ردك على هذا الموضوع

ضغط العولمة: برجماتية ما بعد الحداثة في مواجهة الإسلام

محمد عثمان

 

أول إشكاليات العولمة تبدأ من تعريفها ذاته، لأن الذين يستهدفون الترويج لها يصنعون لها التعاريف التي تقرن بينها وبين العالمية، حتى تبدو وكأنها شيئاً مفروضاً لا مجال للخيار فيه.

بينما يذهب الرافضون إلى أنها تعبير دعائي لما انتهت إليه الليبرالية الاقتصادية المتأخرة وكما يقول السيد ياسين: (إن صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة نظراً لتعدد تعريفاتها التي تتأثر أساساً بانحيازات الباحثين الأيديولوجية واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً).

وأود أن أوضح للقارئ منطلقاتي بأن أحدد له بداية مفهومي عن العولمة: فالعولمة كما أفهمها هي تعاظم شيوع نمط الحياة الاستهلاكي الغربي، وتعاظم آليات فرضه سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وعسكرياً بعد التداعيات العالمية التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشرقي، وعلى ذلك فإن العولمة تكتسب عالميتها من مدى اتساع قدرتها على فرض هذا النمط على شعوب الدنيا وليس على أساس كونها واقعاً فعلياً يحيط بالشعوب والبلدان.

وعلى الرغم من الأهمية البالغة لتحليل الاقتصاديين للمسألة إلا أن أخطر ما في الموضوع، هو أن طرح القضية على أساس كونها مجرد صراع حول المصالح الاقتصادية يمثل تغييباً لوعي الشعوب الإسلامية على وجه الخصوص، لأنه ينطوي على مصادرة مبدئية فحواها أن المسألة لا تعدو كونها خلافاً في التشكيل النسبي لتلك المصالح المتنازع عليها داخل إطار المنظور المادي للوجود، فالبحث يتم في مدى إفادة أو مضار الدول والأمم من العولمة وخسائر ومكاسب الطبقات المختلفة في ظلها، فإذا وجدت أمة كالأمة اليابانية أو الصينية في نفسها العافية على دخول الصراع رحبت بالعولمة، وإذا وجدت الطبقات العاملة الأمريكية في العولمة خطراً متمثلاً في الاستعاضة عنها بالعمالة الأرخص أجراً في الدول النامية رفضت هذه العولمة.

لكن المنظور الإسلامي عندما يحدد موقفه من العولمة فلا بد أن ينتقل إلى طاولة بحث أخرى غير تلك الطاولة التي يدور البحث عليها حول التفاوض على مكاسب أو خسائر تعميم النموذج الاستهلاكي الغربي، لأن المنظور الإسلامي أكثر اتساعاً وشمولاً من الإطار المادي الضيق الذي تسعى العولمة في نطاقه، كما أن الغايات الإسلامية تتجاوز تلك الغايات المادية الاستهلاكية إلى غايات أرحب تتواصل وتستوعب الأبعاد المختلفة للإنسان المادية والروحية معاً، وحتى في الجانب المادي فإنه على العكس من المنظور الغربي الذي يتم تحديد الأولويات الاقتصادية فيه تبعاً لما يقتضيه تحقيق النموذج الاستهلاكي البراجماتي. فإن أولويات المصالح الاقتصادية في الإسلام تتحدد تبعاً للغايات العقائدية المستهدفة من السعي الإنساني في التصور الإسلامي.

ومع ذلك فلا بد أن نشير أولاً إلى أنه من الناحية الاقتصادية البحتة فإن الحلم التبشيري الإغوائي لدعاة العولمة بتعميم نموذج الإنسان الاستهلاكي الغربي ليس سوى فانتازيا خادعة لأن موارد العالم أجمع لا تكفي لتحقيق ذلك النموذج.

والمسألة ليست فقط تحقيق مصالح الدول الغنية على حساب الدول الفقيرة حتى ولو أدى ذلك إلى إفنائها، ولكن تحقيق مصالح النخب الرأسمالية في تلك الدول والنخب الحليفة لها في الدول الأخرى على حساب كل شعوب العالم، فالعالم يتم تقسيمه إلى مراكز وهوامش وكلما ازداد ثراء المراكز ازداد فقر الهوامش، فإذا كان الميكانيزم الأساسي للعولمة هو تعاظم أسعار المواد الأولية، وكانت الأخيرة هي المقوم الأساسي لثروة الدول الفقيرة، فإن تنامي العولمة يعني سحق الدول الفقيرة لحساب الدول الغنية.

ومن ناحية أخرى فإن الالتزام بقانون السوق الذي يحكمه الأقوى واستهداف الجانب الربحي دون أية اعتبارات أخرى وعمل آليات العولمة في تقليص سلطات الدولة لحساب أقوياء السوق وتخفيض التأمينات الاجتماعية أو إهدارها، كل ذلك يعني تركيز الثروة في يد النخب المسيطرة على حساب الشعوب حتى داخل الدول الغنية ذاتها.

فهل يجب - كما يقول الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران - أن نسمح بتحول العالم إلى تلك السوق الشاملة الواحدة التي يمكن أن يعمل فيها فقط قانون الأقوى بهدف وحيد هو: كيف يمكن الحصول على أكبر ربح في أقصر وقت؟ ذلك العالم الذي تستطيع فيه المضاربة خلال ساعات أن تدمر عمل ملايين النساء والرجال؟!. إذن فالحلم الزائف للعولمة يغوي أبناء الأرض بمقايضة مقوماتهم الروحية بالمقومات المادية بينما الذي يحدث في الواقع بالفعل أن الجماهير الغفيرة من شعوب العالم تقايض مقوماتها المادية والروحية معاً في مقابل الوهم.

لكن الرؤية الإسلامية لا تقف عند حدود هذا الموقف الاقتصادي من العولمة لأنه حسب تلك الرؤية فإن المسألة تنطوي على صراع أيديولوجي كامن وراء الصراع الاقتصادي، والزعم بأن سقوط الماركسية يمثل شاهداً واقعياً على انتصار الليبرالية وسقوط عصر الايديولوجيات ونهاية التاريخ ببلوغه غايته الحضارية في الليبرالية الغربية كما يقول فوكوياما، هو زعم يجافي الحقيقة لأن سقوط الماركسية يعود لتناقضاتها الذاتية ولا يمثل بالضرورة شاهداً على انتصار الليبرالية التي تواجه أزمات شديدة، فيما يحدث بفعل العولمة الآن من استقطاب حاد لشعوب دولها الغنية (دول المركز) بين نخب شديدة الثراء وجماهير غير قادرة على الاحتفاظ على الحد الأدنى من الأمان المعيشي الذي كانت تحتفظ به الشرائح العريضة من الطبقة الوسطى في ظل دولة الرفاه، ولأن الغرب لا يفكر إلا في نطاق ذاته، إن الأيديولوجية الماركسية وليدة الحضارة الغربية في النهاية ومن ثم فإن سقوطها قد يعني سقوط أيديولوجيات تلك الحضارة ولا يعني سقوط الأيديولوجيات الأخرى الخارجة عن نطاقها.

وإذا أردنا أن نفهم الفكر الذي يقود الحضارة الغربية الآن، فلا بد أن نعود إلى مرحلة المخاض التي نتج عنها، أي إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فالحضارة الغربية منذ عصر النهضة تتشكل في إطار الفكر العلماني الذي ينطلق من الأسس المعرفية الأغريقية التي تقتصر على العقل وخبراته في إدراك الحقائق وتصريف شؤون الحياة، وهنا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بلغ الصراع مداه بين الفلسفات المادية والمثالية (التي تشترك في أسسها العلمانية) دون الوصول إلى أي يقين معرفي مما سبب حالة من القلق الإنساني، وبعد أن حاول الماديون طرد الدين من العالم بينما أراد المثاليون أن يحددوا له مكان إقامته جاء نيتشه وأعلن عن موت الإله، بل وطالب بالقضاء على ظلال الإله الكامنة في المشروعات الفكرية المادية والمتمثلة في المنظومات العقلانية والأخلاقية لتلك المشروعات المادية، وكذلك في الوعود الإنسانية التي تبشر بها تلك المشروعات وجاءت المشروعات الحداثية كانعتاق ضد الرؤى الدينية والمشروعات التأملية الهيجلية، حتى توج القرن التاسع عشر بأفكار وليم جُيمس البراجماتية التي أسقطت الحقيقة وعملت على اختزالها في مفهوم المصلحة أما شلر الذي ينتمي إلى نفس المدرسة البراجماتية فكان أكثر صراحة حيث أعلن استناد فكره إلى مقولة بروتاجوراس السفسطائي: (الإنسان مقياس كل شيء).

وبتحليل بنية الفكر القائد للحضارة الغربية الذي يقود العولمة الآن نجد أنه بانتقال مركز الثقل الغربي إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، فإن قيادة الفكر الغربي بوجه عام انتقلت بدورها إلى الفكر البراجماتي الأمريكي الذي ينطلق من القناعة المسبقة بعجز الفكر الفلسفي الغربي (المادي والمثالي معاً) عن إدراك الحقيقة المعرفية، ومن ثم اللا جدوى في مواصلة البحث في الأسس المعرفية الإبستمولوجية أو العمل على الوصول إلى إجابات فلسفية عن الأسئلة المصيرية الكبرى، والإعتياض عن ذلك بالإلهاء الحسي النفعي المتواصل، وعلى ذلك فالبراجماتية لا تعتقد بصحة الأفكار إلا بمدى ما تحققه من منفعة عملية والحقيقة لديها هو كل ما يأتي عن تجريبه أو تطبيقه تلك المنفعة، فليس مهماً مثلاً أن يكون الله موجوداً أو غير موجود، وإنما المهم على حد قول وليم جيمس الأمريكي (أهم منظري البراجماتية): (أن نتمتع بإلهٍ إذا كان لدينا إله).

وعندما تكون المنفعة العملية هي المعيار الوحيد للحكم على الأشياء، فإن ذلك يؤول في التطبيق العملي إلى إحلال المصالح الخاصة محل المبادئ والقيم التي تحكم الأمور، فالبراجماتية هي عملية انتقال بارعة من المذهبية الفلسفية المتزمتة إلى التبرير الفلسفي لكل ما هو قائم بالفعل على أنه هو ما تفرضه الاحتياجات الإنسانية، وهي في الوقت نفسه تعبير دقيق للغاية عما بلغه النسق الفكري العلماني للحضارة الغربية في أقصى نموها المادي، ومن هنا كان التركيز على اللذة والاستهلاك المادي، فالإلهاء الحسي المتواصل صار بديلاً عن البحث الفلسفي الحقيقي. كما أن البراجماتية باعتمادها النفعية كمقياس للحقائق لا تؤدي إلى تبرير الانتهازية فقط وإنما إلى صبغها بصبغة الحقائق الجديرة بالاحترام والتقدير.

وفي أوائل القرن العشرين كتب وليم جيمس في رسالة إلى أحد أصدقائه أن البراجماتية ستدمغ فكر العالم كله بطريقتها في خلال عشرة سنوات، وإن كانت تنبؤات وليم جيمس قد تأخرت بعض الوقت غير أن الواقع الذي تحقق أثبت أنها كانت صحيحة بالفعل، فبانتقال مركز الثقل الغربي إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية قادت الفلسفة البراجماتية الفكر الغربي بوجه عام، ثم كانت هي المسؤولة عن التدهور السريع في سقوط المعسكر الشرقي أيضاً.

والذي يؤكد اكتساح البراجماتية للمعسكر الشرقي أيضاً أن أغلب الرؤساء الذين جاؤوا إلى تلك البلاد بعد سقوط الشيوعية عندما سألوا عن الفلسفة التي يؤمنون بها، أجابوا: إنها الفلسفة البراجماتية.

والتطبيق السياسي لتلك الفلسفة الأمريكية يعني اختزال طاقات شعوب العالم من خلال العولمة إلى طاقة دفع لماكينة الحياة البراجماتية الاستهلاكية للنخب الرأسمالية والسياسية المسيطرة، فهي تبتعث من خلال آليات الغرب الأمريكي الإعلامية المسيطرة على العالم أشد الرغبات الاستهلاكية سعاراً في نفوس الناس في نفس الوقت الذي يتم فيه إغراؤهم بتحطيم كل المبادئ والقيم في سبيل تحقيق تلك الرغبات، ولأن موارد العالم أجمع - كما قلت - لا تكفي لتعميم تحقيق تلك الرغبات، فإنه لا يستطيع تحقيقها إلا أكثر المتصارعين براجماتية بينما يؤول لهاث الجماهير الغفيرة إلى طاقة دفع لماكينة تلك الحياة البراجماتية التي تقودها النخب السياسية والاقتصادية المسيطرة على العالم.

لكن المشكلة التي يقع فيها الغرب الأمريكي نفسه الآن أن البراجماتية التي استطاعت بتأكيدها على عجز الفكر الفلسفي الغربي عن إدراك الحقيقة المعرفية تحطيم كل الفلسفات والأيديولوجيات الغربية، قد تولد عن تداعيات عجزها الفلسفي نفسه وما تنطوي عليه من مضمون عبثي وتداعيات نتائج تطبيقاتها الظالمة على شعوب المجتمعات المعاصرة، تلك الأفكار الما بعد حداثية التي تؤكد على هذه التداعيات دون تقديم مشروع بديل لها.

وتفسير ذلك أن البراجماتية تصنع إطاراً إلهائياً لمضمون عبثي فهي تقول لك أبحث عن المصلحة والمتعة واللذة بدلاً من أن ترهق نفسك في البحث عن الإجابة على الأسئلة المصيرية في الحياة مثل: من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ وهل الله موجود أم غير موجود؟ وما هي العدالة؟ وما هي القواعد التي يجب أن تحكم علاقتنا بالآخرين؟.

فالبراجماتية تصنع من خلال الحث المستمر على المصلحة والمتعة واللذة تصنع إلهاءً متواصلاً عن التفكير في كل ذلك، ولكن العقول المفكرة في الغرب لا بد أن تنتبه إلى ذاتها وتكتشف بعد مرحلة من الإلهاء أن البراجماتية لم تجب على شيء من تلك الأسئلة المصيرية ومن هنا جاءت ما بعد الحداثة، لأننا إذا قمنا بطرح حالة الإلهاء الحسي من البراجماتية فلن يبقى منها غير العبث.. وتقوم نزعة ما بعد الحداثة على رفض كل فلسفة تقوم على النسق الكلي أو على مفهوم التاريخ أو على مفهوم التطور فضلاً عن الأساس الموضوعي للمعرفة. وكذلك رفض أي معنى لكلمات مثل: يقين أو دوافع أو حق أو ذات، وإذا كانت الحداثة تمثلت كانعتاق من الرؤى الدينية والمشروعات التأملية الهيجيلية، فإن الموقف الما بعد حداثي الذي ينطلق من تداعيات اللا معرفية الفلسفية لا ينزع المشروعية فقط عن الرؤى الدينية والأيديولوجيات الفكرية التأملية، ولكنه ينزعها عن المشروعات الانعتاقية المضادة لها أيضاً. فما بعد الحداثة تحمل من الحداثة الذات المنقسمة المفتتة ولكنها تحمل كل مسافة نقدية منها أيضاً، فهي (ضد الضد) وذلك لأن الشيء الأساسي الذي تحمله هو قناعتها بعدم إمكانية المعرفة، وإذا كان الحقيقي هو (العقلاني (المادي) في عصر التحديث وهو المادي المتغير في عصر الحداثة ففي عصر ما بعد الحداثة لا يوجد أي أساس للتمييز بين الحقيقي والزائف وبالتالي فلا حقيقي ولا زائف).

وتشهد ثقافة ما بعد الحداثة على أن الرأسمالية المتأخرة (التي يتم تعميمها من خلال العولمة) أدت إلى جعل الذات المعاصرة شبكة مبعثرة مزاحة من المركز- من التعلقات اللبيدية المفرغة من الجوهر الخلاق ومن الجوانية النفسية فهي وظيفة عابرة من هذا الفعل أو ذاك من الاستهلاك أو خبرة وسائل الإعلام أو العلاقة الجنسية أو الموضة.

وهكذا فإن الأفكار الما بعد حداثية لا تعمل فقط على تأكيد المضمون العبثي للبراجماتية ولكن أيضاً على تجريدها من إطارها النفعي الإلهائي الزائف، وهي مع ذلك لم تقدم أي بديل فكري، فهي عملت على تفكيك كل التصورات والأفكار وعلى تفكيك الإنسان ذاته في النهاية.

الخلاصة من كل ما سبق أن الفكر الكامن وراء العولمة هو الفكر البراجماتي النفعي الإلهائي ولكن يزاحمه الآن ويقف خلفه في وعي العقول الغربية المفكرة الفكر الما بعد حداثي الذي يتضمن من بين ما يتضمن البعد التفكيكي التدميري.

وعلى الرغم من أن مشارف القرن الجديد تنبئ بتفوق قوى أخرى اقتصادياً وتكنولوجياً مثل اليابان وألمانيا على الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يرصده محللون عالميون مثل لسترنارو الأمريكي وهانس بيترمارتين وهارالد شومان الألمانيان وشينتارو إيشهارا الياباني، إلا أن هذه القوى لا تخرج في الأساس عن المنظومة الفكرية الحضارية الأمريكية، ولا تمثل أيديولوجياً تناقضاً جوهرياً معها، بل أن هاتين الدولتين قد تراجعتا منذ عصر العولمة عن الكثير من أهدافها الاجتماعية، وكما يقول الألمانيان هانس بيتر ومارتين وهارالد شومان: (فإن الدول التي لا تزال ثرية حتى الآن قد راحت نفسها تقوم في ظل العالم الجديد - الذي لم يعد فيه للبعد الجغرافي أهمية تذكر في تحديد العلاقات المتينة القائمة بين المدن - بهدم ما سادها حتى الآن من نظام للتكافل الاجتماعي بسرعة تدعو للدهشة والعجب، وفي نفس الوقت تلم الثقافة الواحدة العالمية شمل النخبة دون أهمية تذكر للانتماء القومي).

لذلك فعلى الرغم من تصاعد قوى عالمية كاليابان والصين خارج النطاق الإقليمي الغربي، فإن تلك القوى لا تملك المنظومة الفكرية التي تستطيع مواجهة ما يشكله ذلك الفكر من إغراء للنخب والشعوب على السواء، خصوصاً بعد استلابها الحضاري للغرب على امتداد عشرات السنين، فلا تملك الكونفوشوسية من خلال منهجها الإصلاحي الطوباوي الموجه إلى الفرد، ولا البوذية القائمة على القمع الدائم للذات، تقديم المنظومة الأيديولوجية الجماعية القادرة على المواجهة، بخلاف الإسلام الذي يمثل منظومة أيديولوجية مترابطة لا تقبل التجزؤ تكشف عن الحقيقة، وتدعو إلى المساواة والعدل وتحقيق الأمان المعيشي والإنحياز للفقراء والمستضعفين في الأرض، وتربط بين ذلك وبين الإيمان بالله ذاته رباطاً عضوياً لا ينفصم، وكما يقول روبرت كابلان الخبير الأمريكي بشؤون العالم الثالث: (في هذا الجزء من العالم سيكون الإسلام بسبب تأييده المطلق للمقهورين والمظلومين أكثر جاذبية، فهذا الدين المطرد الانتشار على المستوى العالمي هو الديانة الوحيدة المستعدة للمنازلة والكفاح). فالتصور الإسلامي هو الذي يتناقض تماماً في منطلقاته مع كل الأسس والغايات التي تنطلق منها الأفكار البراجماتية والما بعد حداثية الموجهة للعولمة الأمريكية، وهو التصور الذي يمتلك الإجابة على الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني، ولا يحتاج إلى هذا الإلهاء الحسي الذي تقدمه البراجماتية في النموذج الاستهلاكي الغربي الذي تبشر به العولمة.

كما أن الإسلام بمنظومته الرسالية لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي أمام ما تمارسه العولمة الأمريكية من سحق للشعوب وتحطيم للكينونة الروحية للإنسان، وبعد سقوط الأيديولوجيات الغربية يظل الإسلام الأيديولوجية الوحيدة القادرة على استنهاض شعوب العالم الفقيرة والمستضعفة، وإنقاذها من مظالم العولمة، بل وإنقاذ الطبقات الفقيرة والمستضعفة في بلاد الغرب الأمريكي ذاتها.