ردك على هذا الموضوع

دم الشهادة من ثوابت الفكر الحسيني

د.عبد الباقي الخزرجي

 

نقاط الالتقاء أو التقاطع تنمو بين الأشياء عندما توجد نقاط إشعاع تنطلق من قبل الأفكار الأساسية لتلك النقاط التي تستند إليها تلك التقاطعات أو تلك الالتقاءات وعندما يريد المرء أن يذهب إلى التوجس من أفكار معينة يحاول أن يسقط عليها عمليات انزياحية فكرية تدفع بهذه الأفكار إلى غير دلالاتها الوضعية، أو بالأحرى حتى إلى دلالاتها المجازية.

ومن هنا حاول بعض الباحثين ممن أهتم في دراسة الفكر الحسيني، ودراسة المرجعيات الثقافية التي ينتمي إليها هذا المفكر، إذ ينطلق من رؤية أساسية مفادها إنه شعّ من حجر الرسالة، وتغذى من فم الرحمة، ونهل من عبق الهدى، لأن الفكر الحسيني، فكر قائم على ثوابت عقائدية، وليست متغيرات يستطيع الزمن أن يتعامل معها على وفق متطلباته الضرورية، وهذا الثبات كان نابعا من ثوابت التراث الإسلامي لا من متغيراته إذ هناك جدلية قائمة في التعامل مع التراث الفكري الإسلامي تسمى بجدلية الإتباع والتحول التي تنص على أن الموروث العربي في نفوسهم كان ينقسم على قسمين: قسم ينتقل عبر الزمن بوصفه تراثا مقدسا لا يمكن التفكير بمجرد التجاوز عليه، لا من بعيد ولا من قريب، وهذا التراث الذي يمثل مجموعة أصول وتقاليد تعارف عليها العرب منذ الزمن الأول، تجسدت في قيم أصيلة وسامية وهذه اكتسبت ميزة الاستقرار في نفس الإنسان العربي حتى إذا جاء الإسلام رسخ هذه الثوابت وأعطاها عمقا فكريا وعقائديا، وأكد ضرورة المحافظة عليها وتحويلها إلى رؤية سلوكية وفق منهج ثابت قائم على دعائم عقائدية مستقرة، إذ بدأ الصراع بين الخط السياسي والديني بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يجمع الخطين معا في شخصيته، ولكن بعد ذلك حدث الانشقاق بين الخطين، إذ مثل الخط السياسي من كان يمثل الخلافة الإسلامية، وأما الخط الفقهي والمرجعي الديني فقد كان يمثله الخط المبعد عن الخلافة، إذ بقي هاجس الإحساس بالظلم قائما لدى الخط المرجعي الديني، وكان الناس يعتقدون بأن الخط السياسي يجب أن يلحق بالخط الديني، فلذلك مثّل الخط السياسي المتغيرات في جملة العمل التراثي الإسلامي، ومثّل الخط الديني جملة الثوابت في الفكر الإسلامي، وبقي هذا الانفصال والابتعاد حينا من الزمن، حتى اجتمعت مرة ثانية في شخصية الإمام علي (عليه السلام) إذ جسد نقطة التقاء الثوابت بالمتغيرات ومثّل عودة الروح إلى الجسد، فكان سياسيا من الطراز الأول، وكان فقيها محدثا عالما من الطراز الرفيع، وكان قائدا عسكريا من الطراز الأمثل، بعد ذلك رجع الانفصال على أشده بين الاتجاهين إلى أن مثّل هذا الخط السياسي بنو أمية ومثّل الخط الديني بنو هاشم من آل الرسول (ص) وأخذ من تقلد السلطة من بني أمية يحس ويشعر أنه يمتلك المرجعية السياسية الحقيقة فضلا عن أنه يمتلك المرجعية الدينية المزيفة، وأنها في الحقيقة ملكة شرعية لبني هاشم، وهذا الإحساس أملى عليهم شعورا مفاده يجب الجمع بين الخطين حتى وإن كان الثمن التخلص من كل من يمثل الخط الديني، ونجحت هذه الفكرة في التخلص من الإمام الحسن (عليه السلام)، ولكن فشلت المحاولة الثانية من التخلص من الإمام الحسين (عليه السلام)، نعم نجح يزيد في التخلص من الإمام الحسين (عليه السلام) جسدا لا روحا، لماذا؟ لأن الدم انتصر على السيف، ولأن الثابت انتصر على المتغير، وأن الصراع بين الخط السياسي والخط الديني بلغ أوجّه في صحراء الطف التي رسمت معالم الثبات والاستقرار لآلاف السنين القادمة.

إذ كان التباين بين من يمثل الخط السياسي الأموي، يزيد بن معاوية وبين من يمثل الخط الديني، الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)، وهو أساس لكل حركة تنمو من بين دوافع كلا الخطين إذ كانت دوافع الخط السياسي دوافع وقتية مرتبطة بزمن محدد، تحصل على منفعة وربح وانتصار لا تملك الاستمرارية والثبات لأن الأساس الذي قامت عليه هذه الدوافع أساس هش، نعم يجعل من القوة وسيلة لغاية مؤقتة وهي البقاء في السلطة عن طريق الظلم والغدر والاحتيال لمدة معينة، لكنها سرعان ما تنهار وتتلاشى ولا يبقى منها إلا الطعم المرّ، أما حركة النمو التي أينعت وارتوت من دم الشهادة كانت مرتبطة بزمن مطلق، وفكر حر، وهدف سام، لأنها كانت وسيلة لغاية يتلاشى فيها الزمن وينطوي، إذ يجعلك الإحساس بالزمن تنطلق دائما عبر التاريخ انطلاقا عكسيا، وكذلك تعيش ذلك الزمن بتفاصيله الدقيقة موحيا إليك ذلك الارتباط الروحي المقدس بتلك الثوابت التي منحها ذلك الفكر الذي أعطى للدين سمة، وللإسلام طعما، تحس معهما بالانتماء إلى عالم الشهادة من خلال بريق الدم الخالد الذي قهر التاريخ.

ومن هنا نلمس أن قيمة الفكر الحسيني المثلى هي دم الشهادة الذي جعله في مقاومة الدنيا ملذاتها من الشهرة والجاه والسلطة والمكانة التي كان يتمتع بها صاحب التضحية، لكنه أراد أن يقدم للعالم أجمع وللمسلمين خصوصا رؤية شاملة ومتكاملة لنظرية الشهادة التي عُدّت رمزا من رموز الثبات والاستقرار في الفكر الحسيني، إذ أصبح المنتمي إلى هذا الفكر ينطلق في جميع سلوكياته الحياتية من خلال نظرية القياس المتكاملة التي وضع معالمها وأصولها وقوانينها دم الشهادة في كربلاء، إذاً نصل إلى حقيقة مفادها إن جميع الثوابت التي خرجت من هذه النظرية أخذت عمقا معنويا وصل بها إلى درجة اليقين، وأخذت عمقا ماديا امتد بها إلى زمن متناهي لا حدود له إلا ما شاء الله، ومن هنا أثبتت هذه الأفكار صدق المبادئ التي دافعت وضحت من أجلها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة من الآن على الرغم من محاولات الطمس والإخفاء التي تعرضت لها هذه الأفكار عبر التاريخ، إلا أنها اكتسبت خلودها من كنه ما فيها من استقرار وثبات، لأن الثابت يبقى مستقرا لا يتحرك حتى وإن بدا في بعض الأحيان اختلاف في شكله الخارجي إلا أن الجوهر لا يزال كما هو، أما المتغير فنجده كل يوم في شكل تبعا للمؤثرات التي يفرضها الزمن عليه وتبعا للأفكار والقيم التي يستند إليها، لأنه يتحرك على وفق نظرية تقوم على حركة ومنفعة وأنانية ترتبط بزمن متحرك ومحدد.