ردك على هذا الموضوع

 

فلسفة اللاعنف

د. خالص جلبي

في قناعتي أن المشكلة - أيّ مشكلة - لا تتوقف عند الإعلام؛ فالثقافة الإنسانية عموما تكرس أن يأخذ المرء حقه بذراعه، وهو تكريس خطير لمفهوم الغابة. وفي العديد من الأفلام ترى البطل وهو يسترد حقه الضائع أكثر من عمل الشرطة.وهذا المفهوم ينقض فكرة الدولة التي تعب الجنس البشري في بنائها آلاف السنوات، ومعها معنى وجود الدولة بالأصل؛ ولذا فإن العمل الثقافي في إظهار معنى وجود الدولة، وأنها وجدت بالأصل للفصل بين الناس في اختلافاتهم، وأنه يجب حلها صلحا وبالسلام والعدل، أمر جوهري. ولكن الأفلام والقصص والروايات؛ ومنها أساليب الإعلام المختلفة، كلها تصب في اتجاه أن اللاعنف هو أسلوب الضعفاء، وهو خطأ مرتين:

الأول أنه أسلوب الأقوياء والشجعان، والثاني أن معظم الناس لا يعرفون معنى المقاومة السلمية وآثارها المباركة على أي صراع إنساني. وهنا يدخل على الخط مفهوم الجهاد المغلوط؛ فكل مجموعة بشرية تظن أن خوض الصراع المسلح من أجل حقها المسلوب هو جهاد مشروع. وعند الحركات الاشتراكية يسمونه النضال المسلح، وهو عند المسلمين الجهاد، وربما يعتبر مسلمو كوجرات الذين يحرقون الهندوس، ويحرقهم الهندوس بالمقابل، يعتبر كل فريق منهم وهو يقيم جهنم أرضية في الهند أنه يتقرب إلى الله بحرق أعدائه وأعداء الله؛ ولذا فهو يستعجل في إدخال أرواحهم المشئومة النحسة إلى جهنم يصنعها هو بيديه. وهو نفس الشيء بالنسبة للصراع الذي يحدث في فلسطين؛ فكل فريق يرى أن الآخر هو المجرم، وأن من يقتل من طرفه هو الشهيد. ونحن ليست عندنا قدرة في استيعاب هذا الموضوع ما لم نستحضر وجهة نظر الآخر. وبالطبع فإن كلاماً من هذا النوع يعتبر خيانة للقضية، ولكن نحن نريد النتائج، وهناك الآن دعوة في فلسطين للقيام بنضال سلمي يشترك فيه الجميع. وهذا يجب أن يستنفر له الإعلام حتى يؤتي أكله.

(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتُقُبّل من أحدهما ولم يُتَقبّل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) (المائدة:27).

إن كل حدث يقع في علاقة جدلية ضمن سلسلة الأحداث، فهو نتيجة لما قبله، بنفس الوقت الذي هو سبب لما سيأتي بعده؛  فلا توجد هناك حادثة واقفة في الهواء لوحدها، كما لا توجد حجرة ليس لها مكان في تشكيل الجبل العظيم؛ لأنها تحمل الحجرة التي فوقها، في الحين الذي تقف فيه على الحجرة التي تحتها. ونحن حين نقف على أقدامنا فهي تحمل جسدنا، ولكن الأرض التي تحتها تحمل هذه الأقدام بدورها.. وهكذا تترابط علاقات الحياة، لذا فإن الحديث الشريف الذي يشير إلى جريمة ابن آدم الأولى (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) والمبدأ القرآني ينص على أن لاتزر وازرة وزر أخرى، ولا يسأل الإنسان إلا عما باشر وفعل، إلا أن الأثر غير المباشر هو انتقال هذه الفكرة للبشر الآخرين، ذلك أن عدوى الأفكار قائمة مثل الجراثيم.

ولقد اعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي أن الأفكار هي بمثابة الجراثيم الاجتماعية، فإذا كانت البيولوجيا والأمراض تعمل بآلية انتقال الجراثيم، فإن الأمراض الاجتماعية تنتقل بواسطة الأفكار التي هي النموذج الجديد للجراثيم النوعية، وكما أن البيولوجيا فيها الجراثيم التي لا غنى عنها لتوازن الوسط الحيوي، فكذلك الجراثيم الممرضة التي تفتك وهذا تمثيل  للجراثيم الموجبة والسالبة. إذن في ضوء فكرة من هذا النوع يمكن فهم آيات صراع ولدي آدم، التي هي صورة الصراع البشري الأولى، والتي مازالت تكرر نفسها في صور شتى، سواء في صورة صراع شخصين ينتسبان لنفس المهنة، أو صور الحروب الرهيبة بين الدول؛ لإن صورة الصراع الأولى البسيطة هي بذرة الصراع المروع الأخير .

 إن هذه الآيات التي سلطنا الضوء عليها تعتبر من آخر مانزل من القرآن، ومن الغريب أنه لم يسلط الضوء عليها كي تفهم في ضوء الصورة العامة (البانوراما) لنظر القرآن للمشاكل وكيفية حلها؛ لذا وجب أن توضع هذه الآية في مفهوم (طريقة مبتكرة جديدة لحل المشاكل) وهي طريقة مفتوحة عبر التاريخ، يستطيع البشر استخدامها أو الوصول إلى مستواها من خلال (التربية) وهي مفتاح حل مشاكل النزاعات البشرية لو أمكن تطبيقها؛ فمن خلال عدة مبادئ متفرعة عن المبدأ الرئيسي (الأول) الذي يقول: يستمر الصراع إلى مداه الأقصى، طالما صمم الطرفان على النزاع؛ لأن النزاع يتطلب طرفين مصممين، ويتوقف النزاع حينما يتنازل أحد الطرفين عنه؛ لأنه لا يعقل أن يتصارع الفرد مع نفسه.

ويقول المبدأ (الثاني): يتم إيقاف الصراع بالتخلي عن القوة من طرف واحد.

ويقول المبدأ (الثالث): لا يعني التنازل عن القوة من طرف واحد أن يتراجع الطرف الذي يرى الحق في جانبه، بل يحاور الطرف الآخر ويتحمل أذاه. المهم عدم رد الأذى بالأذى، بل الثبات إلى درجة الموت من أجل الفكرة، وهذا هو مفهوم (الشهادة).

 وبالطبع فإن تربية من هذا النوع في العالم العربي لم تتشكل بعد، فضلاً عن الانطلاق في تنفيذها الميداني.

لا يذكر القرآن في هذه القصة (نوعية القربان)؛ أي (الشيء) الذي نشب حوله الصراع؛ لأن له صوراً لا تنتهي، ويكتفي بالإشارة إلى أنه قربان تم قبوله من الأول ورفض من الثاني. مرة أخرى نلاحظ في القصة عدم التعرض للاسم والمكان والزمان.. الخ، ومع أن الأول لم يسيء مباشرة إلى الثاني، إلا أن الثاني اعترض على النتيجة التي حدثت. والآن كيف يرى كل طرف أن معه الحق؟. (الأول) بدليل نجاحه وقبول قربانه، و(الثاني) يرى أن الحق بجانبه لأن (الانتخابات مزورة؟!) وإذا كان كل طرف يرى أنه صاحب (الحق المطلق) فكيف ستحل المشكلة إذن؟. الطرف الثاني الخاسر في الانتخابات، والذي يرى أنها كانت مزيفة، يرى أن حلها هو في التصفية الجسدية للطرف الآخر. انظر تعبير (لأقتلنّك).

هذا الأسلوب، أي الصراع الدموي، هو أشد ما ابتليت به الإنسانية منذ أن وعى الإنسان وجوده، بل إن بعض الفلاسفة يرون في هذا المرض أنه كان جرثومة إبادة الدول، ونزول القوى العظمى، وانهيار الحضارات (راجع مختصر (دراسة التاريخ) للمؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي في بحثه حول زوال دولة آشور الحربية). ومن الغريب أن ظاهرة الحرب هذه التي هي أبشع من كل مرض، وأشد من كل داء، لم تدرس حتى الآن في أكاديمية مستقلة كظاهرة إنسانية، كما هو الحال في دراسة الأمراض المستوطنة والسارية، والتي قضت على البشر أكثر من كل الأمراض التي عرفتها وما تزال تعرفها البشرية حتى الآن؟!.

الملاحظة الثالثة: أسلوب (لأقتلنك)...

إن هذه اللفظة تشير إلى تصعيد الصراع البشري من مستوى الخلاف في الآراء والمصالح إلى القتال والتصفية الجسدية، أي (إلغاء الطرف الآخر)، وهذا الأسلوب المقابل تماماً للحوار، ومحاولة حل المشكلة بين الطرفين الإنسانيين بدون حذف أحدهما، وطبعاً هذا الحذف يعتمد إلغاء جدلية الوجود كلها، بحيث يمكن نقل هذا الإلغاء أو هذه الجدلية من مستوى فرد وفرد إلى مستوى فرد وأمة، حين يلغي الفرد إرادة الأمة من خلال النظام الفردي؛ لأن الأنظمة الديكتاتورية تعتمد إلغاء إرادة الأمة، وهي ثمرة خبيثة من الشجرة الخبيثة الأولى من الكلمة الخبيثة (لأقتلنك) (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار).

 أريد أن ألفت النظر إلى أن الآية القرآنية قارنت بين الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة، وبين الكلمة الخبيثة والشجرة الخبيثة؛ بمعنى أن الكلمة الطيبة تنمو، كما أن الكلمة الخبيثة تنمو، وكما أن الكلمة الطيبة تنمو إلى أن تصبح شجرة زاهية باسقة، فإن الكلمة الخبيثة تنمو أيضاً إلى حد أن تصبح شجرة؛ إذن فمن طبيعة الكون - على ما يبدو- أن الفساد ينمو أيضاً ويكبر، ويضخم ويقوى. وهو ما نشاهده بالفعل في الحياة اليومية في صور شتى، إلا أن هناك بنفس الوقت ميكانيزم خاص في الطبيعة يعتمد على تفتيت وهدم الباطل والضار والسيء، وهو قانون في الطاقة والمادة والروح، في الطبيعة والتاريخ والبنية النفسية والكيان الاجتماعي؛ (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد:17)... (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (الأنبياء: 18).

إن أكبر دليل على سلبية الحقد والحسد والكراهية، هو من تأثيراته البيولوجية. ونتساءل: هل الغضب مفيد بيولوجياً؟ لنتأمل تأثيراته مع تأثيرات الحب فهو أسرع بريد في نقل المعلومات.

إن الأول يفرز من الناحية البيولوجية السموم، في حين تنتشر السعادة مع بدء عمل الثاني. لذا فإن أسلوب (لأقتلنّك) هو إلغاء الطرف الآخر بإلغاء الحوار، ونفي إمكانية التفاهم والالتقاء في مكان ما من طريق الحوار.

وبالطبع فإن هناك عقليتين خلف كل من الكلمتين (لأقتلنك) في طرف و (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) في الطرف الآخر؛ فعقلية (لأقتلنّك) هي تلك العقلية الدوغمائية الوثوقية إلى درجة اليقين المرعب، إنها تحت تأثير أنها امتلكت (الحقيقة الحقيقية المطلقة) ، وهي سمة بارزة في أصحاب الاتجاهات المتطرفة أيّاً كانت ساحتها دينية، أم قومية، علمانية، أو حزبية.

في حين أن العقلية الثانية ترى أن هناك عندها هامشاً للخطأ والصواب. وهذا التحليل تترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية؛ فطالما رأت هذه العقلية أن هناك هامشاً للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي، وبالتالي تفتح المجال أمام النمو والنضج وتصحيح الأخطاء، في حين أن العقلية الأولى تترتب عليها نتائج مخالفة تماماً ومريعة تماماً؛ فطالما ظنت أنها تمتلك الحقيقة النهائية، فهذا يعني بشكل آلي أنه ليس هناك هامش للخطأ بل كله صواب، وبالتالي لا حاجة للمراجعة، وبالتالي لا نمو ولا نضج أي لا حياة، بذلك يُستل نور الحياة تدريجيا من هذه العقلية، فتنتقل بالتالي إلى مرحلة توقف نبض الحياة، وبالتالي التجمد والتحجر والتحول إلى كائنات محنطة في متحف الحياة المتحرك.

إن الله الذي خلق الطرفين، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع، لم يلغ طرفاً على حساب طرف، بل منح الوجود للطرفين، إلا أن طرف (لأقتلنك) لا يرضى بهذا، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر، فإذا قال هذا الطرف إن الله أوجدني ومنحني المشاركة، يكون جواب الطرف الأول العملي: نعم إن الله منحك الوجود، أما أنا فإنني أكبر منك؛ ولذا سوف ألغيك؟! (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه)  (غافر: 56).

ومن الناحية العملية تفضي هاتان العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر، أو إلى حرب أهلية مبطنة أو قائمة؛ فحين تترك العقلية الثانية المجال لهامش من الخطأ، وبالتالي المراجعة والنقد الذاتي، فإن هذا ينبني عليه التسامح مع الطرف الآخر، بل احترامه، بل طلبه، بل حمايته، لأنه مع جدلية الطرف الآخر يميل الطرف الأول إلى التصحيح، وتقويم الأخطاء، ولذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً، ليس فقط للفرملة والتوازن، بل ضرورياً لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه؛ لذا كان على الطرف الأول ليس احترام وجود الطرف الثاني فقط، بل أن يسعى لإيجاده إن لم يكن موجوداً، وليس على العكس إلغاءه إن كان موجوداً؟؟!!.. إنه فرق رهيب إذن بين العقليتين؛ العقلية الثانية تفسح المجال للأخطاء، للنقد المضاد، للمراجعة الذاتية، للتسامح مع الطرف الآخر، لاحترامه لما فيه من خير عميم، والعقلية الأولى تلغيه إن كان موجوداً؛ إذن فالعقلية الثانية توجد ملغياً، والأولى تلغي موجوداً، وهذا هو الفرق بين العقليتين، وبالتالي هذا هو الفرق بين الحياة والموت فلا يستويان (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (فاطر: 19-20).

وهنا نقطة مثيرة وعجيبة في فهم (الجهاد)، تتولد من هاتين العقليتين في فهم كيفية حل المشاكل: العقلية الأولى ترى أن الجهاد هو حمل الطرف الآخر على الاستسلام لرأيك وعقيدتك ودينك، في حين ترى العقلية الثانية أن الجهاد هو من أجل حماية الطرف الآخر ليعبر عن رأيه ولو خالفك، وهو المبدأ الذي وصلت أوربا إلى تنسم أجوائه بشكل جزئي وعنصري ومتأخر وبعد معاناة رهيبة، وهو الذي طُرح منذ أيام فولتير في مقالته المعروفة (اسحقوا العار)؛ أي إن الجهاد شرّع ليس (لإزالة الكفر) بل لـ(دفع الظلم) (أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير)، وهذا المفهوم يتماشى مع روح القرآن الذي يرفع مبدأين هامين يعتبران انعطافاً نوعياً في تاريخ الفكر الإنساني، وهو ما انتبه إليه المؤرخ البريطاني توينبي حين أشار إلى أن الإسلام كان المبدأ الوحيد في تاريخ العصور الوسطى الذي سمح للمخالف بالبقاء على قيد الحياة مع الاحتفاظ بدينه.

هذان المبدءان هما: (حرية العقيدة) تحت شعار الآية: (لا إكراه في الدين)، وحماية هذه الحرية من خلال وسائل أهمها: (إمكانية استخدام القوة المسلحة) لحماية الناس من الفتنة (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي أن الإسلام سوف يجاهد من أجل أن يسمح للطرف الآخر الذي لا يؤمن به بالبقاء، بل حفظه، بل حمايته من أجل أن يعبر عن رأيه حتى ولو كان معارضاً للإسلام، وهو مفهوم انقلابي في تاريخ الفكر الإنساني، ذلك الذي جاء به الإسلام، أو على الأقل ماتفهمه شريحة من المفكرين أشاطرهم الرأي فيه، وعندما أناقش شرائح المفكرين، ومنهم بالطبع الاتجاهات الإسلامية، أرى أن هذه النقطة لم تتوضح عندهم بعد، وأرى أن توضيح هذه النقطة على غاية الأهمية؛ لأنه بموجبها سوف نرسي قاعدة العمل السياسي، بل الحضاري في العالم الإسلامي.

إن هذا المفهوم سوف يقودنا بشكل آلي إلى التعددية السياسية؛ لأن الكون يقوم على الاختلاف والتعددية. وهذه الفكرة هي النقيض لفكرة عدم السماح لأصحاب الأفكار بالتعبير عن أفكارهم، فضلاً عن تصفيتهم جسدياً كما جاء في بعض المؤلفات الإسلامية المعاصرة، بدعوى أنهم مرتدون.

لقد حان الوقت لنعرف أن الإسلام لا خوف عليه، وإذا كان الإسلام سوف يختفي بمجرد السماح للأفكار الأخرى بالتعبير، فلن يجدي هذا الدفاع الهزيل عنه، ثم إننا لم نستوعب التاريخ حقاً حتى الآن، من أن الإسلام ساد وانتشر بدون دوله السياسية، في حين أن الشيوعية انهارت، وأصبحت في ذمة التاريخ، وفي ظل أعظم دولة مسلحة تحميها في تاريخ الجنس البشري.

ويتفرع شيء خطير جداً من السياق الذي عرضناه في حرية الرأي، والرأي المعارض وهو أن الإنسان لا يقتل من أجل أفكاره أياً كانت هذه الأفكار، وهذه مرحلة عاشتها القرون الوسطى حينما أحرق (جيوردانو برونو) (*) من أجل أفكاره - ولم يعرفها العالم الإسلامي على الأقل بشكلها الحاد -.

وهنا فكرة رائعة من التاريخ الإسلامي، في الصدام الذي حدث بين الإمام علي بن أبي طالب  والخوارج؛ فهو لم يرفع السلاح بوجههم، ولم يقاتلهم، ولم يقتلهم، إلا حين تجاوزوا (حرية الكلمة) إلى (فرض الكلمة) و(بقوة السلاح).

إن الإمام علي خالفه الخوارج ثم كفّروه، فلم يفعل لهم شيء، (انتبه) وعندما انتقلوا إلى الخطوة التالية وهي رفع السلاح واستباحة الدماء (جاهدهم).. إنهم استباحوا دم كل من يعارضهم الرأي بمن فيهم دم الإمام علي بل تآمروا على قتله ثم قتلوه.

إن هذه النقطة على غاية الأهمية، لأنه سيوجد من المسلمين من يستبيح دم حتى من كان في (عدل علي).

وتأمل نقطة أخرى مهمة جداً وهي أن الأمام علي، مع كل ما جرى مع الخوارج بما فيه مصرعه على أيديهم، لم يعتبرهم كفّاراً بل من الكفر فروا، ولم يعتبرهم منافقين؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وأولئك يذكرون الله كثيراً، بل جاءت الأحاديث بكثرة عبادتهم، وجلُّ رأي الأمام فيهم أنهم طلاب حق أخطأوا الطريق في الوصول إليه: (ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).

ومن قصة الإمام علي نفهم شيئاً آخر، وهو أن الجهاد منفصل تماما عن مشكلة الصراع العقائدي؛ فهو (وظيفة) تستخدم لرفع الظلم من أجل (إقامة العدل) الذي قامت به السموات والأرض، ولو أن أمريكا تدخلت في البوسنة كما تدخلت ضد العراق، من أجل إقامة العدل، لفتن المسلمون بها أيّما فتنة، وهذا هو السر في جاذبية الإسلام وتعليل انتشاره؛ فهو انتشر بروح العدل، إلا أن التجربة دلتنا على أن الغرب شبيه بمجتمع القراصنة على ظهر سفينة؛ فهم فيما بينهم وكل من يطأ سفينتهم يعامل بقانون القراصنة؛ فهم أقرب إلى العدل فيما بينهم والمساواة بين الأسود والأبيض، وكان عندهم نظام تعويضات راقٍ، فمن خسر ذراعه دفعت له 500 قطعة ذهب، ومن قلعت عينه عوض بمبلغ آخر، وإذا اختلف اثنان منهم حسمت المعركة بينهما على الشاطئ. ولكن القراصنة كما نعلم يجوبون البحار في شكل عصابات يمزقون لحم الآخرين، فيسطون على السفن، ويخطفون عباد الله، ويسفكون دم الآخرين لأتفه الأسباب؛ لاعتمادهم مبدأ الذراع القوية. كانوا ينهبون المرافئ ويفعلون كل المحرمات بدون أن يهتز لهم رمش عين. بهذا فإن هذه الوظيفة، أي الجهاد، قد تستخدم ضد الكافر (الظالم)، أو ضد المسلم (الظالم)، المهم أن يكون ظالماً، بغض النظر عن كفره أو عدمه، كما فعل الإمام علي بن أبي طالب ضد الخوارج. والخوارج لم يكن اسمهم (خوارج) بل حازوا هذا اللقب تاريخياً، أما هم فكانوا يسمون أنفسهم مجاهدين و(شراة) أي باعوا أنفسهم في سبيل الله(!!). في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس (جهاداً) بل خروجاً، بسبب تبني (القوة المسلحة) لفرض آرائهم بالقوة. وهو ما وقعت فيه معظم الحركات الإسلامية في التاريخ المعاصر؛ إذ قد ضلت طريقها مرتين: مرة في (الهدف) وأخرى في (الوسيلة)؛ (الأولى) بوضع الغاية أن الوصول إلى الحكم يحل المشاكل (كلها ودفعة واحدة)، ولم تعلم أن المشاكل تبدأ فعلاً بعد ذلك، و(الثانية) في تبني (العنف) وسيلة للتغيير.

هناك آيتان في القرآن، واحدة في سورة يونس، والأخرى في سورة الأعراف، تصبان في ترسيخ نفس المفهوم السابق من أن المشكلة ليست (نزيحكم ونقعد محلكم؟!) بل المشكلة هي تغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض أن ينتشر. وإننا سوف نعيد أخطاء الآخرين بشكل أبشع عندما تكون تحت (العباءة الإسلامية)، ولا يظن الإسلاميون أن خصومهم كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديموقراطي حر، ولكن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر. تأمل الآية : (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (الأعراف:128-129).

من هنا نشعر بعمق مأساة العالم العربي؛ لأن الجهاز الحضاري لم يتشكل بعد، فلا الحكومات ترحب بالمعارضة فضلاً عن إيجادها، ولا المعارضة تدرك أن المشكلة هي (ليست) في الإطاحة بالأنظمة.

لقد أدرك عبد الرحمن الكواكبي، الحلبي هذه النقطة بمنتهى البلورة قبل ثمانين عاماً وسجلها في كتابه القيّم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ورأى أن الحل لا يكمن في تغيير الحكومات، بل دعا إلى المحافظة عليها مع تعديلها الذي سيكون آليا مع نمو المعارضة. إن السيارة تحتاج إلى (دعسة بنزين وفرامل) معاً، وليس إلى نزع دعسة البنزين ووضع أخرى محلها؛ ذلك أن (سيارات) العالم العربي كلها تمشي بدون فرامل وتقود شعوبها إلى الكوارث.

إن ما نحتاجه هو تغيير أبستمولوجيا الفكر وليس الحكومات؛ لأن الأنظمة السياسية هي في النهاية إفراز عفوي للشعوب، وعدم الانتباه إلى هذه النقطة أوقع حركات التغيير السياسي والاجتماعي وشعوبها في مطبات لا نهاية لها. من هنا ندرك خطأ الحركات الإسلامية في تشديدها على المناطحة السياسية واستنفاد جهدها في عمل لم ولن يقد إلا إلى الكوارث، ومن هنا ندرك أيضا عمق المعنى في الآية القرآنية، بأن الله لا يغير ما بقوم، ليس حتى يغيروا حكامهم، بل حتى يغيروا ما بنفوسهم.

الملاحظة الرابعة: كنت في كندا في مطلع عام 1990 م ، فقدمت محاضرة للشباب في الكلية الفرنسية للتقنية في مونتريال، وتحدثت عن ظاهرة العنف، وتناولت قصة ولدي آدم، فعقب أحدهم: ولكن الذي مارس اللاعنف خسر في النهاية وقتل؟. (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله).. تدخل شاب ذكي في النقاش حيث أدرك أبعاد اللعبة الإنسانية، واستوعب عمق القضية؛ حيث انتبه إلى كلمتي (الخاسرين) و(النادمين). وهكذا استرسلنا في شرح موسع للظاهرة:

أولاً: لم يعتبر القرآن أن المقتول هو الخاسر، بل العكس فقد اعتبر أن القاتل هو الخاسر الأعظم، ولم ير أية خسارة للمقتول؛  وبذا تنقلب معايير الكسب والخسارة (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين).

ثانياً: دخلت القصة بعداً جديداً حين محاولة إخفاء آثار الجريمة، حيث أصيب القاتل بنوبة مريعة من تبكيت الضمير والندم على ما فعل، وهذا هو بيت القصيد؛ لأن تفاعل الحدث الإنساني في داخله يصل إلى مداه المثالي حتى مع موت أحد الأطراف، والأطراف كلها ميتة على كافة الأحوال (إنك ميت وإنهم ميتون) ولكن الموت هنا وبهذه الصورة هو الحياة الفعلية ودخول الخلود.

الندم هو أول الطريق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ الضمير، واستيقاظ الضمير هو اعتراف بصحة موقف المقتول، أو تبني رأيه وإحياء أفكار الذي مات، ففي الوقت الذي مات الأول واستشهد، كان هذا هو السبب في إحياء ضمير الثاني، بل وتبنيه لأفكار الذي مات ودفن. دفن الأول بالثرى وعاد الجسد إلى مصدره الترابي، ولكن (الفكر) الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسد الترابي ليدخل عالم المطلق والخلود.

لذا وجب أن ينظر الفرد ليس إلى حياته الفردية الهزيلة القصيرة، بل إلى عمق أثر الأفكار عبر التاريخ؛ فالأفكار الخالدة تبقى حية على مر الزمن، والأفراد يموتون، والحبة حتى تنبت لابد من دفنها أولاً .

 يجب أن يكرس الجهد لخلق وسط حضاري جديد في الأمة، بأن يحرص أحد الطرفين على التوقف عن الصراع الدموي ومحاولة إلغاء الآخر، ولو من طرف واحد؛ لأن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته، وتصفية الآخر ، كما هو الحال في قصة ولدي آدم. الإصرار على مبدأ الحوار، حتى لو رفضه الطرف الآخر، وعدم التراجع عن مبدأ المبادئ كلها (الحوار) والثبات عليه، بل وحتى الاستشهاد في سبيله، هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف. إن كان هناك إصرار فليكن على التخلي ودفعة واحدة عن العنف المسلح؛ لأن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار يقود في النهاية إلى النزاع المادي؛ لأن الحروب تنشأ أولاً في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية.. وإعلان الرأي - ضمن شروطه المنتجة - مع تحمل تبعة مسؤولية إعلان الرأي حتى لو كان في النهاية سيقود إلى الاستشهاد.

من هنا نعلم أن هذا الطريق يحتاج إلى تدريب خاص، إلا أنه على كافة الأحوال ليس بقدر تدريب الثكنات العسكرية، كما أنه أقل تكلفة في الوصول إلى أهدافه، بل ويفتح الطريق إلى تدريب الخصم على التوبة والرجوع إلى صوابه حين يدرك أن ما تريده ليس إلغاءه وتصفيته، بل إنك مستعد ليس لقتله، بل لأن تموت أنت من أجل إحياء ضميره المريض؟!! بل إن هذا الأسلوب في الصراع سوف يحيي الأمة برمتها، بفتح أسلوب جديد لفك النزاعات، وزرع فكرة سامية تعطي للحياة معنى، وتمد جذورها في المجتمع عبر التاريخ، وتثمر إن كانت كلمة طيبة، كما حصل مع ابن آدم الذي خلد القرآن موقفه بأن طرح أسلوباً جديداً لفك النزاعات البشرية؛ فخلد موقفه بخلود القرآن الذي يتلى إلى قيام الساعة، أمّا جسده الترابي فرجع إلى دورة الطبيعة، وأما موقفه فبقي خالداً لايموت .

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ).

 

الهوامش:

(*) جيوردانو برونو: اعتقلته محكمة التفتيش في البندقية عام 1592م بسبب آرائه، وتم إحراقه حياً في 17 فبراير شباط عام 1600م وعمره 52 سنة وأهم كتبه (في العلة والمبدأ الواحد) الذي كتبه عام 1584.

ردك على هذا الموضوع

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية