هكذا عاش الشيرازي ملحمة عاشوراء

استدعاءات للذكرى والتذكير

نبيل عبد الكريم

الإمام الراحل الشيرازي الكبير جزء حيوي من نهج استمرار المشروع الكربلائي في التاريخ, لم يعش أحداثه ووقائعه ومشهده الدرامي، كأي منفعلٍ في حياة الجماعة الإسلامية، إنما عاشه كامتداد شرعي لصيرورة الحدث، وتفاعل معه تماماً مثل تفاعل الأبرار المجاهدين من الفقهاء والعلماء الذين شاركوا في الثورة كلٌ من موقعه. وإلى يوم رحيله عن الدنيا كان الحسين (ع) هو العنوان الأكبر لمشهد هذا الفقيه في حركته القيادية، ومرجعيته الدينية، وأبوتهِ المحضة، واستقطابه الكبير للحياة الإسلامية الممتدة من طنجة إلى جاكرتا.

وللإمام الشيرازي (قدس سره) طريقته في الاحتفاء بعاشوراء الحسين (ع)، لا تختلف عن طريقته في التفاعل مع مفردات الفكر الإسلامي، واستنباط الأحكام، والاجتهاد بالشريعة، والانفتاح على حدود الحضارة الإسلامية.. فالإمام (رض) لم يكن يفصل واقعة الطف، وأسرار الثورة، وحركة المسيرة الاستشهادية، عن المشهدية الخلفية لنهضة الإمام الحسين(ع)، وكان يعتقد أن هدف الثورة يتجاوز الزمان والمكان والحدود و السياسات والأشخاص و الاختلافات في المفاهيم والرؤى عميقاً في مرتكزات وأهداف الإسلام ألاستشهادي الذي قاده الإمام الحسين(ع) في العاشر من محرم.

فالثورة جسر النهضة، والدم محور الدينامية المتوهجة، والاحتفاء بالوقائع إسقاط واع للوقيعة التي حرصت قوى العدوان على تأسيسها كلما مر التاريخ على الواقعة وأنصفها ووضع الفاعلين فيها في الموقع المناسب لهم من حيز النهضة وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والعقائدية والحضارية في حياة الأمة. وكأنه يحارب قوى العدوان ويضعها في محور العداء للإسلام؛ كونها شهرت سلاح الإرهاب ضد الحركة الإسلامية التي قادها أبو الشهداء الإمام الحسين (ع) وبلورها بدمه واستشهاده، وكان يعتقد أن عداء هذه القوى للإمام والمجتمع الإسلامي من داخل حرم الدولة الإسلامية أكبر بكثير من إرهاب الجاهلية الأولى.

كربلاء.. قضية أممية

المشهدية التاريخية للواقعة الكربلائية كان لها فعلها الإنساني والوجداني المؤثر في علاقة الإمام الشيرازي بالطف وأهله، لكن هذه المشهدية لم تكن إنسانية محضة في وجدان فقيه عاش القضية الحسينية بكل أعماقه. وفي جميع مؤلفات الإمام، وكتبه وتقريراته المعرفية والفقهية، وبياناته السياسية، وفي عموم حركته المرجعية، وحياته الذاتية، كانت القضية الحسينية تتجاوز البعد الزمكاني، البعد الذي يسقطها في حدود تاريخ غابر، بل كان يجتهد ويشقى ويعمل بجد كبير للانطلاق إلى ذات الحدود الحقيقية التي رسمها الإمام الحسين(ع)، في ضمير الناس، كتعبير عن عالمية الثورة، وضرورة سيادة مبدأ الاعتراف بأن قضية الشهادة لا تقتصر على موت القائد بمقدار ما يؤسس هذا الموت مبدءاً للحياة، وليس للواقعة وشخوصها وأحوالها وطريقة التعاطي معها، بل الحياة لمبادئها وأفكارها ومفاهيمها وللجماعة السياسية والعقدية التي قامت بها.

كان الحسين (ع) في رؤية الإمام الشيرازي (رض) المثال الرسالي الأكبر لعوامل الشمولية والتعبير عن نقاء الفكرة وفكرة نقاء الرسالات والرساليين الذين يقدمون أنفسهم رخيصة لهدف رباني سام هو الموت من أجل الحياة. ولقد عاش الإمام الشيرازي حياته الشريفة كلها في قلب هذه المعادلة السياسية والعقدية الاستشهادية الكبيرة؛ كان في قلب معركة الحياة، عبر خوضه معترك أهوال الموت، ولم يأبه بكل المواجهات والصراعات والأهوال التي عاشها ومر بها في حياته إيماناً منه بأن المستميت لا يموت، وأن الذين يعملون في مدرسة الحسين(ع) لا ينتهون.

كان الإمام الشيرازي يؤمن بأن الأمة - ولكي تتحول إلى أمة عريضة بعنوانها الفلسفي والحضاري والديني، وتكون قادرة على تحمل مسؤولياتها السياسية – لابد لها من تدريب وتثقيف حسيني، بمعنى الأمة، ولم يجد الإمام لأجل تحقيق هذا الهدف الإسلامي الكبير إلا المحرّض الاستشهادي الحسيني والمدخل الكربلائي، كخطوة رئيسية ومتقدمة في إطار إعداد جيل يتدرب بالواقعة؛ لإنتاج ثقافة استشهادية تستعيد معنى الأمة.

فلكي يتحقق حل باهر لاستعادة الدور المركزي في أمة ضائعة مجزأة، فاقدة لمعنى الكيانية والريادة والوضوح والأهلية - في وقت كان المطلوب منها وما يزال استعادة الدور والسيادة والوضوح والقيادة والقوة - لابد من تدريب جيل يخرج الأمة من دائرة الإحباط إلى دائرة الثورة ومن اليأس والقنوط والتشاؤم إلى الأمل بالحياة، الأمل بانتصار الحقيقة الإلهية على الانهيار والاستكانة والخضوع.. وهو الهدف الذي اشتغل الإمام الحسين (ع) به وعمل بمقتضاه في كربلاء. لقد عمل الإمام(ع) على تربية شرائح من الأمة وأعدها إعداداً فكريا وعقائديا خاصا عكس فيه قدرة المثال الإسلامي على تخطي حواجز القمع وسلطة القتل والإرهاب وفي ذات الوقت تكون فيه هذه الجماعة مستعدة للاستشهاد لبلوغ الأهداف الحضارية الكبيرة التي أعدها الإمام(ع) لأجلها.

الإمام الشيرازي(رض) في ممارسته الكربلائية، طيلة عمره الشريف، كان حسينياً في طرحه وإفادته من الأجواء والمعطيات الكربلائية، لم يفرط بمفردة ولم يسقط معطىً ولم يبتعد عن الروحية الخاصة و(الكاريزما) التي أنتجتها الثورة في ضمير النصّ، وفي ضمير المسؤولين عنها.

لقد كان هدف الإمام الشيرازي (رض) تربية جيل من الإسلاميين العقائديين الذين يؤمنون بغاية الثورة وهدفها, بفعلها العقدي والسلوكي والديني والسياسي. وكان يعتقد أن القضية الكربلائية من الخطأ حبسها في ضمير النخبة المثقفة، بل يرى ضرورة إطلاق إشعاعاتها ومفاهيمها وحيوية حركتها الإسلامية المحمدية في الساحات الأوسع من ضمير الأمة, هذه الأمة التي تعيش أقصى مراحل تراجعها وسكونيتها بفعل ضعف علاقتها بالتاريخ.

وبالفعل حدث أن تربى في حاضرة الإمام (رض) (كربلاء) جيل من (الحسينيين) الذين كانوا على استعداد خاص لتنفيذ أغراض الثورة بنفس الروحية الجهادية والاستشهادية التي تربى عليها سلف الثورة في تنفيذ أغراض الإمام (ع) في كربلاء.

في أوائل الستينيات وبداية النصف الثاني منها، كانت كربلاء –كطقس للحالة الإستشهادية ومكان للثورة ومحطة للبكاء واستعادة الوجدان والضمير والحرقة المحمدية على قتيل العبرة- هي المكان الأول للزمن الأول، وليست مكاناً للذكرى وقراءة المقتل وحسب؛ والسبب هو جهد الإمام (رض) الخاص، وجهد الأبرار من النخبة الحسينية المثقفة والمتدينة والعقائدية التي كانت تضبط إيقاع ضمير الأمة على دقات الزمن الحسيني الأول، بنوعية الشعائر، وكثافة إعداد المساهمين فيها، وبمجمل الأساليب والاجتهادات العقدية التي تستعيد الواقعة وتعيد تمثيلها وكأنها حدثت بالأمس!.

هذه الممارسات العقدية، كان الإمام يسعى إليها، ويطالب بسيادتها في كربلاء وبالتحديد في أجواء عاشوراء؛ لأنه لم يكن في الحقيقة طالب مظاهر دينية زائفة، بل كان يطالب بسيادة المضمون الفكري الحقيقي بمظاهره الأصيلة، ولا مظهر فكري حقيقي ومقبول ومقدس بين الناس، إذا لم يرافقه مضمون اجتهادي بالأسلوب. ومن هنا لا يزال الكثير من المسلمين وشيعة أهل البيت (ع)، من مختلف أقطار العالم الإسلامي، يتذكرون (أيام الإمام الشيرازي) في ستينيات القرن الماضي في العراق، وكيف كان يتم الاحتفاء بعاشوراء الإمام الحسين (ع). لقد كان الإمام (رض) بحق الامتداد في المضمون وفي الأسلوب لاستمرار حيوية نبض الثورة الحسينية في ضمير الشعوب الإسلامية. ولم تأخذ الشعائر الحسينية في كل موسم حجمها الحقيقي وحركيتها المفترضة واستمرارها في تاريخ الوعي وثقافة النخبة ونصوص التربية وأدبيات الأحزاب السياسية الإسلامية، خصوصا أحزاب الواقعة الكربلائية، إلا عبر جهود العلماء والفقهاء الكبار لاسيما الإمام الراحل (رض)، بل إنها تكاملت وأخذت شكلها المميز وتقاليدها الروحية الثابتة بجهود الإمام الشيرازي الكبير؛ لقد كان الإمام الراحل بحق حسينياً وأباً للحسينيين..

المرجعية الاستلهامية

يقول أحد المقربين من الإمام (رض): لما انتشر نبأ وفاة الإمام الشيرازي في محيط المستشفى الذي لفظ فيه أنفاسه الأخيرة، ضجّت القاعة بالعويل.. وأول صرخة ارتفعت في ذلك الجو الرهيب نداء (واحسيناه)، مات أبو الحسينيين.. لقد كان حقا أباً للحسينيين جميعاً، وله مع جده الإمام الحسين(ع) قصة طويلة تبدأ من رحم أمه ولم تنته بوفاته، فيوم كان جنيناً في بطن أمه كانت أمه تأخذ يومياً شيئاً من التربة الحسينية للشفاء والبركة؛ إذن.. كيف نتصور شكل المشهدية الكربلائية في روحية الإمام(رض)، والفكرة الحسينية كان الإمام قد تعرّف عليها وهو جنين في رحم والدته، حرم الإمام الميرزا مهدي الشيرازي (رض)؟.

وإذا كان الإمام الراحل (رض) تعرّف على الظاهرة ومشهديتها وهو لما يزل في التكوينات الخلقية الأولى ولم يخرج إلى الدنيا الكربلائية بعد، فكيف نتصور تطور الظاهرة ومشهدها وارتكازاتها وتفاعلها وحجمها في حياته وفي روحيته القيادية بعد ولادته وتدرّجه وانبثاقه في الحوزة والبيت، والحركية والنضج والاجتهاد الفقهي والمعرفي والسياسي؟.

لقد كانت المظهرية الكربلائية وطقسها ألبكائي ومقطعيتها التاريخية وتراكماتها في الثقافة والمعرفة تعيش في وجدان الإمام وتجري في عروقه، بل إن وجدان الإمام (رض)، وعلى ضوء الطينة التكوينية الحسينية التي شكلته بالتراب الكربلائي المقدس، لم يكن وجداناً بشرياً تربى وتدرب بالسياقات التربوية التقليدية، كان جزءً من وجدان الواقعة، بل كان وجدان الحسين (ع) وطهره ونبله وتكوينه.

لقد ترعرع الإمام الشيرازي في مدينة كربلاء، حيث تخيم روح الإمام الحسين (ع)، ونمى في جو أسرة لم ينقطع فيها مجلس التعزية على أبي عبد الله ولو ليوم واحد.. ولقد كان والده يقرأ مصائب جده بنفسه صباح كل يوم في منزله - لمن حضر من أفراد عائلته وأحياناً لنفسه فقط-. وما أكثر تلك الأربعينيات التي كان يتلو فيها الإمام الشيرازي (زيارة عاشوراء) المعروفة في حرم الإمام الحسين، في زمان معين ومكان معين. لقد نذر نفسه لخدمة القضية الحسينية، فكان يدعم ويشجع كل أمر يرتبط بالإمام الشهيد، من مجلس وعزاء وكتاب وشعائر وإطعام وموقف..

يضيف أحد المقربين للإمام (رض) قوله: كان يدعم كل موقف ومجلس وخطيب حسيني، ويشجع كل خطوة حسينية. لقد حمل بحق راية عاشوراء في كربلاء ثم حمل راية كربلاء إلى العالم كله, حمل الراية معه إلى الكويت فأنشأ في كل منزل وديوانية مجلساً حسينياً بينما كانت المجالس مقصورة على المناسبات وفي الحسينيات فقط، وبنى فيها عشرات الحسينيات، وأشاع الثقافة الحسينية. وهنا نتوقف عند آلية تنفيذ هذه الثقافة وطريقة أشاعتها.

الإمام الشيرازي (رض) يعتقد أن الثقافة الحسينية محور كل نشاط واعتقاد ويقين، وما لم تتسم تلك الثقافة بهذه المحورية، فإنها ستفقد معناها وحدودها وتأثيرها. بذلك استطاع الإمام (رض) تشكيل ملامح هذه الثقافة من خلال اتجاهين:

الأول: تربية جيل من الخطباء والمفكرين والعلماء، قادر على استكمال مشهد ضخ الفكر الإسلامي في المجتمع الكويتي، وفي بيروت وانتهاءً بالولايات المتحدة الأميركية.. جيل قادر على إتمام مشهدية الثورة بالثقافة التي تلح على مبدأ المقاومة وترفض كل أشكال التطبيع والتسوية مع مظاهر الاستلاب والهيمنة والرهان على العنف. وهناك مجموعة مهمة من الخطباء منتشرة في مختلف مناطق العالم العربي والإسلامي وفي الغرب تتلمذت على يد الإمام الشيرازي، وهي اليوم تمتلك حضوراً واسعاً في تلك المناطق.

الثاني: الاهتمام بالتفاصيل المتعلقة بالبعد الاجتماعي في الثقافة الحسينية (ممارسة الشعائر والاحتفاء بطريقة التعبير عن المشهد التاريخي). وفي ذلك يقول أحد المقربين من الإمام الراحل (رض): كان الإمام (رض) يجيز صرف سهم الإمام في كل أمر حسيني بلا تردد, ولقد أبدع في بعض الخطوات حيث جعل من (الإطعام) العام عادة جارية وتقليداً ثابتاً في عاشوراء وأخرجه من مجرد إطعام للمعزين داخل الحسينيات، لكي يصبح عاماً للجميع، فأسس هيئة خدمة أهل البيت (ع) وهم الذين يشرفون على إعداد الطعام في يوم عاشوراء لعشرات الألوف من الناس في كل من قم وطهران وغيرهما من المدن.

لم يكتف الإمام الراحل بالتوجيه والإسهام في التأسيس ودعم المواكب والهيئات الحسينية.. بل لقد كانت مشاركته في أحزان عاشوراء معروفة للجميع؛ فقد كان يخرج في كربلاء يوم عاشوراء بدون رداء إظهاراً للحزن وهو حافي القدمين مع أنه كان المرجع الأول في المدينة.

كان الإمام الراحل رائد مشروع إسلامي – حسيني في كربلاء وفي كافة مناطق العالم الإسلامي، يشجع ويدعم ويشارك في المواكب الحسينية التي كانت تخرج بمئات الآلاف من محبي الإمام الحسين (ع) وهو في مقدمة الصفوف، كأي محب للإمام الحسين (ع). لكن الإمام (رض) لم يكن مشاركاً لتخليد الذكرى وحسب، بل لتجسيد قيم كربلاء وأهداف الثورة ومنطلقات الخروج العظيم من المدينة إلى كربلاء. والإمام (رض) في جميع مساهماته ودعمه ومشاركته السنوية أراد أن يكيف المجتمع الإسلامي مع روح الثورة؛ لأن فهم روح الثورة يعني قبولها والارتقاء لدرجة قيمها ومفاهيمها وعدم التراجع عن المواقف التي اتخذها ضد مظاهر القوة الغاشمة والاستبداد السياسي وإخضاع الأمة لمقاييس الأموية الجاهلية.

كان يبكي في مصاب الحسين (ع) بدموع غزيرة، ولا يضع القلم والتأليف والكتابة إلا يوم عاشوراء وكان يوصي أصحابه بالتزام زيارة عاشوراء والتوسل بالإمام الحسين(ع) في حاجاتهم.

الإمام الراحل كان ينحو في هذا الاتجاه منحى الأسلاف من الفقهاء والمجاهدين الذين كانوا يشاركون الناس حزنهم على الإمام الحسين(ع)، ويخرجون حاسري الرؤوس، حفاة الأقدام، والدموع تبلّل وجوههم. هذا الدأب هو الذي عزز وسيعزز مرجعية الإمام (رض)؛ لأنها في الحقيقة مرجعية استلهامية.

والاستلهامية التي نشير إليها هنا لا تكتفي بالإفادة من دروس الثورة والارتقاء لدرجة تمثيلها العقدي والسياسي وفي تدبير الحياة الإسلامية وفق أسسها ومناهجها ولغتها التغييرية. بل هي في مستوى (اليقين الشخصي) بها والاقتراب من بركاتها ومعطياتها النفسية والربانية، وفي مستوى تربية جيل من الأمة يكون قادراً على تحمل مسؤولياته الشرعية والتاريخية عبر الإفادة من طقسها.

في بداية مجيئه (رض) زار جمع من الإخوة الكويتيين حسينية جزيرة (فيلكة)، وهي الجزيرة التي تبعد عن مدينة الكويت مسافة ساعتين بالزورق، ولدى عودتهم هاج البحر هياجاً عظيماً حتى كانوا قاب قوسين من الغرق أو أدنى، وحين كان الكل في رعب وخوف وهلع وذهول، أخذ الإمام الشيرازي(رض) شيئاً من التربة الحسينية ورماها في البحر فهدأ موجه.. هذه القصة اشتهرت في الكويت وكان الإمام يرويها في خطبه بالمسجد.

الاستلهامية هذه دفعت الإمام (رض) للانفتاح على كل المجالات الإسلامية، عبر روحية تؤكد على قيم الإفادة من الثورة، لكنه ومن موقعه الفقهي والعلمي والتاريخي والعرفاني واليقيني كان يريد أن ترتقي الأمة في وعيها بالثورة وبالإمام الحسين(ع)، بوصفه الحارس الأمين على المستقبل وعلى الحياة، وفي صياغة الشخصية الإسلامية التي تتحرك بهذا اليقين في كافة مجالات الدعوة لهذا الدين. إن التربة الحسينية عامل محرك لليقين بالله تعالى واليقين بالحياة والمستقبل، ولا عجب بعد ذلك أن يكون هذا التعلق الكبير بالتربة الحسينية وهي تستخدم للصلاة؛ فهي ركيزة استشهاد في طقس الثورة، وقاعدة استلهام في عقيدة الفطرة.

إن هذه المرجعية الاستلهامية حافظت طيلة هذا التاريخ المشرق بالعمل في خدمة المشروع الحسيني، على تقاليد الثورة ومكاسب الدم الحسيني الطاهر. ولم تتخلَّ عن أمر الثورة، وقد كلفها ذلك العنت الكبير والاضطهاد والملاحقة والاغتيال وفقد الأحبة. لو لم يكن الإمام الشيرازي(رض) يمثل أفكار وروحية الثورة الحسينية لما اضطر للهجرة من وطنه (وطن الحسين وبيت والده المرجع الكبير وذكريات النشأة والدراسة والطفولة الملونة بالصلاة والذكر والدعاء والأخلاق النبوية العالية).

وفي اعتقادنا أن صفة (الاستلهامية) لازمة انفردت بها مرجعية الشيرازي الكبير (رض)؛ لأن تلك المرجعية لم تدرس الإسلام وتقدّمه للأمة حسب رأيها واكتفت بذلك، بل استطاعت تجسيده، والتجسيد أرقى ملامح الاستلهام. وقد أبى الإمام الراحل إلا أن يدفن في كربلاء، هناك في مدينة جده، ليجسد بهذه الوصية آخر معاني الاستلهام، وهو الدفن إلى جوار سيد الثوار المجاهدين. وقبل دفنه  في مدينة قم، حملت أكف المشيعين جثمان الإمام (رحمه الله) من حسينية منزله وحناجرهم تردد (يا حسين) في مشهد جسّد أرقى معاني استعادة المشهد الحسيني في كربلاء، والدموع تسبح في أنهار القلوب المفجوعة، وقد زين كفن هذا الزعيم الكبير بالأدعية والأذكار، بعد أن خطّ عليه بماء التربة الحسينية المقدسة.

ولقد رآه صهره في المنام ليلة العشرين من صفر (ليلة أربعين الحسين (ع)) من العام الماضي، والإمام قائم على قبر الحسين (ع) والملايين تزحف نحو القبر للزيارة، وهو قائم على صندوق القبر وإحدى يديه على الصندوق كالقيّم عليه، والأخرى تشير للناس بالزيارة والتبرك. ولما نقل هذه الرؤيا للإمام الشيرازي (رض) في صباح الأربعين، قال الأمام: (خير إنشاء الله، لعلّ الباري عز وجل يوفقنا لكي نجعل القضية الحسينية قضية أممية). لقد كان هم تحويل الثورة الحسينية مسألة أممية الهم الأول عند الإمام (رض) الذي عاش لهذه القضية أكثر من خمسين سنة. وبالفعل فقد جسد الراحل الكبير معاني الأممية الحسينية وساهم في نقلها من مركزيتها العربية – الإسلامية إلى عالميتها، عبر مؤلفاته ومراكزه ومؤسساته ومفردات مشروعه الإسلامي المتنوع.

كان قلب الإمام الشيرازي (رض) يلهج بالولاء لمدرسة أهل البيت (ع) وكان يتمنى أن تتاح له الفرصة الزمنية ويتوجه إلى المخالفين لحقيقة ولايتهم فيهديهم ويرويهم من معين هذه المدرسة القرآنية النبوية. كان قلب الإمام وأسلوبه ينتميان إلى مدرسة الحسين (ع) وهذا اليقين التاريخي تؤكده الأرقام والشواهد التاريخية؛ فقد أشرف الإمام (رض) على تأسيس رابطة النشر الإسلامي التي استطاعت توزيع أكثر من مليون نسخة من الكتب الداعية لنهج مدرسة الأئمة (ع) ومذهبهم الحق في شتى أرجاء العالم، كذلك شارك الإمام وأسهم في عدة مجالات خاصة بخدمة أهل البيت والتعريف بثورة الإمام الحسين (ع) وأسس عدة مجلاّت منها (صوت العترة) و(ذكريات المعصومين) وكان يقيم مراسم ولادات الأئمة (ع) ووفياتهم، ولا زال شيعة العراق والمسلمون في شتى أرجاء العالم يتذكرون الاحتفالات التي كان (رض) يقيمها بمناسبة ولادة الإمام علي (ع) في الثالث عشر من شهر رجب المرجب، حيث كان يقام أعظم احتفال جماهيري لم يشهده تاريخ العراق من قبل. ويكفي الإمام وأنصاره والمدافعين عن مدرسته القرآنية المحمدية والحسينية المجاهدة، ما قدموه في سبيل نصرة القضية الإسلامية فهم (الحسينيون) في عاشوراء و(العلويون) في رجب و(المهديون) في شعبان. هذه الثلاثية المقدسة كانت الهم الأساسي الذي حرص الإمام (رض) على تأسيسه وبلورته وتشكيله في حياة الجماعة الإسلامية. وفي هذا الإطار يستحق هذا الفقيه المجاهد أن يكون نصير القضية الحسينية وداعمها والمدافع عنها؛ إذ بجهوده استطاعت أن تأخذ طريقها إلى العالمية، وببركات دعمه ورفده لها بكل ما أوتي من طاقات وإمكانيات وسعة أفق، قدّر لها أن تمتد في شتى أرجاء العالم. ولا غرو أن تستضيف كبريات المكتبات في الولايات المتحدة وأوروبا كتب الإمام الشيرازي عن الإسلام والقضية الحسينية وستبقى هذه الكتب شاهدة على مقدار الجهد الذي بذله هذا الفقيه في التعريف بالإسلام وحركيته ومشروعه الاجتماعي الإصلاحي الكبير.

الملاحظة المهمة التي يمكن ذكرها في هذا المجال أن الإمام (رض) تفرّد في التعاطي مع الحاضرة الكربلائية عن أقرانه وأسلافه من الفقهاء وفي طريقه علاقتهم بها؛ فهو تعامل معها بعالمية الحسينية المجاهدة وانفتح على الفقه والمرجعية والموقف والمطالبة بحقوق المسلمين في العراق وفي عمله السياسي من خلال انفتاح هذه المدينة المقدسة على عنوان السيادة الإسلامية على العالم. كان الإمام (رض) يتصرّف من موقعه في كربلاء كأي مسؤول عن قيادة العالم الإسلامي؛ فلم يكن يتردد في بيان الموقف الإسلامي الحقيقي أمام السلطات السياسية أو المرجعيات الدينية. وهذا الأمر كان من بين الأسباب التي أدت إلى شيوع ظاهرة الحركية السياسية الإسلامية في العراق والعالم الإسلامي، وفي لفت النظر إلى الدور الأساسي الذي تلعبه كربلاء كحاضرة إسلامية في استقطاب الناس ودفعهم للمطالبة بالحقوق.

هذا الاستثمار السياسي والاجتماعي أسس للإمام (رض) حيزاً مهماً في تاريخ المرجعية الدينية. والعراقيون يتذكرون هذه المرجعية وملامحها ويعلمون أن من بين أهم ميزات مرجعية الإمام الشيرازي (حسينيتها) وحرصها على أداء الشعائر الحسينية وتربية الأمة على ثقافتها، وإنتاج مجتمع حسيني يؤدي الدور المحمدي في التاريخ الإسلامي.

وفي الوقت الذي كانت الرسائل العملية لكثير من المراجع والفقهاء في العراق قليلة الوصول إلى الناس، خصوصاً الفقراء والمحرومين في المناطق البعيدة والنائية، كان الإمام الشيرازي (رض) يصل برسائله العملية ووكلائه وتلامذته إلى كافة المناطق، لتحريك مكامن النهضة الحسينية في مشاعر الناس. ويمكن القول هنا أن مرجعية الإمام الشيرازي اشتغلت على القضية الحسينية وثورة كربلاء بنوعية مميزة والتقطت هذه الإشارة واستطاعت العمل عليها من بين المرجعيات الدينية الكثيرة في العراق. هذا الأمر أسس موقعاً لمرجعية عاونتها حركيته الشابة وحرصه على استعادة العراق لدوره الاستثنائي في الحياة الإسلامية.

الإمام الحسين (ع) كان دائماً وأبداً حاضراً في هموم الإمام وكتاباته ونهج ممارسته، ومرجعيته الدينية، حاضراً في إصلاحاته وتقاليده الفكرية وتطويره لبرنامج النهضة، وظل إلى لحظات وفاته هاجساً حيوياً دفع الإمام (رض) إلى محاولة استكمال مشهد مشروع النهضة عبر استكمال مشهد العمل بمشروع الإمام الحسين (ع). فهذا المشروع آن له من وجهة نظر الإمام أن يستكمل بناءاته وتقاليده في نفوس المحبين وأهل الولاء الذائبين في المدرسة النبوية -الحسينية. ونعتقد من موقع الخبرة والبحث والقراءة الموضوعية لتاريخ عمل الإمام(رض) في استكمال المشهد المذكور، أن الإمام، عبر رسالته والتقاليد الحيوية التي أرساها والجهود التي قدمها والمؤسسات التي أنشأها، استطاع استكمال مشهد التخليد والاستمرار. وتلك من أهم المنجزات الحقيقية التي اشتغل الإمام على تحقيقها خلال خمسين سنة.

لقد كان الإمام الحسين في قلب الإمام الشيرازي طيلة خمسة وسبعين سنة من الآن، وقد حان الوقت لكي يرقد الإمام الشيرازي وإلى الأبد في قلب الإمام الحسين (ع).. رحم الله الإمام الراحل.