الراحل الكبير ومرارة التجربة

غالب الشابندر

الحديث عن الفقيد الكبير يمتد إلى أفاق بعيدة متشعبة وعميقة، لان هذه الشخصية خاضت غمار تجارب قاسية في كل مجالات الحياة، بفعل انتمائه الوطني للعراق، الذي ما انفك يلح عليه باعتزاز منقطع النظير، بل كان العراق أمله البعيد، ليس لأنه ولد في النجف الأشرف، بل لأنه غرس هناك شجرة الخير، ولأنه من هناك تذوق طعم الوجود الحي، ولذا لا نستغرب إذا بقي هذا الرجل المثالي وفياً لأبناء الرافدين في محنتهم حتى توفاه الله تعالى، فيما باع آخرون العراق وأهله وأبناءه قبال إغراءات تافهة، لقد كان العراق بالنسبة له مسؤولية وطنية وأخلاقية ودينية، فلم يتخل عن هذه المسؤولية وهو طريح الفراش أو نزيل الحجز، وتلك شهامة دينية رائعة تشهد له بالأصالة و النظافة، خاصة إذا قمنا بعملية مقايسة بسيطة بمواقف أولئك الذي يدعون الانتماء إلى هذا الوطن، فيما تحولوا إلى جلادين وسفكة دماء لقاء عروض تافهة، لا تتعدى كرسيأ مهزوزا أو حفنة مال.

تتأكد مرارة الحياة في تاريخ الفقيد الكبير إذا عرفنا إنه كان سباقاً لاكتشاف الوقائع قبل زمنها، فتحولت هذه الموهبة بلاء وشقاء، لأن الناس لا ترتاح لإعلان الحقيقة قبل حلول أوانها، فيما هي ضرورة ملحة لاستيعاب التاريخ ومواصلة الطريق بنجاح، وقد كان الفقيد لا يخاف كلام الأخرين، ولا يبالي بالتشهير والسجن والمطاردة والتضييق، يقول ما يراه بقوة وشجاعة وأيمان، وهدفه بعد رضا الله الحقيقة قبل كل شيء، ومن هنا قال بالحرية المطلقة مهما كان الثمن، وعلى ذلك رتب فكرة شورى الفقهاء، التي لمسنا اليوم الحاجة إليها بكل جوارحنا وقلوبنا، وقد كلفه هذا الموقف الحرمان من حق الحياة بالمعنى الطبيعي، ولم يساوم أو يتساهل بل ما زال يصر ويؤكد: لا للمرجعية الواحدة ! فأي عزيمة كانت تعتمل في وجدانه وأي ثقة كانت تركن في فكره؟ وقد كان بإمكانه أن يشتري الحرية الزائفة بتنازل شكلي، كما فعل الكثيرون، ولكن قوة الفكر وقداسته كانتا فوق كل إعتبار وفوق كل حساب.

وتتأكد مرارة الحياة في تاريخ الفقيد الكبير إذا علمنا إنه كان من أبرز مناهضي منطق العنف، حتى على صعيد النضال ضد الاستعمار وعلى صعيد قيام الحكم الإسلامي وعلى صعيد ممارسة الإسلام كنظام حكم، وعلى صعيد التعامل مع الأعداء، هذا الاتجاه اختطه الفقيد ليس من منطلق الضعف أو التهاون أو المزاج، بل هو فكر نابع من سيرة الرسول الأكرم والأئمة الطاهرين الذين ذاب في حبهم، كان فكراُ وتجربة، والمعروف عن الفقيد إنه كان حريصاً على الاستفادة من التجربة إلى أبعد الحدود، وتلك من مميزاته الشخصية الفذة.

كان الفقيد حريصا على منطق الدعوة بالحسنى، يؤمن بالكفاح المدني، وهذه هي وصيته للفصائل الفلسطينية كما ينقل عنه، وقد أختلف مع كثير من منظري العمل الإسلامي في هذه القضية، بل كان ذلك من أسباب عزله ومحاربته ومضايقته، وها هي التجارب تؤكد صواب الاتجاه الذي اختطه الفقيد الكبير، فلم تجني التجربة الإسلامية من العنف إلا الانحسار والشك.

الفقيد كان علماً أخلاقياً، حقيقة يشهد بها الكبير والصغير، العدو والصديق، شهادة تغني عن كل الكتب وعن كل الادعاءات، يعفو عمن يسيء له، ويغض النظر عمن يسبه ويشتمه ويشنع عليه، ولم يعجزه عن الرد القاطع الحاسم لسان ولا قلم ولا أعوان، ولكنها السجية الأخلاقية تغلغلت في أعماق روحه، ورثها تربية، واستوحاها فكراً وخبرها تجربة، وهو ا لذي كتب منذ نعومة أظفاره الفضيلة الإسلامية في ثلاث أجزاء، وكان كتاب فضيلة في مضمونه الجميل وكتاب فضيلة بأسلوبه الفطري الهادئ.

كان الفقيد آية في الأخلاق، ولا أستبعد أن تكون نظرياته في الفقه والسياسة والعمل السياسي والاجتماع والتاريخ متأثرة بسلوكه الأخلاقي الجميل، وقد أثبتت الدراسات الحديثة إن الفكر لا ينفصل أبداً عن مجمل السلوك الأخلاقي للشخص.

لقد قال الفقيد (لا) للظلم باسم الدين.. و(لا) للديكتاتورية باسم الإسلام.. و(لا) للفردية باسم الفقه.. و(لا) لاحتكار الحقيقة باسم الفكر.. و(لا) للحزب الواحد باسم العمل للإسلام..

قال : لا!.

بقي مستمرأ على لاءاته حتى النفس الأخير، وهذا دليل إخلاص وإيمان.

هذا الفقيد الكبير نظّر للعمل الحزبي منذ نعومة الأظفار، ولكنه كان ضد الديكتاتورية الحزبية، وهذه هي الموضوعية الرائعة!.

هذا الفقيد نظّر للدولة الإسلامية منذ أن كان شاباً، ولكنه كان ضد كل محاولة تعسفية لفرض هذه الدولة، وتلك آية على عمق الفكر ودقة التشخيص في مسيرة العمل الإسلامي.

هذا الفقيد نظّر لحركة المرجعية كقيادة سياسية واجتماعية، ولكنه رفض رفضاً قاطعاً كل محاولة لاحتكار المرجعية باسم الأعلمية وباسم الأسرة العريقة، وتلك علامة الرؤية البعيدة النظر.

كان الفقيد يؤمن بالأمل، كان كله أملاً، يحدوه في ذلك إيمانه، ولأنه طبع على إرادة شجاعة، ولم يكن يؤمن بأي علاقة موضوعية بين الإرادة والتكوين الجسمي، ولذا كان يذكر بقدرة الشيرازي الكبير على تفجير الثورة العراقية الكبرى رغم ضآلة جسمه، كذلك غاندي وغيره من القيادات التاريخية.

هذه الإرادة لم يفلها سجن أولاده ولا تشريد عائلته ولا حجزه واعتقال تلامذته ولا تطيير الإشاعات ضده.