكارهم وربوا أطفالهم بغير ما هو سائد وبائد، ومن الممكن تركه وقطع دابره إن استطاعوا فصل الدين عن السياسة وعودة الملالي إلى المساجد، وأن يطبقوا ما ورد في القرآن (فذكر إنما أنت مذكر) (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، أما فكرة هذا مؤمن وهذا كافر فهي فكرة تغذي العنف دائما..

* نوري بيخال: ما يخص هذا التداخل في الواقع العربي، أنا لا أجد من الضروري أن أخوض فيه، أما بما يتعلق بقضيتي، فأنا لا ألوم السياسي العربي، بقدر ما انتقد الخطاب الثقافي والديني، مثلا هناك (ادوارد سعيد) الذي لا يستهان بفطنته، فهو مفكر خاض في مجالات الفكر والمعرفة، وحتى في قضايا التحرير وما شابه ذلك، لكن الغريب أنه ليس إزدواجيا فحسب، بل شوفيني حد النخاع، وهذا ما نلمسه في تعامله وتحليله للقضية الكردية، إنه يحرّم على الكرد ما يحلّه للفلسطينيين، وأمثاله كثيرون، كذلك الخطاب الديني في العالم العربي يتعامل برياء مع الأحداث، في الوقت الذي يتهم الكرد بمعاونة إسرائيل، يغض النظر عن الرايات الإسرائيلية التي ترفرف في سماء الوطن العربي.

لابد من أن نتذكر بأن السياسة حقل من حقول الثقافة، فالسياسي مثقف في نفس الوقت، ليس عيبا بأن يكون المثقف سياسيا، لكن المشكلة هنا، بدلا من أن يحاول المثقف الحفاظ على استقلاليته وخطابه النقدي الحيادي، يأتي كخادم للسياسي، وجود العلاقة والتواصل بين المثقف والسياسي حالة طبيعية، شريطة ألا تكون هذه العلاقة سببا ليفقد كل منهم شخصيته... وقد يخوضون الأدوار معا في بعض الأحيان، لكن هذه المشاركة ينبغي أن تكون في سبيل أهداف سامية، فلا يجوز للمثقف أن يسلب من قبل السياسي، ولا يحق للسياسي - السلطة السياسية وتحت أية ذريعة كانت تسخير هذه الطاقة لتحقيق أطماعه السلطوية، لكن في هذه المعادلة يكون العبء الأكبر على عاتق المثقف، فهو بدوره يستطيع أن يساهم في وضع القرارات، وفي نفس الوقت أن يكون بوقا للسياسي.

أخي العزيز يجب أن لا تنسى بأن الكوردي ما يزال يواجه هذا العنف الدموي، كما الشيعة والمسيحيين، نعم، باعتقادي سيتجاوز العراق هذا الوضع المرعب، وذلك بعد إجراء العملية الانتخابية وترشيح حكومة ذات شرعية أكثر، هذا إذا لم يحرم قومية ما، أو طائفة من حقوقها المشروعة تحت غطاء العملية الديمقراطية، أي إذا لم يتحقق ويتجسد بنود ومواد قانون الدولة المؤقتة، وبالذات المادة (58) التي تنص على تطبيع الوضع في المناطق والمدن التي مازالت تعاني من آثار سياسة التطهير العرقي والتشويه الديموغرافي. تسألني شخصيا أنا (متشائل) حول المستقبل السياسي للعراق، لا سيما هناك ذاكرة تاريخية سياسية لي، تذكرني وتحذرني بأنه بعد كثير من الوعود والاتفاقات إلا أنني أصبحت ضحية وفريسة المصالح الدولية.. نحن نريد ضمانا عربيا (قبل كل شيء) ثم دوليا، ضمانات مكتوبة وليست شفاهية بأننا من الآن وبعدئذ لن نكون الأخ الصغير في العراق.

6- يتداخل السياسي مع الثقافي بشدة في واقعنا العربي الإسلامي، إن من جهة علاقة المثقف برجل السلطة وسعيه للارتماء في أحضانه من خلال مؤسساته العديدة، أو من خلال لهاث السياسي نحو الهامش الثقافي لتسجيل حضور مغاير لصورته السائدة، كيف يمكن أن يوجد مثقف غير متسيس (سلبية الأداء السياسي) وسياسيا مثقفا لا يطمحان لتبادل الأدوار فيما بينهما؟

* برهان البرزنجي: العراقي سياسي بطبعه لأنه الوحيد يعيش دائما في معاناة وربما هو أكثر الناس استماعا إلى الأخبار السياسية والثقافية اليومية، فأقول لو ترك القطا لنام، ولو ترك المثقف وشأنه لكتب للسياسي ما يتعلم.

* حمه كريم هه ورامي: كل إنسان سياسي خاصة الإنسان المعاصر، والسياسة هنا بمعناها العام، لا السياسة التي تتبادر إلى أذهاننا نحن الشرقيين، لذا فإن المثقف الحقيقي شاء أم لم يشأ هو سياسي لأنه دائما يفكر فيما يدور حوله من الأمور ويلتقطها وينتقدها، والسياسيون بصورة عامة في العراق أهل الكراسي الفارغة أتوا عن طريق الظلم واستخدام القوة، لهذا يرى نفسه صاحب الحق المطلق ويظن في قرارة نفسه أنه هو الذي قد غير عملية التاريخ ولم يغير شيئا، لذا لا يحب مشاركة الآخرين في قراراته، فهذا النوع من السياسيين يعتبرون في عداد الوحوش الكاسرة، فعلى المثقف أن يبتعد عنهم ولكن لا يتحرك بعيدا عن النقد والتوجيه إن استطاع ذلك، أما السياسي الحقيقي الذي يأتي عن طريق صناديق الانتخابات يجب أن يكون مثقفا قبل أن يكون سياسيا، ومن هنا فإن المثقف لا يربط العلاقة بينه وبين السياسي على أساس المواربة والنفاق، بل على أساس الحكمة والموعظة الحسنة يسديها المثقف إلى أخيه السياسي، والسؤال هنا، هل الجهلة من السلفيين يعطون المجال للديمقراطية حتى يظهر من خلالها هذا النوع من السياسيين؟

7- في العراق المستقبلي هل ترون حاجة لأن يسهم المثقف في تفعيل ثقافة معارضة سياسية منظّمة ومراقبة لعمل السلطة؟

* برهان البرزنجي: ألا يكفينا استعمال وتشكيل ثقافة المعارضة، ألا تبا لمن جاء بالعنف كي يحذف الآخر ويكون بالنتيجة هجرة ومعارضة، لنكن ديمقراطيين حقيقيين، وأن يكون للمثقف صوته الحر وأن يحترمه السياسي، وبالتالي السياسي هو من واقع المثقفين ومن رحم أم شربت من حنان العراق أو الوطن، نرجو أن يكون عراقنا المستقبلي عراقاً واحداً خالِ من جهة أسمها المعارضة وجعل أرضية العمل والإيعاز لها بأن لا تنبت على صدرها نبتة المعارضة أو نبتة الدكتاتورية مرة أخرى.

* حمه كريم هه ورامي: نعم.. إن حصلت هذه المساهمة فإنها عن الديمقراطية ولا شيء غيرها، فإن مراقبة الدولة من قبل المثقفين أمر ضروري وحتمية لترسيخ للديمقراطية وتوجيه الدولة نحو الأحسن.

* نوري بيخال: هذا مرهون بالمستقبل السياسي في العراق، وماهية السلطة المتأتية بعد الانتخابات، هل تقبل بالمعارضة السياسية، كممارسة مدنية وتؤمن بنقل السلطة سلما وعن طريق صناديق الاقتراع، أم تتكرر التجربة البعثية، حيث تأتي قوى وأحزاب سياسية خاضت الكفاح ضد الشمولية والعسكرتارية البعثية متراجعة عن مبادئها الثورية والوطنية؟ وعسى أن أكون مخطئا في ظني هذا، لكن في كل الأحوال يجب أن يكون ناقدا ومراقبا ومعارضا للسلطة وليس ضدها.

8- ألا ترون حاجة لأن يسهم المثقف في إعادة الثقة بين الشارع والحياة الحزبية، ليس في أن ينتمي المثقف لهذه الأحزاب، ولكن في الدعوة لحياة حزبية عراقية تعترف بالآخر؟

* برهان البرزنجي: حاجتنا إلى ذلك كثيرة، المثقف أينما وجد هو مدرسة تعليمية متنقلة.

* حمه كريم هه ورامي: أرى ذلك فإن إعادة الثقة إلى الشارع العراقي أمر ضروري وعقلاني، لأن الشارع العراقي عانى ما لم يعانيه أي شعب من الشعوب وخاصة أن نضع نصب أعيننا، الشعب الكردي وإخواننا الشيعة في الجنوب.

* نوري بيخال: لابد أن يسهم المثقف وبكل جدية في إعادة هذه الثقة، وكذلك في تصحيح معاني الانتماء والتحزب، وكما يقال (ليس كل الأبقار في الظلام سود) أي يجب ألا يوهم المثقف نفسه والآخرين بعدم ضرورة الحزب، لكن من حقه وحق الشارع أن يسأل عن ماهية الحزب وتكوينه، لأن وجود الحياة الحزبية والتعددية السياسية في الساحة السياسية لا تشكل خطرا، هذا إذا كان ضمن القانون وأطره التي تحدد للكل حقه وواجبه.

9- هناك قطيعة واضحة بين الثقافي والسياسي في وضع العراق الحالي الذي هو أحوج ما يكون إلى تقارب هاتين الوجهتين، هل ترون حاجة لهذا التقارب، وإلى مَ تردون هذه القطيعة؟

* برهان البرزنجي: أنا رأيت في كوردستان عكس ذلك، السياسي والمثقف في حديقة واحدة يتجولون دون حراس، فنحن بحاجة إلى العدالة أيها الأخوة، وعدم كتابة شعارات فيها التقريب إلى أبواب التفرقة، إذن الكل يشمر ساعده للبناء، والشعراء إلى كتابة الشعر الجميل.

* حمه كريم هه ورامي: كما أشرت سابقا حبذا لو عادت الثقة بين هذين الطرفين- المثقف والسياسي- لأن النظام السابق كان ينظر إلى المثقف وكأنه عدوه اللدود، لذا انفصمت عروة العلاقة بينهما وجعل ينظر كل إلى الطرف الآخر وكأنه قاتل أبيه.

* نوري بيخال: أظن أنه في الأسئلة السابقة أجبت على هذا، وأكرر بأنه ينبغي أن يكون هناك تواصل وتماس بين السياسي والمثقف خدمة لتجسيد وتحقيق أسس الديمقراطية، واعتقد أن الحقيقة باتت واضحة للجميع بأن سبب هذه القطيعة السياسية، الشمولية العمياء التي أرادت بألا يكون هناك من هو خارج رؤيتها وعقيدتها، إضافة إلى بقاء الشك لدى المثقف حول مدى مصداقية ادعاء هذا الحزب أو ذلك للديمقراطية.

10- كيف ينظر المثقف الكردي إلى الآخر المختلف؟

* نوري بيخال: الآخر المختلف واقع لا مهرب منه، بل أكثر من ذلك هذا الاختلاف سر ديمومة الحياة وجمالها، هذا الآخر مرآة أرى من خلالها ضعفي وأخطائي، سر وجودي هو في وجود الآخر، والعكس صحيح هناك آخر مختلف في رؤيته لطريقة الحياة والتفكير، لكن ذاكرتنا التاريخية والانتماء تجمعنا، وهناك آخر مختلف ليس في طريقة التفكير في الحياة فقط، بل في الذاكرة والانتماء، إذن أنا الآن بين التعامل مع نوعين من الآخر المختلف، لذا أبعاد التعامل وكيفيته معهما تختلف، أي نظرتي للكردي المختلف، تختلف حينما أتعامل مع الآخر (العربي- التركي- الفارسي) أنا أؤمن بحرية الآخر الثاني وحقوقه المشروعة وانتمائه، وعليه أن يحترم حريتي وحقوقي القومية وانتمائي، وهذا ما لم أجده عبر التاريخ، قد لا يكون هذا اعتقادي الشخصي ككردي، بل تجد (العربي- التركي- الفارسي) ليس مطلقا، لأنني أعي أن هناك ضمائر حية تخطت حدود الشوفينية، لكن هذا الموقف نسبي، ولا أجد بأن له القدرة على تغيير وجذب الشارع، أي ليس باستطاعة قوته الحصانية جر الشارع والسلطات السياسية في تلك الدول، وأذكرك بأنني هنا اعبر عن نفسي وليس عن كل المثقفين الكرد.

 


* برهان البرزنجي- شاعر/ كركوك.

* حمه كريم هه ورامي/ كاتب دراما وروائي.

* نوري بيخال كاتب وصحفي/ كردستان - أربيل عضو الاتحاد الدولي للصحفيين وعضو عامل في نقابة صحفيّ كردستان/ سليمانية.