ردك على هذا الموضوع

صور من الذاكرة

الغروب الأخير

مذكرات شاهد عيان..

كانت آخر ليلة من شهر رمضان المبارك، حيث اتصل أخي تلفونياً مع سماحة السيد مستفسراً منه عن العيد، فأجابه سماحة السيد بأن اليوم التالي هو يوم العيد.

فلما كان أول يوم العيد اتصلنا هاتفياً لنبارك لأهل البيت المرجعي ذلك اليوم فأجابونا بأن سماحة السيد ليس بوضع صحي جيد، وهو خاضع للعلاج في المستشفى وفي قسم العناية الفائقة. في الحق لقد تأثرنا أنا وأفراد أسرتي كثيراً بهذا النبأ المؤسف، ورحنا جميعاً ندعو له بقلوب موجعة، فهو مرجعنا، وكنا معاً على الدوام.

وعلى الفور قفلنا في جمع غفير من الأصدقاء والمقلدين إلى مدينة قم المقدسة، دخلنا إلى بيت السيد، فوجدنا عدداً من الأشخاص جالسين، وبضمنهم أحفاد السيد يقرأون القرآن الكريم.

 لاحظت أثناء ذلك، أحد أقارب سماحة السيد يمسك كفنا ويخط عليه ما يستحب كتابته على كفن الميت فضلاً عن مستحبات أخرى تجرى على الميت، جرى حديث بين الأخوة، فتدخلت وطلبت أن أبقى معهم لأقوم ببعض الخدمة.

تفضل السادة بقبول طلبي فبقيت بينهم لأجل تقديم المساعدة ثم لم نلبث أن قمنا بتنظيف المكان المقرر للتغسيل وجلبنا سريرين وجعلناهما بموازاة بعض ووظبنا المكان بشكل جيد ثم جاءوا بالجثمان الطاهر لأجل البدء بتغسيله.

بدأنا عملنا بالماء القراح وغسلنا البدن المبارك للسيد الراحل بمساعدة عدد من الأخوة ممن كان لهم علم بالمسائل المرتبطة بغسل الميت وهكذا روعيت جميع المستحبات المتعلقة بهذا النوع من الأغسال وبالطبع فإن هذا العمل كان يجري بكل مراحله تحت نظر وإشراف سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي فكان سماحته يوجه ويشير إلى سائر النقاط والتفاصيل المتعلقة بهذا الصدد، غسلنا الجثمان الطاهر بشكل كامل بعدها شرعنا بعملية غسل الميت مستخدمين أيضاً السدر والكافور وقام كل واحد منا بإجراء هذا الغسل مرتين وبالطبع مع مراعاة حتى أدق وأصغر المستحبات.

كان سماحة السيد صادق مغموراً بالأسى إلا أنه كان يظهر تماسكاً لأجل أن يخفف من وطأة الموقف على بقية السادة أبناء السيد الراحل فقد بدى عليهم جميعاً اللوعة والاضطراب بسبب هول هذا الموقف.

لقد خيمت على الجميع، لبعض الوقت، حالة من السكون لأنهم كانوا مشغولين بقراءة الأذكار والأدعية إذ دعا سماحة السيد صادق الشيرازي بإهداء الاستغفار للسيد المسجى وحينما كنا نغسل الجسد الشريف، كان الباقون أيضاً مشغولين ببعض الأعمال، فسماحة السيد باقر يقرأ زيارة عاشوراء وفصول من واقعة الطف ثم قرأ بعض الأدعية، ودخلوا بعد ذلك إلى الديوانية حيث المنبر الشريف، كما أكد السادة في غضون ذلك على ضرورة أن يجري الغسل بحيث لا تسقط حتى قطرة دم واحدة، ليقع الغسل صحيحاً.

في غضون عملية الغسل تراءت أمام ناظري كل اللقاءات التي جمعتني مع سماحة السيد الراحل (قدس سره) فأنا والحمد لله كانت لي جلسات ولقاءات كثيرة مع سماحته (قدس سره) ولما تزل كلماته مطبوعة في ذهني بل وحتى حركاته وسكناته (قدس سره) بحيث صرت لا أصدق أنني كنت من أولئك الذين شاركوا في غسل سماحة السيد الراحل وهو جسد قد فارقته الروح.

لقد كان يشع من وجه هذا العظيم الراحل نور ساطع لا حد له وهذا كلام أقوله بلا أدنى مبالغة وقد شعر به كل من حضر تلك المراسم.

وهكذا أتم كل منا الغسل بالترتيب وقد أجرينا الغسل أيضاً بالسدر والكافور والماء. وبعد ذلك أحضر الكفن ومعه برد يماني فكتب أربعون مؤمناً تواقيعهم عليه فضلاً عن سائر المستحبات التي سبق وأن أجريت من قبل.. والحمد لله، لقد أجريت سائر المستحبات أثناء الغسل سواء المستحبات الصغيرة أو الكبيرة. ولا يفوتني أن أذكر بأن أحد الأخوة الحاضرين في المراسم، خطر في ذهنه أن يحضر قطعتين من جريد نخل من مكان ما رغم تلك الظروف الخاصة التي يصاب فيها المرء بالذهول من هول الموقف، وبالفعل أحضرهما وكتب عليهما الدعاء المنصوص وجعلناهما على جنبيه الشريفين، وبذلك أنجز كل ما كان ينبغي عمله وإنجازه في تلك المراسم.

رفعنا النعش الشريف ووضعناه في مكان آخر كان قد جرى توظيبه من ذي قبل، ومن الأشياء التي كان سماحة السيد الإمام الراحل (قدس سره) قد أوصى بأن تجعل معه في القبر، قميص كان يرتديه سماحته وقد مضى عليه زمن مديد، بحيث أوشك أن يبلى ولقد رفعت هذا القميص وقبلته تكراراً ومراراً. وضعنا النعش الشريف في مكانه الموظب مسبقاً، وقد لاحظت أن الجميع لم يكونوا ليصدقوا ما يرونه الآن فسماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) لم يكن شخصاً عادياً فغلبت على سائر الحاضرين حالة من الدهشة والذهول ثم جلبت تربة خاصة وخلطت بماء زمزم وخط بها على صدر الجثمان الطاهر للسيد الراحل (الله، محمد، علي، فاطمة، حسن، حسين) ثم كتبت كلمة (يا حسين) على الجبهة المباركة للإمام الراحل (قدس سره) كما أحضروا قطع قماش يبدو أنها جلبت من مدينة كربلاء المقدسة وكتب عليها (يا حسين) وشدوها على الرأس الشريف وجعلوا أيضاً بعض العقيق تحت لسانه المبارك.

وقبل أن يلف البدن الشريف بالكفن بشكل كامل بلحظات قال الشيخ العسكري للسيد صادق أنه في هذه اللحظة يمكن للجميع أن يودعوا سماحة السيد الراحل الوداع الأخير، وفي هذه الأثناء كان سماحة الشيخ الشاهرودي جالساً وكذلك السادة العلماء الأعلام من أبناء الإمام الراحل (قدس سره) فضلاً عن سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) وقد جرى تسجيل هذه اللحظات والمشاهد العصيبة عبر كاميرة فيديو، باستثناء مراسم التنظيف والغسل.

قرأ السيد الشاهرودي مجلس عزاء على نحو مختصر وغط الجميع في حالة من البكاء المرير و الالتياع والتأسي على العزيز الفقيد. ثم تلاه سماحة السيد عباس الذي قرأ بدوره مجلس عزاء مختصراً أيضاً ثم راح كل واحد منا يقبل وجه السيد الراحل (قدس سره). وأحمد الله أنني قد أدركت شيئاً كنت أتمناه دوماً وهو أنني استطعت أن أقبل مكان أثر السجود على جبهة المرجع الديني الراحل (قدس سره). كما أن سماحة السيد مرتضى قبل يدي الإمام الراحل.

وفي غضون ذلك صارت وفود الأخوة المؤمنين المعزين تترى على المكان وقد ازدحمت الديوانية والحسينية بهم ورأيت فيهم نسبة كبيرة من الأخوة الكويتيين وكذلك الإيرانيين من سائر الأطياف، المخالف منهم والموافق للخط الفكري لسماحة السيد الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره).

ثم طلبنا إلى سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي أن يأذن لنا بتغطية الوجه المبارك للسيد الراحل، وبينا نحن نطلب منه ذلك وإذا بسماحته يهب من كرسيه مسرعاً إلى النعش فيجلس إلى جواره ويتحدث إلى أخيه ويناجيه وهو يعتصر ألماً ويتلفظ بكلمات مؤثرة جداً أحسسنا أن نفسه الشريفة تذوب فيها وتقطر، إنه مشهد قد هز جميع الحاضرين من أعماقهم وجعلهم - صغاراً وكباراً- يستغرقون ببكاءٍ ممض وحابس للأنفاس.

وكان من جملة ما قاله سماحة السيد صادق لأخيه (قدس سره): (أنا كنت قد لازمتك، في حلك وترحالك، أينما تذهب كنت أصحبك، في كربلاء، في الكويت، في إيران حيث قدمت على قم فأتيت معك، تركت قم إلى مشهد فذهبت معك، حتى حينما كنت تذهب إلى الحرم الشريف كنت أصحبك، أنا لم أدعك وحدك قط، فلم تدعني وحدي..).

كان وقع هذه الكلمات شديداً على نفوس الحاضرين ولا سيما السادة العلماء من أبناء المرجع الراحل إلى درجة صرنا معها نخشى على السيد، وبيناً هو كذلك فإذا بالسيد حسين والسادة أبناء المرجع الراحل يبادرون إلى السيد صادق ويبعدونه عن النعش الشريف ليجلسوه على كرسيه، لكنه لم يلبث أن نهض من كرسيه ثانية وعاد إلى النعش فبادروه السادة مرة ثانية وتداركوا الموقف لشدة قسوته ووطأته على نفس سماحة آية الله العظمى السيد صادق، لكن سماحته مضى يقول: (كان أخي يواسينا ويسلي خواطرنا جميعاً، فلم لا أواسيه وأسليه، ثم لم يجب أن أبقى وحدي)... وبعد هنيهة أقبل عليه السادة يواسونه ويقبلونه بحرارة ومحبة وهم في حالة بكاء يشفق منها المرء وهكذا أحاطوا به من كل صوب واصطحبوه رويداً رويداً إلى الطابق العلوي للمنزل، وكان من جملة السادة الذين اصطحبوا سماحة السيد صادق، السيد رضا الشيرازي.

بعد ذلك حضر السيد محسن القزويني عند النعش وقبل وجه السيد المرجع الراحل وجعل يهمس في أذنه ويقول له كلمات لم نسمعها.. في هذه الأثناء عاد سماحة السيد صادق الشيرازي مرة أخرى، وراح يقول لأخيه: (الآن وقد تركتني وحدي، فأرجو منك أن تبلغ سلامي إلى سيد الشهداء (ع) والى أبي وأمي واسألهم أن يدعوا لي بحسن العاقبة) هذه الكلمات كان السيد يقولها بمرارة وأسى باديين وقد أحدثت ضجة وغصة في صدور كل من طرقت مسامعهم.. وفي النهاية أسدلنا الغطاء على الوجه المبارك للسيد الإمام الشيرازي الراحل، ونقلنا التابوت إلى غرفة في الدور العلوي للمنزل.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا