ردك على هذا الموضوع

الثقافة العراقية بين خيارات الاستلاب أو الانغلاق أو الانفتاح

حسين درويش العادلي

 

وحدة الجوهر المعياري الديني والإنساني

إنَّ القيم المعيارية الدينية والإنسانية تتحد في جوهرها من حيث تطابقها في الأساس والغاية، فقولنا بثبات هذه القيم المرجعية استناداً إلى معياريتها لا يُعتبر تكلّفاً وإرهاقاً للحالة الثقافية، ليس فقط لتطابقه مع الواقع العراقي، بل أيضاً في تناغمه الذاتي النافي للاغتراب بين منظومات القيم الروحية والعقلية والفطرية، إذ أننا نؤمن بالتطابق على أساس قواعد الحُسن والقبح العقلي، من هنا نقول (إنَّ العقل بيانٌ من الداخل، والشرع بيانٌ من الخارج)، وإنَّ (ما حكم به العقل يحكم به الشرع، وما حكم به الشرع يحكم به العقل)، وإنَّ (السّمعيات ألطاف العقليات)، فهذه المقولات وغيرها تأتي للدّلالة على الوحدة النوعية بين هذين الجوهرين (الوحي والعقل) دون أي اغتراب، فلا وجود لقيمة دينية لا تمتلك ترجيحاً عقلياً، والعكس صحيح، وعليه، فإننا لا نمتلك مشكلة حقيقية على صعيد وحدة المعيار الديني والعقلي لأي حالة ثقافية قائمة أو مؤمّلة، والذي يعتقد بوجود معضلة بين المعيار القيمي للدّين أو العقل في تقويم وترشيد أية حالة ثقافية، إما أنَّ له مشكلة مع الدّين أو معضلة مع العقل كطبيعة ودور وغاية لكلٍ منهما، ويجب ألاّ نصغي إلى تضخيم بعض الجوانب السلبية المتصلة بإبراز بعض المفاهيم أو الأفكار المتخلفة أو المُتشددة في الثقافة العامة المطروحة لنحسبها على الدّين أو العقل، فذلك جزء من تخلف الوعي والتمثّل لفروضهما في حركة الواقع الثقافي، ولعل من أهم خصائص المشروع الثقافي المؤمّل تنقيتهما مما لحق بهما من خرافة أو تجهيل أو سطحية أو انزواء أو تحريف أو اعتياش.

وما يهمنا هنا، هو تلاقي وتناغم جوهر القيم الدينية وجوهر القيم الإنسانية في إدراكهما للحُسن والمنفعة والغاية النبيلة لصنع إنسانٍ ومجتمعٍ فاضل ورشيد ومتقدم، وهذا هو جوهر أي مشروع ثقافي يُراد من خلاله تشييد تجاربنا الإنسانية والوطنية كبُنى تحتية تهب القدرة على صُنع بدائل صالحة ومتطورة في حركة الحياة.

المشروع الثقافي

إنَّ جوهر المشروع الثقافي لأي مجتمع يتلخص: بما يجب أن يكون، وبما يجب أن يكون هنا يعني ما يجب أن يكون عليه الإنسان والمجتمع والدولة وعموم قضايا وشؤون وتموضعات الحياة الثقافية على أساس التعريف الذي قدّمناه للثقافة بمفهومها الشامل.

وعليه كان لابد للمشروع الثقافي المؤمّل أن يعي شروط الواقع وإمكانات النهضة وأدوات التغيير، وفي العمق من ذلك مقومات الهوية وعناصر القيم المرجعية وطبيعة الواقع المحتضن للمشروع الثقافي وشدة الوعي للحداثة ونتاجاتها الإيجابية، وإلاّ سيهزمه الواقع ذاته، فأي جفاء أو خصومة أو محاربة للعناصر الأصيلة للواقع، أو أي تخلف في وعي الحداثة سيُدخل الواقع والمشروع في نزاع استئصال متبادل، وهذا ما يقضي على أي مشروع ثقافي نهضوي.

كما أنَّ المشروع الثقافي النهضوي لا يعني تنكّره للعناصر الأصيلة في الهوية الثقافية للمجتمع، فنهضويته التي تتطلب انبعاثاً لا تتأتى بنظرنا من شُبهة ركود وثبات عناصره الأصيلة كما يحلو لبعضهم تصويره، بقدر ما تتأتى من الفشل في وعيها من قِبل روّاد التحديث، أو في التقوقع عليها من قِبل روّاد الأصالة، أو في العجز عن تفعيلها البرامجي وتنميتها من خلال عمليات الانفتاح والاستفادة والتوظيف للثقافات الإنسانية الأُخرى المتصلة بنا، فمشكلة المشروع الثقافي لدينا تكمن أساساً في معضلات وعي عناصر الأصالة والحداثة والتنمية الإنسانية الشاملة، وغالباً ما تُصب جهالات أو لعنات الروّاد على عناصر مجتزئة من المشروع الثقافي دون نهوضهم لإبداع مركّب جامع لعناصر الأصالة والحداثة لإنتاج تجاربهم النهضوية.

إنَّ وعي الإنسان بالانتماء إلى أي مشروع ثقافي لا يتم إلاّ بالهوية الثقافية الجامعة لعناصر الأصالة والحداثة والمُندكّة بالواقع الفعلي المتحرك انفعالاً وتفعيلاً، ضمن وعي للذات وإدراك للواقع وقدرة على التفاعل والتأثير والتأثّر والتبادل والتناغم، وهذا ما يُنتج الحضارة التي هي تعبير ونتاج عن الفعل التاريخي والمندك بالواقع وعياً وتوظيفاً.

أقول، لا وجود لإمكانية تحرير المشروع الثقافي أياً كان من الهوية الثقافية للمجتمع وبالذات في عناصره الثابتة المتصلة بقيمه المعيارية، وكل جهد خارج هذا الإطار سيُعيد أزمات اضطراب الذّات البُنيوية العراقية لسابق عهدها مما يستحيل معه إحراز تقدم ثقافي ناهض ورائد، إنَّ إنتاج أي مشروع ثقافي حداثي ونهضوي حقيقي لابد وأن يعتمد قيمنا وإمكاناتنا وقدراتنا الذاتية المنفتحة على العصر والواعية والموظِفة لعطاءات الثقافات الإنسانية الأخرى.

الخصوصية الثقافية

لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية خصوصيته الثقافية وفرادتها في التميّز والدور والأثر على مسرح التاريخ، فالخصوصية هنا تعبير عن ذات المجتمع وماهية الأُمّة في طبيعة عناصرها ومقوماتها، وهي حصيلة وجودها وفعلها التاريخي سلباً أو إيجابا، من هنا تُشكّل الخصوصية الثقافية أحد أهم ميزات المجتمعات وبالذات المجتمعات العريقة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وعليه فمنهج الشطب والإلغاء للخصوصية والإرث والحالة الثقافية منهج خاطئ ليس فقط في نظرته العلمية والموضوعية بل في وعيه للتاريخ والواقع أيضا. إنَّ الخصوصية بكل أنساقها الذاتية جزء لا يتجزأ عن الذّات المجتمعية في صيرورتها وتحولاتها المتتالية، من هنا فأي مشروع ثقافي يعمل بالضد من هذه الخصوصية سيؤدي إلى نفور المجتمع، ويقود إلى المقاومة لا محالة.

ومع أنَّ الثقافة- وكما قلنا- تُعتبر حالة سيّالة في عمرها الوجودي، إلاّ أنها وبعد تشكّل خصوصيتها الذاتية التاريخية فإنها تحرص على نواتها الذاتية بكل قوة فترفض وتُقاوم أي انتزاعٍ لعناصرها الذاتية الأصيلة خاصة في أجواء الفرض، وعليه لا تزيد محاولات الفرض لنسق ثقافي معين على أي واقع ثقافي عريق إلا اصراراً وتحدياً على المقاومة. من جهة أخرى، يجب على مثقفينا إدراك استحقاقات تميزنا الثقافي الذي هو حصيلة فعل تاريخي جبّار وعميق ومتنوع، والعمل وفق فروض هذه الاستحقاقات بنفس القوة الدافعة إلى التحديث والملائمة مع استحقاقات الحداثة ونتاج الثقافات الإنسانية الأخرى، ويجب التخلي كلياً عن العقلية التي تقول: بأنَّ ثقافتنا سيئة وثقافة الآخرين حسنة، فهذه المقولات في الوقت التي تُعبّر عن جهلٍ أو انبهار أو استلاب، فإنها تُعبّر في نفس الوقت عن زيفٍ معرفي وموضوعي يُراد له التأسيس والحقيقة على أرض الواقع، وتُدلل عن نَفَسٍ مُعبّأ ومنحاز لا يجود بغير الاضطراب والاصطدام مع الذات أولاً والآخر ثانياً، من هنا نجد أنَّ أكثر الناس عداء للتعايش الثقافي بين الثقافات العالمية المختلفة والمتنوعة هم دعاة الاستلاب أو رواد الهيمنة، فكلاهما يؤسسان لصراع الثقافات من خلال تخطي وازدراء الخصوصيات الثقافية للشعوب والأُمم.

صراع الثقافات

وهنا نفهم: أنَّ صراع الثقافات يتأتى في أغلبه الأعم من ذهنية وخلفية الفرض الثقافي لثقافة ضد أُخرى بما لا يحترم الخصوصيات الثقافية لأي مجتمع، فالصراع الثقافي هو تعبير جلي عن عقلية الإقصاء والنفي والإلغاء للآخر الثقافي سواء داخل الكل الوطني في تنوعاته الثقافية القائمة على الأُسس الدينية والطائفية والعِرقية والمناطقية، أو في إطار الصراع الثقافي بين الأُمم الإنسانية المتنوعة.

إنَّ فلسفة الصراع الثقافي تكمن في الجهل بفلسفة التنوع القائم على الاختلاف الذاتي بين ما هو فكري أو عِرقي أو ذوقي، الإنساني بين الأفراد والجماعات والأُمم، باعتبار أنَّ الاختلاف هو الذي يُنتج الحركة الإنسانية على تنوعها، لأنَّ التشابه والتماثل يقضي على حركية الحياة ونموها وتقدمها، من هنا فالجهل بضرورة هذا الاختلاف يُغري بوهم التفرد لثقافة قومية أو ايديولوجية أو حضارية معينة على حساب ثقافة أُخرى مما يُنتج الصراع بينهما، وأيضاً فإنَّ الفشل في قبول هذا الاختلاف عملياً بما يحفظ للآخر كينونته وخصوصيته سيقضي على إمكانية التعايش فيقود إلى التصادم بالتبع، كذلك فإنَّ الفشل في إيجاد لغة مشتركة تُتيح التفهم والتفاهم المتبادل سيؤدي إلى الانغلاق ثم الجهل بالآخر فالتنافر فالصراع بينهما، وأيضاً فالانقطاع عن تحري فرص التعاون المثمر سيُقلل من فرص التناغم الحضاري بين الكيانات الثقافية المتنوعة مما يقود إلى العزلة فالتصادم، ويجب ألاّ ننسى أيضاً حمّى الأطماع وهستيريا الغرور في تأجيج صراع الثقافات، فامتلاك وسائل القوة غير المنضبطة بالوعي والقيم والاخلاقيات تقود لا محالة إلى الفرض أو المسخ أو الاسئصال الثقافي المتبادل، فينشأ الصراع الثقافي والحضاري بالتبع كنتيجة لمحاولات تجاوز حق الآخر في خصوصياته الثقافية والحضارية.

إنَّ تغذية فلسفات العُزلة الثقافية المنغلقة عن العالم، أو الداعية إلى التفوق جرّاء ازدرائها للآخر الثقافي، أو القاضية بوجوب الهمينة على الآخر الحضاري بما ينفي حقه في الخصوصية والذاتية الثقافية، لهي من أهم عوامل صراع الثقافات والحضارات بين الأُمم الإنسانية، لذا فالإنسانية في تطبيقات حرب الثقافات واقعة في الحقيقة بين سندان الانغلاق الثقافي النافر من أي محاولة للتعايش الإيجابي بين الثقافات وبين مطرقة الفرض والهيمنة الثقافية الداعية لإستئصال الخصوصيات الثقافية للأمم الأُخرى، والخاسر هي الإنسانية في مرتسمات تعايشها وتناغمها وتعاونها المتبادل لإنجاز أدوار السلام والأمن والتقدم الإنساني المشترك.

تكامل الثقافات

وبدل الصراع الثقافي المُغذّى بفلسفات التمييز الأجوف أو الانغلاق الأعمى أو الهيمنة الجائرة، تطرح الإنسانية الفاضلة والواعية والداعية لعالمٍ أفضل، تطرح مبدأ التكامل الثقافي، كأساس وقاعدة تستندها الأُمم في شبكة علاقاتها الداخلية بما يرتقي بذاتها الوطنية الزاخرة بالتنوع الثقافي، أو في شبكة علائقها الخارجية مع بقية الأُمم الإنسانية بما يُنتج أفضل صيغ التعايش المثمر والبنّاء والهادف.

إنَّ التكامل الثقافي الحقيقي يؤسَّس على احترام الخصوصيات الثقافية الذاتية للمجموعات والأُمم الإنسانية المتنوعة، إذ لا يمكنه أن يعمل في ظل قواعد التبعية أو الاستلاب أو الهيمنة اللاغية أو المحتقرة للآخر، فهو ينتج بفعل عوامل الاعتراف بالآخر والاحترام لحقه في الاختيار والحياة، سيما وأنَّ الخصوصية الثقافية هي تعبير عن الكينونة الحضارية المُشكّلة لوجود الجماعات والأُمم، وهنا فلا سبيل أمام هذا التنوع الثقافي للجماعات والأُمم سوى الصراع أو التكامل، والأول سيُدخل الإنسانية في إطار علاقاتها الداخلية والخارجية في مسلسل التصادم والتحارب، والثاني سيقود البشرية إلى التناغم الإيجابي بما يُعمّق من أنسجة السلام والتعاون لإنجاز أدوار الحياة الصالحة ذات النفع العام والمشترك، من هنا نفهم سر هذا التعارض الإنساني القديم- الجديد الذي أنتج كل هذا التطاحن البشري المُترجَم كنـزاعات دائمة وحروب مستديمة، فقد ارتكز في عمقه على فلسفة الصراع بدل فلسفة التكامل، وبالذات للحلقات الأضعف في مضمار القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، فلا تلبث الثقافات المدعومة بآليات القوة من ترجمة نزاعاتها الاقصائية على شكل تدمير للذوات الثقافية والحضارية الأضعف، لتُجسد في سلوكها هذا منطق ثقافة القوة لا منطق قوة الثقافة.

إنَّ أي حلم أو أمل في سيادة صيغ التعاون والتناغم والتآلف والتعايش الإنساني لا يمكنه من التحقق الفعلي دون اعتماد قيم وبرامج التكامل الثقافي والحضاري بين الشعوب والأُمم على أساس احترام الآخر وخصوصياته وخياراته في الحياة، ومثل هذه القاعدة هي المُنتجة للتلاقح الثقافي بما توفره من فرص التماس والتعايش، وهي الممهدة للتأثير الحضاري المتبادل على أساس الإحتكاك الدائم بين الوجودات الحضارية، وهي الخالقة للتحدي الحضاري السلمي عن طريق تحفيز الثقافات والحضارات لنيل ناصية التقدم بما تخلقه من مناخ استجابة لتحديات السباق الحضاري، وهي أيضاً المستدعية لأنظمة الأمن والسلام والتقدم البشري العام والشامل المُنتَج على أرضية الانفتاح الثقافي الدائم والمشترك.

التأصيل الديني للانفتاح الثقافي

يتوهم بعض رواد الخط الديني بفكرة أو سياسية الانغلاق الثقافي على أساس دعاوى الحفاظ على الأصالة ونفي تأثيرات الغزو الثقافي وما قد يُنتجه من مسخ أو إقصاء لمنظومات هويتنا الثقافية العراقية، وهي دعوى إضافة إلى استحالة تحقيقها العملي جرّاء التداخل الإنساني الحادث بسبب ثورات الاتصال والاعلام الفضائي الكوني مما يجعل العزلة أمراً يكاد يكون مستحيلاً، وأيضاً لغفلتهم عن أنَّ الانعزال يقضي على إمكانية خلق حركية الاستجابة على ضوء أرضية التحدي الذي تجود به عمليات الانفتاح والتفاعل الثقافي، حيث لا يمكن تحقيق التفعيل والتطوير دون وعي الآخر وإدراك فاعلية وأسباب نهضته وشروط تقدمه، وهي أمور لا يمكنها التحقق من خلال إيثار العزلة والانغلاق الثقافي؛ أقول: إضافة إلى ذلك كله، فإنَّ ذات منظومات الفكر الديني لا تعترف بشيء اسمه الانغلاق الثقافي عن الآخر، ليس لأنه يقضي على إمكانية الإمتداد والانتشار والتأثير في الحركة الإنسانية فقط بل لأنَّ ذات منظومات الفكر الديني في قواعدها الأساسية لا ترى للانغلاق من شرعية فكرية.

إنَّ الأساس النظري الذي يطرحه الدّين لنفي الانغلاق وتأكيد الانفتاح الثقافي، يقوم على أساس قاعدة (التعارف) التي تُعتبر من أهم قواعد القيم الدينية في تنظيم صيغ التعاون الإنساني في جوانب معرفة الآخر وتأسيس قواعد الحوار والتعاون معه.

ولعل خير مصداق لتأكيد هذه القيمة، ما جاء في الآية المباركة {يا أيّها النَّاس إنّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِنَدَ اللهِ أتقَاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير} الحُجُرات/13، إذ تؤكد هذه الآية على جملة من الحقائق التي تقود بالتبع إلى حتمية التعارف كقاعدة تسندها أنشطة الجماعات والأُمم الإنسانية المتنوعة بما تنتظم بها ومن خلالها صيغ علائقهم، ومن جملة هذه الحقائق:

أولاً: وحدة الإنسانية من حيث المصدر، إذ أنَّ البشرية بأجمعها تنحدر من مصدر واحد في الخلقة وهو الله تعالى، ومن سبب موضوعي واحد في التناسل والتكاثر وهو الذكر والأُنثى (آدم وحواء)، وهذا الاتحاد بالمصدر والسبب في الوقت الذي يؤكد وحدة النشوء، فإنه يلغي أي تراتب زائف تضعه الإنسانية فيما بينها، فكل قيمة أو مبدأ أو نظرية تحاول تقسيم الإنسانية وتجزئتها خلقياً بسبب اللون أو العِرق أو الإمتياز أياً كان، فإنه مرفوض دينياً لأنه يصطدم مع وحدة النفس الإنسانية التي تعود لمنشئٍ واحد لا يعرف التمايز المصطنع الذي تضعه الذوات الفاقدة للسماحة أو اللاهثة وراء الامتياز من خلال العبث بوحدة هذا الخلق وتساويه في الطبيعة والحق والواجب، ودليل ذلك اللغة التي استخدمتها الآية المباركة إذ أُفتتحت بخطاب عام للنّاس دون أي فوارق أو تمايزات ذاتية أو خارجية مُكتسبة لاحقاً (يا أُيّها النّاس)، لتؤكد وحدة مصدر الخلق (إنّا خَلقنَاكُم)، ولتؤكد وحدة السبب الموضوعي في إنتاج التكاثر (من ذَكَرٍ وأُنثى)، والهدف هو توكيد الوحدة الإنسانية، من هنا فلا قيمة لأي اعتبار زائف يُصادر هذه الوحدة التكوينية للإنسانية.

ثانياً: الجعل التكويني للتنوع الإنساني، فالآية المباركة تؤكد أنَّ التنوع الإنساني القائم على أساس الشعوب والقبائل هو حقيقة خَلقية غير زائفة أو مصطنعة، فالجعل هنا (وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ) هو جعل تكويني أي خَلقي مقصود من الله تعالى، وهذا الجعل يؤدي بالضرورة إلى التنوع الإنساني على أساس النّسب والتكوين والتشكّل في كل مقطع زمني من حياة الإنسانية عبر التاريخ، وهنا فهذا التنوع يُعتبر جوهر حقيقي لا يستمد وجوده من الاعتباريات الإنسانية الناتجة عن المواضعة أو الانتزاع بل يستمد وجوده من الخالق الموجد لهذا الجعل التكويني، فالخالق تبارك وتعالى هو الجاعل هنا، أي هو الخالق لهذا التنوع الإنساني.

ثالثاً: الحركة والفاعلية كعلّة لهذا التنوع، فهذا التنوع الخلقي (شُعُوباً وقَبَائِل) يقوم على أساس قاعدة كونية كُبرى تعتبر الإنسان مطلق الإنسان جزءاً من منظوماتها الوجودية، وهي: أنَّ الكون لا يمكنه الحركة والفاعلية إلاّ وفق قواعد وآليات التنوع، فالتشابه يقضي على إمكانية نشوء الحركة والتدافع الكوني والوجودي المطلوب لنشوء الحياة، فهل يمكن أن نتصور نشوء حياة ما مع تشابهنا التكويني وتماثلنا المضموني؟ وهل يمكن تصور حركية كونية مع قيمومة التماثل الكوني في النوع؟ أبداً، فذلك سيقود إلى استحالة إبداع أو إنشاء أي حركة كونية وتجربة إنسانية، من هنا لزم التنوع القائم على التفاوت.

وإذا كان التنوع هو جوهر الحركة والفاعلية الإنسانية، فما هو السبيل لحل مشكلة اختلاف الذوات المتشكّلة بفعل التمايز المُنتَج على أساس التنوع؟ فستتمايز كينونة الأول على الثاني على الثالث... في رحم الحياة، وسيأخذ هذا التمايز أشكالاً متعددة في التعبير عن ذاته معرفياً وثقافياً وتجريبياً؟

رابعاً: حقيقة التعارف، وهنا يطرح الدّين مبدأ التعارف كأساس تلتقي عليه وحوله الذوات الفردية والأُممية لتوجيه هذا التنوع الضروري كي يكون رحمة لا نقمة، من خلال إنتاجه لقواعد التلاقي والتناغم والاشتراك في مركب الحياة لإنتاج أدوارها وتجاربها الإنسانية.

إنَّ الأداة والآلية الموضوعية لانفتاح الشعوب والأُمم الإنسانية المتنوعة على بعضها بعضا يستند في العُرف الديني على قاعدة التعارف (لِتَعَارَفُوا) كأساس تنفتح من خلاله أبواب التلاقي والتناغم والتعاون لإقامة تجارب الخير والعدل والفضيلة بين الجماعات الإنسانية، فالتعارف وفق هذه الرؤية إنما هو حقيقة موضوعية تنتج عن التنوع، فلولا التنوع لانتفى التعارف، فلا قيمة له إلاّ مع هذا الجعل التكويني الذي ميّزنا إلى شعوبٍ وقبائل وأُمم، فيكون التعارف هو الإطار التبادلي في المعرفة والتأثير والاستفادة ضمن تدافعية هادفة ونامية ومُنتجة.

خامساً: حقيقة الكرامة، إذ أنَّ الشرف والمنـزلة الواهبة للكرامة الحقيقية في ساحة الوجود تتأتى من خلال تجسيد القيم والفضائل على صعيد الذات والمحيط الإنساني بغض النظر عن أُطر الإنسانية من شعب وقبيلة وأُمّة، والتقوى (إنَّ أكرَمَكُم عِنَدَ اللهِ أتقَاكُم) في العُرف الديني هي العنوان الجامع لكل المبادئ والقيم والفضائل والأخلاقيات الصالحة والسليمة والحقة في حرم الحياة، وعليه فدرجة وميزة التقوى لا تُنال بتحكيم الأُطر الضيّقة أو القيم الهابطة التي يعتمدها البعض من لونٍ وعِرقٍ وطبقة، بل تُنال من خلال إقرار مباديء التكافؤ والمساواة والفضيلة الإنسانية ونبذ أي فوارق تُجزؤ الإنسانية سواء في مصدر خلقتها أو في تعاونها وتكاملها عن طريق إقرار التعارف بينها، كون أنَّ أي فوارق تُوضع بين أفراد وجماعات الإنسانية أو تقف حجر عثرة أمام تعارفها لا تُنتج سوى تأزّم واحتقان وتضارب الإنسانية ككل، وهو خلاف غاية الخلق ومهام الاستخلاف الإلهي لهذا الكائن المطلوب استعماره في الأرض {هُوَ أنشَأكُم مِّنَ الأرضِ واستَعمَرَكُم فيهَا} هُود/61.

لذا، فإنَّ التعارف الإنساني هو ذاته الانفتاح المطلوب إقراره بين الجماعات والشعوب والأُمم الإنسانية، ومصاديقه تتعدد بتعدد موارد ودوائر وتطبيقات التعارف، وعلى رأسها الانفتاح الثقافي كونه يهب القدرة على فهم الآخر وتحري فرص التأثير والتأثّر المشترك وصولاً لإقرار تجارب الخير والعدل والمساواة بين الشعوب الإنسانية.

الأُمّة العراقية والخيار الثقافي الجامع

الثقافة العراقية في مراحلها القادمة تقف على مفترق طرق حاسم، فهي أمام خيارات مصيرية ستُحدد مستقبلها المنظور دونما ريب، وبالذات بعد خروجها من ركام الكارثة الصّدامية التي أودت بحياة العديد من مرتكزاتنا الثقافية بفعل قسوة السحق والتجهيل والعسكرة والحروب والمحن والأحزان. إنَّ تدويل قضايانا الوطنية، إضافة للتداخلات والاختراقات والمصالح المعقدة التي اثقلت وستُثقل كاهل برامجنا الوطنية في اتجاهاتها كافة، وما تعانيه منظوماتنا الثقافية من تخلخل في البُنية واضطراب في الاتجاه بفعل ثقل الأزمة وإرهاصاتها وتبعاتها، يجعل من تحديد الخيارات الثقافية من أهم وأخطر عوامل نهوضنا المنبعث أو انتكاستنا المجددة. من هنا فإنَّ تحديد الخيار الثقافي هو تحديد بُنيوي مصيري في ذاته، إذ سيتم على ضوئه نحت بناءات الإنسان والمجتمع والدولة العراقية الحديثة، وهنا فالخيار الثقافي يعني في عمقه خيار الهوية والانتماء والوطن والتاريخ، فوفق هدّيه ومعالمه سيتحدد خيار الوحدة أو التشظي، الأصالة أو الاستلاب، الانغلاق أو الانفتاح، التقدم أو التخلّف، الفاعلية التاريخية أو الاندحار الحضاري.

إنَّ المُتتبع لطبيعة الخيارات الثقافية المطروحة بين ما هو ليبرالي صرف أو قومي صرف أو إسلامي صرف أو ماركسي صرف، إضافة لقيمومة الثقل التقليدي للمنظومات الثقافية العِرقية والطائفية والمناطقية، قد يُصاب بالهلع جرّاء التقابل الحاد بين هذه الخيارات الثقافية التي تتناول في العمق قضايا الانتماء والهوية والتاريخ والمستقبل!! لكونها خيارات أُحادية البُعد مؤسَّسة على الانغلاق إلى حد التصادم ولو على الصعيد النظري، وهنا تكمن الخطورة، إذ لم تنجح هذه المدارس بعد في التأسيس البرامجي لقواعد التعايش والتكامل المتبادل استناداً إلى أرضية اشتراك الكُل في الوعاء الثقافي الوطني الجامع. ولنا أن نتصور خيارنا في الإدارة لبرامجنا الوطنية أو البناء لكياننا العراقي القادم مع قيمومة هذا التقابل الحاد والمنغلق بين خطوطنا المدرسية بين ما هو إسلامي وقومي وماركسي!! إنه ولا ريب خيار كارثي لا يمكن معه إنجاز أي تقدم مجتمعي سياسي ثقافي وطني مرموق، فكيف لنا التعاطي ومسائلنا وبرامجنا الوطنية إنطلاقاً من أرضية هذا التقابل الحاد والمتناقض بين خطوطنا المدرسية وما يؤسَّس عليها من تجارب على أرض الوطن؟! كيف لنا توجيه وإدارة وقيادة مركبنا الوطني وكل خط مدرسي واتجاه مذهبي يُحاول شد الواقع والإنسان والوطن إلى خياره وطروحاته ومشاريعه المنظّرة والمُسيّرة للتجربة الوطنية؟! إنَّ التصادم والفشل هو النتيجة الطبيعية لهذا الخيار دونما أدنى ريب، فأُولى وأهم كوارث هذا التقابل المنكفئ على الذات والرافض للتواصل والمستعصي على إبداع الأرضية المشتركة؛ هي تمزيق النسيج الوطني وفقدان بوصلة الاتجاه للمسيرة الوطنية الكلية سواء على صعيد الذات أو التجربة في تنوعاتها السياسية والإجتماعية والحضارية.

من هنا نقول: إنَّ من أهم واجبات النُخب الوطنية؛ الاتفاق على تحديد الخيار الثقافي لأُمتنا العراقية وهي تنهض مجدداً لبناء ذاتها وإنجاز أدوارها على الأرض، وما لم ننجح في إعادة قراءة وتمثّل الذوات الثقافية الخاصة بكل مدرسة بُغية إعادة تركيبها وفق مرتسمات واقعية تلحظ تغيرات وضرورات الكيان والتجربة العراقية الجديدة، ثم الانطلاق في التحديد والتشخيص والتنمية لخيارٍ ثقافي نوعي يمثّل أُمتنا العراقية بكل مدارسها الثقافية، ما لم ننجح في إنتاج هذا الخيار الثقافي الوطني الجامع فلن يمكننا إدراك التحوّلات الجوهرية في مسيرتنا الوطنية الجديدة.

إنَّ الخيار الثقافي القائم على منظومات الأصالة والحداثة والتنمية الشاملة، وضمن الحاضن الوطني المتشبّع بقيم الخصوصية والثوابت والمصالح العراقية، والمنحاز لمناهج الانفتاح والتعايش والتسامح والفاعلية الحضارية الدائمة، والنافي للتطرف والعنصرية والسلبية والإجترار والانكفاء؛ لهو الخيار الثقافي الذي نتبناه كفاعل جوهري للتجربة العراقية المؤمّلة، ومثل هذا الخيار لهو خيار وطني شامل يجب أن ينخرط الكُل العراقي لإنتاجه والنهوض بمشروعه التأسيسي.