ردك على هذا الموضوع

أقاصيص

محسن الرملي

 

قصة قصص

مثل أي كاتب آخر تنتابني فترات سبات أعجز فيها عن الكتابة لذا أتبع نصائح الكبار وأحمل دفتراً صغيراً في جيبي أدون فيه الأفكار التي تطرأ لي أثناء دبيبي العبثي وسط استهلاك المعيشي لي، فأكتفي أحياناً بوضع عناوين لقصص، مجرد عناوين أظن بأنها ستكون كفيلة بتذكيري بالقصة التي أنوي كتابتها. أحياناً أخرى أدون العَظم الحكائي بأسطر قليلة (حلوة كلمة العَظم هذه!).. وأحياناً أخرى أجدني أكتب مقطعاً سردياً دون فكرة مسبقة أو حكاية معينة فتروح الكلمات المنثالة تجر بعضها البعض بخيوط علاقاتها اللغوية مُشَكلة مشاهد سردية أحار لاحقاً بكيفية تأطيرها. استطعت أن أنجز البعض من ذلك كنصوص: (برتقالات وشفرات حلاقة في بغداد) و(حب صيني) و(مختلسَات من رأسي الهذرام) فيما مر على غالب هذا الفتيت من المدونات أعواماً، ألقي عليها نظرة بين الحين والآخر ثم أطويها وأعيدها إلى الدرج.. حتى طرأت لي اليوم فكرة أن أتركها هكذا كما هي، أو أن أضعها أمام القارئ مع بعض الإشارات الصريحة لحالي معها - وإن كان في هذا الأمر فضحاً لكسلي. ولكن لماذا لا أقول للقارئ الحقيقة؟ (أية حقيقة تقصد؟.. فالحقائق كثيرة، هذا إذا كانت ثمة حقائق أصلاً!).. ثم إذا كان سيشاركني بالقراءة فلأجعله يتورط بالكتابة أيضاً.. أو كما يُقال؛ أرمي الكرة في ملعبه هو (هذه عبارة صارت مُستَهلَكَة) بدل أن أبقيها في ملعبي كبيضة عجزتُ عن منحها الدفء الكافي لتفقس وأخشى من أن يفسدها طوال الركود ـ يعني أن أتحدث عن قصة القصص، بصراحة (حقيقية!) كالتي نرتكبها أمام الأشخاص الحميمين إلى أذهاننا..

المركب اليَغرَق

رُز بالحليب مخلوطاً بالشيكولاتة في باخرة مهدَّدة بالغَرَق بعد أن ظن الراكبون فيها هرباً من حرائق الغابات المقتربة من بيوتهم في أطراف المدينة بأنهم سينجون بهذه الطريقة. وحده الطفل الواقف أمام النافذة، ناظراً إلى صخب البحر مثل لعبة مغرية، يأكل الرز بالحليب مخلوطاً بالشيكولاتة. كان حيادياً هادئاً غير مدرك لهول الخوف العاصف بالمحيطين به. الشيخ الجالس خلفه على كرسيه المتحرك وعكازه في يده يبتسم هو الآخر برضى وطمأنينة وهو ينظر إلى طمأنينة الطفل ويفكر بالتفسير؛ أن الأكثر حياة هم أولئك الأكثر خوفاً في الحياة أو أننا الطفل وأنا (الراوي) اللذان أقرب زمنياً من الموت: هو (الطفل) قادم منه أو من العدم قبل قليل وأنا الذاهب إليه بعد قليل، وحدنا ندرك صدفة الحياة ومجانيتها.. أو حتى عبئيتها، وهي المارقة بسرعة كطائفة من الإعلانات التلفزيونية الخادعة، سريعة، مؤقتة، براقة، مغرية.. لكنها خادعة في الأصل، فيما الموت أو العدم هو الأساس.. الأطول.. الأبدي أو الغامض الحقيقي.. أو النوم الذي لا يعني جريان الإعلانات أثناءه شيئاً.. فلماذا الخوف؟. وما الذي سيجنيه الخائفون؟.. التنافس، الحروب، مباريات كرة القدم، التكالب، توفير الأوراق الرسمية وزيادة الأرصدة وإشارات المرور.. النظام، الأنظمة.. ردد (الشيخ) الكلمتين الأخيرتين مرتين وانفجر بالضحك ملقياً برأسه إلى الخلف. التفتَ إليه الطفل، وحدق هو بالنوارس الحائمة وهي تبتعد.. فيما تواصِل الباخرة ترنحها والموج يلطم، يلطم.. ويلطم.

مُهاجِـر

ها هما الشرطيان ذاتهما: خوان السمين وخوسيه الضعيف، يأتيان به للمرة الرابعة خلال هذا الأسبوع. يُجلسانه أمامنا: المحقق وماريا المذهلة في سرعتها بصف الكلمات على الآلة الكاتبة وأنا المترجِم.

تعتعه السُكر فبدا مثل كيس محشو بالورق يؤرجحه التحرك حد السقوط، لذا وقفا خلفه يمسك كل منهما بأحد كتفيه مثبتاً إياه على زاوية الكرسي.. وهكذا رأيت كفيهما بمثابة قرّاصتين ضخمتين من مشابك حبل غسيل، وخالد التونسي كأنه قميص حريري يتمايل بسلاسة بينهما. منفوش الشعر. رأسه يتدلى على صدره وتنزل منه على ساقيه وعلى ما بينهما خيوط لعابه. يجاهد بين برهة وأخرى برفع رأسه، ويكلفه الجهد ذاته فتح عينيه والنظر إلينا بهما ثقيلتين. يتوقف أحياناً عند تحديقه بي فيلوك كلماته بصعوبة:

- أنا أعرفك.

فأبتسم قائلاً له:

- وأنا، كذلك، أعرفك.. أنت خالد التونسي.

- نعم.. صحيح يا أخي.. وأنت عبد الرحمن.. من أين؟.. لا أدري.. غير مهم.. من بلاد الرحمن العربية.

دائماً يتكرر هذا المشهد بتفاصيله، هو من ذاته يسميني عبد الرحمن ولم أهتم بأمر التصحيح له.

يسأل المحقق الشرطيان:

- ماذا فعل هذه المرة؟.

يجيب خوان السمين بروتينية وابتسامة:

- مثل المرات السابقة سيدي.. قبضنا عليه في أحد المحلات وهو يحاول السرقة.

هز المحقق رأسه وقال قبل أن ينصرف: إذاً فقوموا بالإجراءات الروتينية.. مثل المرات السابقة.

وعندما أصبحنا لوحدنا اقتربت منه وقلت: لماذا تفعل ذلك بنفسك يا خالد؟.

قال: ماذا أفعل إذاً يا أخي؟.. أنا بلا عمل وجائع. لم أسرق في حياتي ولم أشرب خمراً لذا حين أفكر باللجوء للسرقة أرتعد وأخاف، فأشرب كي أتشجع.. لكنني أسكر.. فلا أدري ما الذي يحدث بعدها حتى أنتبه إلى نفسي هنا.. وهكذا..

 


* د.محسن الرملي: كاتب عراقي يقيم في أسبانيا.