ردك على هذا الموضوع

جذور ثقافة العنف في أمريكا

فخر زيدان*

 

قد يكون من غير المفيد هنا، العودة إلى جذر التركيبة الأمريكية (المجتمعية) التي يبني عليها الكثيرون استنتاجاتهم وفرضياتهم، ولهذا ليست هذه الاستنتاجات والفرضيات بالضرورة مجانبة للصواب، وهي كثيرة لمن أراد الرجوع إليها، ولربما يستطيع الباحث من خلال رصد الواقع الأمريكي الراهن، ومن خلال منظار سياسي كبير ودقيق، أن يستقرئ السياسة الداخلية والخارجية، التي هي بدورها، المحرض الأساسي، في استثارة هذه الدراسات.

إذ نقرّر سلفاً، هنا، أن البنية الأمريكية، بنية (متوترة). أي شيدت على وتائر عالية، في كل شيء، وهي بهذا، تعكس بنية وطاقة إنتاجية الماكينة الأمريكية التي تكاد تصمم مسنناتها على حجم العالم، ثم تسعى إلى تثبيت وتدعيم هذه البنية، فهي على سبيل المثال لا الحصر، تضخ كماً هائلاً من المعلومات، قد يصل إلى ثلاثة أرباع ما يضخه الإعلام العالمي مجتمعاً، كما أنها تنتج كمّاً هائلاً من الصناعات الثقيلة والخفيفة.

إذن هي بنية كونية، بمعنى، أو بأكثر من معنى، ولكي يتحقق هذا التوازن على الأقل، لا بد من إعادة صياغة العالم دوماً، حتى يستوعب هذا الصخب الأمريكي في كل شيء، ومن هنا يلاحظ الباحث أن هذه الآلية التي يمتاز بها المجتمع الأمريكي، التي أفردته نموذجاً (سوبر) هي التي أوصلته أو اقتضت صوغ سياسة وثقافة عالميتين.

هذه التركيبة الأمريكية- برأينا - هي التي توفرت على بنية، وضعت الدولة الأمريكية في حال دائم التوتر مع العالم، سواء جاء ذلك عبر تناقض المصالح، بينها وبين أغلب الدول المتخلفة، أو عبر الاختلاف في وتيرة وإيقاع الإنتاج، وتعاطي الشأن الاقتصادي والسياسي، ثم الثقافي كما بدأ يظهر مع (أوروبا العجوز) حالياً، حيث أن أمريكا في سباقها هذا مع العالم، ومع الزمن، ومع نفسها، أنتجت هيئة من المؤسسات والمراكز والدوائر، التي تعمل ليل نهار، ووفق أرصدة وأنساق متقدمة ومتفوقة في سبيل الحفاظ على الجهوزية الأمريكية دوماً، تحسباً لظهور أعداء جدد، وإلا تم خلقهم أمريكياً، حتى لا تصاب المفاصل البنيوية للمجتمع الأمريكي بالارتخاء، وتكريساً لشعارات المطلق الأمريكي في كل شيء.

لقد يستهوي بعضهم إحصاء المرّات التي تدخلت فيها أمريكا، في أكثر من مكان، من العالم، بشكل مباشر، كما فعل: خليل إبراهيم حسونة، في كتابه: (الإرهاب الأمريكي) وهذا بالتأكيد ذو قيمة توثيقية وسياسية، أو كما فعل السيد هاشم ميرلوحي في كتابه: (أمريكا بلا قناع) أو كما ترصد كتب وأبحاث أخرى، المعلومات والثقافة التي تبثها ماكينة الإعلام الأمريكي، ضد أنظمة سياسية، وشعوب أو ثقافات بعينها، وهي في النهاية تعكس توجهاً أمريكياً، ذا بعد تكتيكي أو استراتيجي، وفي كل هذا، وجوه لقراءات متعددة المنشأ والأغراض. لكننا إذ نركز هنا على تقاطعات إشكالية، تأسست عليها وتيرة الأداء الأمريكي المتقدم ذكره، نرى أننا نشير في هذا إلى بعض مفاتيح العمل في المجتمع الأمريكي، وبالتالي فهم ذاك المجتمع، وتفكيك تلك البنية معرفياً.

فعندما نقرأ ما كتبه (هارولدك، سويل) في موسوعة العلوم الاجتماعية /1932/ وذكره نعوم تشومسكي في كتابه (قراصنة وأباطرة): أنه علينا ألا نخضع للدوغمائيين الديمقراطيين القائلين، بأن الناس لهم الحكام الأفضل، فيما يتعلق بمصالحهم، علينا إيجاد السبل، لكي يصادقوا على القرارات التي يتخذها قادتهم ذوو البصيرة الأبعد، وهو درس تعلمته النخب المهيمنة منذ زمن طويل) أو ما أورده كلارك في كتابه: (الإمبراطورية الأمريكية) على لسان والتر لييمان: إن الدعاية هي صناعة الموافقة، ندرك حينها، ضمن أي تربة، تنبت الثقافة الأمريكية وعبر أي مدى تنتشر! وهي- هذه الثقافة- تؤثر، بل تصوغ القرار الأمريكي الآن، بل تمهد الأرض المستهدفة فكرياً أو جغرافياً قبل اتخاذ القرار، عبر تلك الآلة الإعلامية الجبارة، التي أشرنا إليها.

حيث أن هذا التفوق الإعلامي الأمريكي، يشكل النسبة الكبرى من غزارة المعلومات الهائلة، عبر الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، فهو- وبناء على امتلاكه لهذه المساحة الهائلة- مستمر عابر، في صناعة المعلومات، طالما يضمن لها هذه القدرة على التغطية والضخ الكبيرين، وعبر قدرته أيضاً على حشد عناصر التأييد والتأثير، أو وسائل تنقل عنه- الإعلام- لسبب أو لآخر، حتى لو كانت المعلومات كذباً فاقعاً، مثلما فعل في أثناء سقوط الطائرة المصرية: 31/10/1999 التي كانت تحمل ضباطاً مصريين، عائدين من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كثفت السي.ان.ان، والتايم وارنر من بيانات لها حول سجل الأمان، بمصر للطيران، وعدم خضوعها للرقابة الأمريكية بالرغم من عدم صدقية لهذه المعلومات، لكنها أرادت التشويش على إمكانية التحقق الصحيح من سبب السقوط، وحرفه باتجاهات أخرى.

حتى زيارة السادات إلى القدس عام (1977) الذي صرّح حينها- السادات- أن (99%) من أوراق الحل، بيد الولايات المتحدة، وبالتالي ما ينتج عن ارتهان المنطقة جراء هذا التصريح، للولايات المتحدة، فرغم ذلك كتبت التايمز أنه: إلى ذلك الحين، لم يكن السادات، راغباً في وجود إسرائيل، وذلك لغرس معلومة أو بالأحرى دسها في ذهن القارئ أن هناك رفضاً عربياً ثابتاً، لوجود إسرائيل ولإبقاء مبررات النزاع، والتعاطف مع إسرائيل قائمة، على حساب حقوق الشعوب الأخرى في المنطقة. كما لفت نظرنا تشومسكي، إلى استخدام الإعلام الغربي لصيغة: (المجتمع الدولي) حين تدخل حلف الناتو في المسألة الصربية، وما يسبغه لهذا المصطلح من شرعية على ذلك الفعل.

إن هذا الجبروت الإعلامي يمر عبر تحولات في الصحافة الأمريكية، إذ يشير (بن باجديكيان) إلى انقلاب الصحافة الأمريكية من 80% مستقلة إلى 80% مملوكة لمؤسسات كبيرة، ثم يتتابع هذا الإنضغاط، أو الإبتلاع لتتقلص إلى تسعة فقط، اكتسبت اسم: (megocqrpqratiqns) لتغدو مؤسسة إعلامية، فائقة الضخامة، وعابرة للقارات، حسب تعبيره.

إن تايم وارنر، أكبر مؤسسة قد بلغت مبيعاتها عام 1997 فقط (24) مليار دولار، ولقد أطلق عليها اسم: التسعة الكبار، وهي نفسها تدعم كل ما هو تجاري: (رياضة - ترفيه - أفلام المغامرات....) مما يشكل حسب تعبير كلارك: (قصفاً تجارياً لكل ما هو إنساني).

ولقد سقنا بعض الأقوال والشواهد والأرقام، من مؤسسات الإعلام، تلك التي وجدت لتغطي وتلبي حاجة هذا المجتمع الجديد التي تمخره وتصنعه الشركات العابرة، ذات القدرات الاقتصادية والصناعية الجبروتية، التي لا تستطيع الاستمرار والتطور، إن لم يكن العالم صدىً لها.

في مقال لفتحي المسكيني في مجلة الفكر العربي المعاصر العدد /128 - 129/ التي عنونها بـ (ما هي أمريكا أو الحرب المترحلة) حيث يعبر إلى تفكيك المفهوم الأمريكي عبر فلاسفة مثل هيغل وهيدغر ودولوز، وعبر تبرير هيغل مثلاً لجريمتين هما: الحرب ضد السكان الأصليين ثم استعباد الأفارقة، مما يؤصل لفهم عنده- المسكيني- أن أصل أمريكا هو الحرب ضد السكان الأصليين وهو عند هيغل حكم قيمة، يقضي بتفوق الإنسان الأوروبي، لكن دولوز يفرّق بين الجذر والريزوم، فالريزوم هو جذع تحت الأرض لكنه ليس جذراً لأي شجرة، وهو هنا استكمال لما رآه هيدغر حرباً ضد الوطن (فعل أمريكا في الحرب) فهو أي الريزوم يقطع مع أي شيء يباينه على خلاف الجذر والشجرة حيث لا بد من نقطة ونظام واحد وهو تعدد محض وليس كثرة من الأحاد، هذا الكلام لفتحي المسكيني حيث يستطرد أن الريزوم خارطة تجريبية وبنائية ومفتوحة وموصولة بكل أبعادها ولها مداخل متعددة وإنجازية وهذا فهم دولوز لأمريكا.

إن فتحي المسكيني يقارن في آخر دراسته بين الريزوماطيقي الأمريكي والريزوماطيقي الإسلامي أو كما عبر: (المسلم الأخير. عبر قراءته للحرب المترحلة لكن ما يتقاطع معنا هو ريزوم البنية الأمريكية الخاصة، التي ننوه إليها ونشير، عبر عناوين، لا عبر توسع توثيقي، هو غرض الدراسات الأكاديمية، وهذه البنية الفريدة والحديثة جداً التي وصفناها بالمتوترة من حيث هي طاقة لا تستطيع أن تكف عن العمل العملاق، التي ربما يكون قرأها آخرون من زوايا تعود إلى الجذور وليست إلى الجذوع كما فعل ادوارد سعيد، في مقابلة أجرتها معه عام 1980: بيان نويهض، في مجلة دراسات عربية العدد (8) عندما لم يكن ادوارد سعيد معروفاً عربياً على هذا النطاق، رغم صدور كتابه الاستشراق، حين سألته حول اتهام المجتمع الأمريكي بالعنصرية، إذ يرى أن معظم المجتمعات الغربية قائمة على العنصرية ولكن الأمريكيين يتفوقون على غيرهم في هذا لأنهم يعتقدون أنهم يمتلكون أكثر الحضارات، تطوراً في العالم، لذلك يعطون أنفسهم الحق في استهلاك المزيد على حساب الشعوب الأخرى، وهم رغم أن نسبتهم لا تتعدى الثلاثة في المائة، من سكان العالم، فهم يستهلكون ثلاثين في المائة من الطاقة العالمية، فحضارتهم برأيه حضارة: هدر وتبذير. وبالتأكيد يمكن الوقوف عند أكثر من نقطة، عند هذا الكلام- القديم نسبياً- لكن كلامه يؤكد، من جانب آخر، الوتيرة العالية التي تحكم المجتمع الأمريكي وبنيته، وصولاً إلى ذهنية ونفسية الإنسان الأمريكي، المصنّعة بهذا الاتجاه.

ثم إننا نستطيع أن نرى الوجهين، بين فهميْ دولوز وسعيد، الفهم الفلسفي المعرفي عند الأول الذي يرى أن ما أشرنا إليه عبر فتحي المسكيني: عن الريزوم لا يتألف من الأسس والعقائد والأجهزة بل من مشكّل من مسطحات تقبل التعدد والوصل مع جذوع أخرى، والفهم السياسي الجذوري عند سعيد الذي يوصله إلى رؤية الوجه العنصري في أعماق ثقافة هذا المجتمع.

* كاتب من سوريا