السيد الشيرازي نموذج التسليم الكامل الخالص لله

أنور آل محمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 130- 133).

وقال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): (لأنسُبن الإسلام نِسبة لم ينسُبها أحدٌ قبلي، الإسلام هوالتسليم، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل) (نهج البلاغة - قصار الحكم 125).

عشنا قبل مدة واحدة من أعظم المصائب التي أصيب بها العالم الإسلامي، بل هي مصيبة كل حر عاقل منصف من البشر. تلك المصيبة كانت خسارة رجل مسلم عالم عامل، جاد به الزمان علينا، ليعيش فترة قصيرة المدة، عظيمة البركة بيننا، ولا يعرف متى وهل سيجود الزمان بمثله؟! تلك المصيبة كانت رحيل المؤمن الفقيه، سليل الدوحة النبوية. ونجل الفقاهة والعبقرية، السيد الشيرازي - قدس الله سره وأعلى في الجنان مقامه - لا بل كانت رحيل ركن من أركان أكبر حركة تجديدية وصحوة إسلامية شهدها العصر. تلك الحركة التي نبعت جذورها من معين الوحي الصافي، وامتدت لتطاول كل ما بلغه وسيبلغه الناس فكان (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24).

لقد مثل الإمام الراحل (قدس سره) مدرسة التسليم الكامل الخالص لله وحده، تلك المدرسة التي ترادف عليها وتواصى بها الأنبياء والأئمة(ع)، حيث أسلم لله ربه طوال حياته وفي جميع أموره، في شدة أو رخاء أو بؤس أو نعماء.. ولم يحدث الزمان أن الإمام الشيرازي قد أذعن لأمر واقع، إذا كان يرى أن الشرع يرى ضرورة مقاومته، أو طرح فكر يخالفه، مهما كان حجمه وحجم القوة المادية والإعلامية التي تقف خلفه؛ فلقد قرر رضوان الله عليه أن النظرية الصحيحة هي التي يجب أن تؤخذ مباشرة من الشرع الشريف ولا تتعارض مع العقل أو فطرة البشر أو السنن الآلهية، والأمر والواقع يجب أن يقيم بتلك النظرية التي يجب أن يخضع لها في كل عصر ومصر، لا أن يلوى عنق النظرية لتتماشى مع الأمر الواقع؛ لأن السيادة في الأخير للنظرية، وإن طال تمرد الأمر الواقع عليها وبطشه بها.

لقد كان مسلّماً لله أمره في عمله وفكره وفقهه ودعوته إلى الإسلام بما تحمله تلك الدعوة من بشائر السلام لجميع الخلق، كما أسلم أمره لله في التعامل مع الناس وخصوصاً مع من خالفه الرأي وناصبه العداء؛ فكان مثالاً في التعفف والورع والأخلاق. ولم يتخذ من سيرة الرسول (ص) ووصيه وأهل بيته الطاهرين قصصاً للتأليف والتبرك، بل كانت تلك السيرة دماً يجري في عروقه، ومنهجاً يأبى إلا أن يسلم له حق التسليم، ويلتزم به كاملاً غير مجزأٍ في جميع أموره.

فلقد فتح عينيه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى على البلاد الإسلامية وهي ممزقة الأوصال منهوبة الخيرات، تتقاذفها أيدى الشرق والغرب، وقد زرعت بذور الفتنة بينها، ثم منحت استقلالها بعد ثورات أهلها بتلك الحال، لتبقى ضعيفة تابعة للمستعمرين؛ فلم يذعن لذلك الوضع باعتباره أمراً واقعاً، لمّا علم مخالفته لما أراد الله ورسوله لهذه الأمة من الوحدة والسيادة والاستقلال وإن أذعن عامة الناس له، بل وقف منافحاً داعيا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة منذ نعومة أظفاره، ولم يدخر وسعاً أو فرصة سانحة إلا وتكلم في ذلك الموضوع مع الساسة والوزراء والسفراء، وظلّ يذكر الناس بخطر ذلك التشرذم والضعف، ويوجههم إلى عناصر القوة في هذه الأمة، ولم يخش في ذلك لومة لائم ولا استخفاف مستهزء، بل كان مسلّماً أمره كله لله.. فكان في تلك الفترة الداعم والمحامي عن الحركات التي تدعو إلى استقلال البلاد الإسلامية وتنشد حريتها وعزتها، وكان هو الجبل الأشم في مواجهة سياسة المسخ والتحلل الثقافي والدكتاتورية التي اتبعها النظام في العراق باسم السلام والتقدم، ولم يلتبس عليه تشابه المسميات التي كان يدعو لها هو لأنه كان عارفاً مدركاً لحدود وحقيقة ما كان يدعو له، حتى إذا ضاق النظام به ذرعاً في ذلك الوقت، قرر التخلص منه بالاغتيال أولاً ثم لما لم يفلح بالإعدام.. فكان فكره أول فكرٍ يواجه تلك السياسة على هذا المستوى، وذلك قبل ثماني سنوات من افتضاحها، بل كان هو أول مرجع فقيه يحكم عليه بالإعدام في ظل ذلك النظام.. ولو أن الحوزة العلمية آنذاك تنبهت لما كان يدعو له ويحذر منه، لما حلّ بالعراق ما حل به.

وعندما خرج من العراق لم يهن ولم يضعف عن تبليغ رسالة ربه في أي أرض حل بها؛ لأن من أسلم أمره لله هانت الدنيا وما فيها في عينه.. فنزل في الكويت ذلك النزول المبارك على أبناء منطقة الخليج عامة، ولم يبدل ولم يغير، بل كانت دعوته هي هي، تلك الدعوة البسيطة في فهمها والعميقة في معناها، والتي تجسد التسليم الكامل لأمر الله الذي (يريد بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185). ولئن كان السيد (رحمه الله) في عصره أول المسلّمين لله وأوامره في الجهاد والتضحية ، فقد كان أول المسلّمين له في حال السلم والصفح والعفو.

وعندما قامت الجمهورية الإسلامية في إيران، رحل إلى هذا البلد واستقر فيه. حيث تحقق فيها بعض ما كان يرى أن الدين يدعو له، من إقامة حكم الله والاستقلال وسيادة الشعب - حسب ما تضمنه دستورها - ولم ينس في خضم ذلك النصر وترادف كبار مراجع التشيع في قم على زيارته، تسليمه وتواضعه لله، وكيف أن المؤمن (إذا فرح لم يدخله فرحه في باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من حق) فظل فيها مسلّماً لأمر الله، موجهاً بالدعوة تارة، والكتابة أخرى، مراعياً مصلحة الإسلام ومقدماً إياها على مصلحته، وكان يريد لتلك الدولة أن تكون نموذجاً يحتذي به المسلمون وغيرهم، لا بل أراد لها أن تتفوق على الغرب والشرق؛ لأن رسالة الإسلام لكل البشر، ولم يغفل عن التسليم لله في ما أمر ونهى ولم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يفرق بين منكر ومنكر خرج تحت أي مسمى أو أي إطار، حتى لو تلبس باسم الدين؛ فكان جهاده وجهاد الفقهاء المخلصين خلال عقد من الزمان مضى، من أصعب سني الجهاد في حياته وأعظمها، حيث التبست فيه الأمور، وعمل الأمر الواقع في النظرية ما عمل حتى صار يسيرها! ولا يثبت في مزالق هذه الأمور إلا من امتحن الله قلبه للتقوى، ووفقه لما هو أهدى؛ فأصر - رضوان الله عليه - على الدفاع عن النظرية الإلهية، وتخليصها من لبس الأمر الواقع، لتكون هي الحاكمة عليه، مسلّماً في ذلك أمره كله إلى الله وحده. وكان يدعو إلى إصلاح شؤون المسلمين الداخلية والخارجية في جميع نواحيها على حد سواء، ولم يرَ في دعوى الانشغال بقضايا كبرى عادلة مبرراً لتضييع حقوق الناس، وعدم الحديث والكتابة عن أمور مرتبطة بفطرة الإنسان، وهي من صميم الشرع، مثل الحرية والشورى والتعددية والوحدة وغيرها من المفاهيم التي لا يمكن للأمة أن تواجه التحديات الكبرى من دونها. وكان بإمكانه وهو الأقدر على الكتابة والحديث أن يسخر قلمه ولسانه للحديث عن تلك القضايا لكي يبرز في الإعلام، ولكنه أبى إلا أن يعطي كل ذي حق حقه.. ودافعه في ذلك كله هو التسليم لله وحده، الذي يأمره بالدفاع المادي والفكري عن الدين في كل زمان ومكان، لتعم رسالته كل شعوب الأرض. وتجلى ذلك في كتابه الذي كتبه عام 1416هـ والذي حمل عنوان (إلى الكتاب الإسلاميين).

ولقد أراد بتلك الحقيقة تعزيز إنسانية الإنسان التي فضل بها على الخلق بعقله وفكره الذي يجب أن يقوده ويسيره، لا أن يقاد ويسير بأهواء البعض، وما يفرضه الأمر الواقع، فإن تلك هي عيناً شريعة الغاب البهيمية. كما كان يرى أن صحة أي نظرية أو إمكان تطبيقها من عدمه لا يحدد بالأمر الواقع، وإنما يجب أن يكون ذلك من خلال النظرية أيضاً.

وأما تسليمه لله في فكره وفي فقهه، فهذا ما لا يسع المقام لذكره؛ فلقد كان مصداقاً لقول أمير المؤمنين (ع): ( ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه، من لم يرخّص الناس في معاصي الله ولم يقنطهم من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه.. ولا خير في عبادة ليس فيها تفقه) (تحف العقول-ص144)

فأي معصية رخّص فيها، حتى وإن تسالم الناس ظناً بحليتها؟ وأي رحمة دينية ودنيوية قنّط منها غيره ونفّرعنها؟ ومن الذي آمنه من مكر الله بمدحه أوتساهله في شرع الله؟ أم متى ترك القرآن، الصامت منه والناطق، في الفقه أو الأصول أو الفكر بل وحتى في الطب والفلك؟! أو ليست كتبه التي كتبها لعامة الناس وجميع طبقاتهم تطفح بذكر الله وروايات أهل بيت العصمة؟ بل لم يقتصر على آيات الأحكام المشهورة، لاستنباط أحكام الفقه، ولا أحاديث الفقه المشهورة، بل تعدى ذلك ليستنبط من جميع آيات القرآن وتراث أهل البيت، ذلك التراث الذي لو علم الناس جميعاً محاسنه لاتبعوه. أو ليس هو الذي طورد وشرد وحورب على مدى أكثر من نصف قرن، بل وظلّ جليس الدار، كل ذلك تسليماًَ منه لله وحده؟.

ولئن رحل عنا هذا المؤمن الفقيه العامل العامل ببدنه ووري في قبره، ولئن ظن البعض أن دفنه في غير بيته سيبعد الناس عن فكره، فإن له منزلاً بقلب كل مؤمن منصف (فالعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة) (نهج البلاغة-قصار الحكم 147). ولقد أصبح رضوان الله عليه رمزاً ومنهجاً ومدرسةً للصبر والاستقامة والثبات يحتذى بها، وكيف لا يكون كذلك والله حميد شكور لمن عمل صالحاً ثم اهتدى، و (خير من الخير فاعله)؟ وسيظل أنشودة في ثغر كل مخلص مسلّم أمره لله، ولئن جهل البعض قدر هذا الرجل في حياته، فقد أبقى الله له جميل الأحدوثة بعد وفاته. وذلك شأن الأنبياء الذين (لو كانوا أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام وملك تمد نحوه أعناق الرجال وتشد إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، ... ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصة لاتشوبها من غيرها شائبة، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل) (نهج البلاغة- خطبة 191) و (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص-83)

رحم الله مولانا السيد الشيرازي وألحقه بأجداده الطاهرين ولا حرمنا بركته في الدنيا والآخرة. وعظم الله أجر مولانا صاحب العصر والزمان به وكذلك عظم الله أجر عائلته المحترمة وأخيه المعظم بفقده ، وربط الله على قلوبهم وقلوبنا وجعلنا من المسلّمين لأمره..