محطات وآفاق

لمحات من التاريخ السياسي للإمام الشيرازي

المرجعية المتصدية والممارسة السياسية

عباس الشمري

تميز آية الله العظمى السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي (قده) عن غيره من العلماء والفقهاء بنظرته الثاقبة إلى الأمور والمسائل التي تعاني منها الأمة الإسلامية من جهة ومن جهة أخرى إلى أساسيات الإسلام وتعاليمه الحنيفة القائمة على أساس (من ثنائية الله والإنسان باعتبارها محور للتشريع الإسلامي بالنسبة لحقوق الخالق وواجبات المخلوق إزاءه)، وباعتبار أن الإنسان هو الهدف من خلق الحياة وجميع المخلوقات مسخرة له بأمر ربه، أو البعدين المعنوي والمادي في الحياة الإنسانية ذاتها وما لها من استحقاقات تترتب على الإنسان في جميع مناحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.. وغيرها.

فلا ينظر المرجع الراحل إلى أية ناحية من هذه المناحي بصورة متجزئة أو مستقلة عن سائر المفردات الأخرى فهو عندما ينظر إلى الجانب السياسي يتناوله بمعناه الأشمل ولا يحصره بعلاقة الفرد بالدولة مثلاً أو بالعلاقات الخارجية للدولة أو سائر مثل هذه الموضوعات التي يتناولها علماء السياسة..

كما أنه ينطلق من نقطة جوهرية تبدو غائبة عن كثير من التعاريف التي يتداولها المهتمون بالشؤون السياسية وهي أصالة الحرية عند الإنسان، أما كل ما يقيد هذه الحرية التي منحها الله الإنسان بكونه أرقى موجود خلقه الله وخلق الأشياء لأجله فقد حاربها المرجع الراحل بكل ما أوتي من قوة وبذل في سبيل ذلك اهتمامه الأكبر وتحمل أثر ذلك الكثير من المضايقات واضطر إلى الهجرة أكثر من مرة مع أن كثرة الهجرة أمر غير مألوف في حياة المراجع على الأغلب المتعارف.

في كتابه (الفقه السياسة) يقول(قده): (ليس للحاكم حق الديكتاتورية اطلاقاً، وكل حاكم يستبد يعزل عن منصبه في نظر الإسلام تلقائياً، لأن من شرط الحاكم العدالة) (1/ 34)، فمثل هذه الآراء لم يكن بوسع الحكام وخاصة في العالم الثالث أن يتحملوها فكان طبيعياً أن يضيقوا على مرجعنا الراحل وعلى أفكاره التنويرية النابعة من القرآن والسنة المطهرة لأهل البيت الطاهرين(ع) وهي أصول الإسلام الحقة.

وغني عن القول أن الفكر السياسي للإمام الشيرازي بانبثاقه من الإسلام، ووعيه بالواقع واحتياجاته، واهتمامه إلى أقصى حد بمصلحة البشرية عامة فضلاً عن الإسلام والمسلمين، لا يمكن أن ينتج عنه في حالة تطبيقه إلا عمل سياسي يمتاز بالنضوج التام والوعي والنجاح في تحقيق أحلام البشرية.

كان المرجع الراحل في بدايته يبدأ مشوار جهاده السياسي ويستند إلى مخزون وتراكم ضخم من المواقف الجهادية التي مارستها أسرة آل الشيرازي التي حددت الاتجاه المناهض لسياسة المستعمرين وألاعيبهم في نفسية ذلك العالم الشاب المجاهد الذي يرث تراثاً ضخماً من المواقف السياسية لهذه العائلة، وما عانته طيلة قرن ونصف من الملاحقة والاضطهاد والقتل والاغتيال عاصر المرجع الراحل أكثر من نصفها وعاش معاناتها بصبر وتحمل واحتساب كبيرين.

بدأ الشيرازي ذلك المشوار بهمة عالية وعزم لا يلين وبلا يأس حتى من الحكام أنفسهم رغم إيمانه بأنهم ليسوا سوى دلالات نصبهم الاستعمار للتحكم برقاب الشعوب فكان يسدي لهم النصيحة ويحاول إقناعهم في فترة متقدمة من جهاده السياسي داخل العراق إقناعهم بتطبيق تعاليم الإسلام في نظام الحكم عبر بسط الحريات العامة للأمة، تلك المفردة التي سيركز عليها كثيراً ويحث المجتمع على المطالبة بها في كتبه ودراساته ومحاضراته في سنوات عمره القادمة.

ولا يخفى على المتتبع لمسيرة الإمام الراحل الجهادية في الحياة السياسية وخاصة في العراق الذي لمس منه رحمة الله عليه تفاعلاً كبيراً مع قضاياه الأساسية المتمثلة بالاستقلال السياسي عن الأجنبي في مراحله الأولى وكذلك في بناء الدولة العصرية القائمة على أسس من الحرية والتعددية السياسية والارتقاء الثقافي والفكري لاحقاً، وعلى ذلك يصبح من الصعب التمييز أو تقسيم مراحل حياة الإمام السياسية، فبين من يرى وجوب تقسيمها إلى مرحلتين؛ الأولى وجوده داخل العراق، وما تميز به نشاطه السياسي من اهتمام بقضايا الشعب المصيرية وتدخله المباشر في القضايا السياسية منذ بداية تصديه للمرجعية المبكرة حسب عرف القاعدة عند الحوزات العلمية وطريقة العلماء حيث لم يتجاوز عمره 33 عاماً عندما طبع رسالته العملية وصار الناس يرجعون إليه في التقليد، إلى أن غادر العراق تحت تأثير المضايقات التي مورست صده من قبل نظام الحكم، وأما المرحلة الثانية فهي فترة بقاءه بالمهجر في لبنان والكويت وإيران حيث توزعت اهتماماته السياسية وشغلت اهتماماته الفقهية حيزاً أكبر في حياته العامة.

إلا أن هذا النوع من التقسيم فيه الكثير من عدم الدقة في تقويم الحياة السياسية للمرجع الراحل خاصة إذا رأينا أن كتابية السبيل إلى إنهاض المسلمين، والصياغة الجديدة قد أصدرها في المهجر مما يدل على وجوب النظر إلى حياة المرجع الراحل السياسية كوحدة واحدة لا تتجزأ وانطلاقتها من المبادئ واتسامها بالإصرار العنيد على تحرير الأمة من رقبة العبودية الذليلة عبر تطبيق الإسلام وتعاليمه في شتى مرافق الحياة العامة، وهذا المهم الذي يبدو للوهلة الأولى بأنه قد يبتعد عن الخصوصية الإقليمية (أي العراقية)، إلا أن مرجعنا الراحل ما فتئ يؤكد على خصوصيته العراقية وانتمائه لهذا الوطن وعشقه إلى المقدسات فيه واهتمامه بقضايا العراق إلى حدٍّ فاق التصور، وبالتالي ليس غريباً أن يكون هو المرجع الوحيد الذي انبرى للدفاع عن مظلومية الشعب العراقي، والتذكير بهذه المظلومية في أية مناسبة، وكما في حادث غرق السفينة على السواحل الإندونيسية في رحلة الموت الأخيرة التي تسبب في غرق أكثر من 400 عراقي غادر من إيران بعد أن ضاقت بهم الإجراءات غير الإنسانية هناك.

أما لماذا آلت الأمور إلى تلك النهاية التعيسة؟‍.

خطوط العمل العام

لقد ورث مرجعنا الراحل كما قلنا ذلك التراكم المأساوي، فكان (رضوان الله عليه) يتطلع إلى إصلاح الأوضاع السياسية القائمة من جهة، ومن جهة أخرى تصحيح مسار المؤسسة المرجعية التي كانت تعاني بدورها من مشاكل عسيرة على الحل، ذلك لأنها كانت في تلك الظروف تعاني من حملات التشويه والإساءة إلى سمعتها عبر سياسة التعسف والاتهام التي مارسها الاستعمار من خلال الشخصيات والأحزاب التي تمسحت بمسوح وطنية أو قومية أو علمانية، وبث الإشاعات المغرضة التي تسعى إلى عزل المؤسسة الدينية وعلى رأسها المرجعية الدينية عن جماهير الأمة، والتشكيك بنيات القائمين عليها هذا من الخارج ومن الداخل، كانت تعاني من تشتت في الرؤية وعدم التماسك المنهجي العام، خاصة بعد أن ركزت الثقافة الغربية المستوردة والتي كانت تنشط في أوساط الأمة ومؤسساتها على فكرة فصل الدين عن السياسة، فاستشرى هذا الوباء الثقافي حتى وصل إلى بعض أهل العلم أيضاًً فأصبح البعض يؤمن بالفقيه الذي لا يتدخل في المسائل السياسية والآخر الذي لا يراها من صلب مهامه.

هذه الحالة المرضية التي لازالت، شرخت نشاطات المرجعية والمؤسسة الدينية وشرخت المجتمع الديني إلى قسمين يبتعدان عن بعضهما في الأفكار ولتصورات وقد يصل الحال في بعض الأحيان إلى التصادم.

فعلى الصعيد الأول تميز (رضوان الله تعالى عليه) بالارتفاع بهموم الأمة من حالة المطلبية التي كان يمارسها البعض في العالم الشيعي والاكتفاء بمطالب هي بلا شك أدنى من مطاليب الأمة أو أنها لا تشكل بالنسبة إلى المواطن العادي أي اهتمام أو حاجة كما ذكر بعض نماذجها هاني الفكيكي في كتابه عن العمل الإسلامي والتي ما كانت تنحصر في جمع أو جماعة، بل قد تكاد تكون مستشرية عند ذوي الرأي والقرار آنذاك.

وعلى الطرف الآخر كان المرجع الراحل ورغم صغر سنه في حسابات المرجعيات الدينية آنذاك ينتهج سياسة المطالب ضمن منهجية اهتمامه بالقضايا العامة التي يراها من صلب المسؤوليات الملقاة على عاتق فقهاء الأمة باعتبارهم يحملون النيابة العامة للإمام الحجة الغائب(عج)، فكان يمارس سياسة المطالبة بصورة واسعة ومركزة ويحرج المسؤولين المتصدين في أكثر لقاءاته بهم، فعند لقاءه المطول مع محسن الرفيعي مدير المخابرات العامة أيام عبد الكريم قاسم وكان الرجل الثاني في انقلاب تموز 1958 وبعد نقاش طويل تطرق سماحته فيه إلى كافة الأمور التي تهم المواطن العراقي من الحريات العامة إلى تطبيق الأحكام الإسلامية والهدف من بعثة الأنبياء والرسل في وضع الأغلال والقيود عن البشرية جمعاء وكذلك إمكانية تطبيقها على ارض الواقع فيما لو وجدت الإرادة الحرة لدى المسؤولين في ذلك جاء في فقرة من ذلك اللقاء.

(فالمطلوب منكم (والكلام للمرجع الراحل) إقناع احمد صالح العبدي (كان يشغل منصب القائد العام ورئيس أركان الجيش بين فترة 58-63هـ) وعبد الكريم قاسم وبقية الوزراء بضرورة الامتثال لأوامر القرآن الكريم، ثم أضاف قائلاً: إن تطبيق الإسلام سينقذ الأمة من المخاطر والمهالك ويرسو بها في ساحل النجاة، وإنكم تستطيعون إنقاذ الشعب العراقي من المخاطر، وإن أي تقدم في هذا المضمار سيمهد الطريق أمام الآخرين من دول و جماعات لأن يسلكوا الطريق نفسه، ليس فقط الدول الإسلامية بل حتى الدول الغربية، لأنهم يعانون من مشاكل شبيهة لمشاكلنا ويبحثون عن الحلول)(1).

وكان المرجع آية الله العظمى السيد الحكيم (قده) يدرك ما في شخصية مرجعنا الراحل من أبعاد نهضوية تحررية وهموم عليا تتجاوز الهم الإقليمي إلى مشاكل العالم الإسلامي، بل والعالم الغربي أيضاً ويتفهم طبيعة المشاكل التي يعانون منها، لذلك قال في تأبين والده المرجع آية الله العظمى السيد مهدي الشيرازي(قده): (بأننا إن فقدنا مهدياً واحداً فقد خلف لنا أربعة مهديون)، استمرّت سياسة الراحل الكبير المطالبية هذه ولكنه لم يغفل عن مشروع النهضة التغيري فباشر بعد تسنمه لهذه المرجعية بتأسيس المؤسسات الدينية الثقافية والنشاطات التوعوية عبر إصدار المجلات وتأسيس إذاعة محلية في مدينة كربلاء المقدسة كخطوة لتوسيعها عدا كل العراق، ثم عموم المناطق المجاورة وهكذا.. وذلك لإيمانه:

1- بأن هؤلاء الحكام في الجمهوريات الانتدابية ما هم إلا أدوات ودمى يحركها الاستعمار.

2- إن المشروع النهضوي الحضاري بحاجة إلى عملية تغيير واسعة تمارسها المؤسسة المرجعية والتركيز على تعميق الثقافة الإسلامية (ونحن لا نستطيع تحرير العراق فلسطين، لبنان، أفغانستان، مصر، وكل الدول الإسلامية المستعمرة، إلا بتبديل ثقافة هؤلاء الرازحين تحت نير الظلم والاستبداد إلى ثقافة إسلامية أصيلة يتمسكون بها بقوة وصلابة في كل الظروف وتحت أية ضغوط) (2) .

التنظيم

ولما كانت التنظيمات السياسية ذات الاتجاهات المختلفة تنمو في المجتمع العراقي كالفطريات بتشجيع من الدوائر الاستعمارية، وضمن معطيات طريقة التفكير التي يتمتع بها المرجع الديني الراحل والأخطار المحدقة بالشباب المؤمن من انحرافات فكرية وعقائدية وسلوكية، كان من البديهي أن يشعر بأهمية التنظيم السياسي الإسلامي، ولكنه كان يرى ضرورة انتماء هذا التنظيم إلى المرجعية الواعية، فانبعثت أولى بوادر تنظيم حركة الفقهاء المراجع، ولم يكن إصرار الراحل على ارتباط هذا التنظيم بالمرجعية نابعاً من الفراغ أو رغبة شخصية محضة بل كانت قائمة على أسس وثوابت دينية تنطلق من قاعدة ولاية الفقهاء المراجع على العمل الإسلامي وتشكيل الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة الكبرى، وإن أية عملية تغيير به سوف تفقد شرعيتها إن لم تنطلق من المرجعية الدينية، ولعلّ هذا النمط من التفكير والممارسة كان السبب وراء معاداة بعض الأحزاب التي ظهرت في الساحة العراقية لمرجعية السيد الراحل، ليس هذا مجال استعراضها، والتي كانت تصب في خانة العداء الماكر التي أبدته السياسة البريطانية الموتورة من الأسرة الشيرازية، إزائها من قتل وتشريد واعتقال كان السيد الراحل قد تناول قسماً منها في كراس بهذا المضمون تحت عنوان (مطاردة قرن ونصف) فيقول(قده):

(لقد دفعت عائلتنا ومنذ قرن من الزمن ضريبة انتسابها للمجدد الشيرازي الكبير جد أبي، وانتسابها للميرزا الشيرازي الثاني قائد ثورة العشرين خال أبي، وضريبة ما ننشره من الكتب التوعوية والمؤسسات الخدماتية) (3)، اتخذ هذا التنظيم مبدأ السرية في النشاط السياسي والتثقيفي والتنظيمي لما لا يخفى على أحد من الظروف الأمنية الصعبة التي تزامنت مع انطلاقته الأولى في أواسط الستينات واستطاع هذا التنظيم في بداية انطلاقته أن ينظم طليعة رسالية من رجال الدين والشباب المؤمن المتدين الرسالي الذي حمل على عاتقه مهمة التغيير السياسي في المجتمع العراقي، وقدم في هذا الطريق قوافل من الشهداء الأبرار بينما كان هذا الراحل الكبير يدعم هذا التنظيم بالثقافة والأفكار الرسالية والتنظيرية طيلة فترة مكوثه في العراق وحتى بعدما غادر العراق مضطراً فصدر عليه حكم الإعدام الغيابي.

لقد كان إيمان السيد الراحل بضرورة التنظيم انطلاقاً من وصية الإمام علي (ع): (أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم)، ولأن التنظيم السياسي وتشكيل الأحزاب السياسية يعتبر نوعاً من الأخذ بموارد القوة والإعداد لها طبقاً للآية الكريمة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وثالثاً لأنه السلاح يستعمله الأعداء للقضاء على تطلعات الأمة وسحق أهدافها العليا، لذلك يعتبر المرجع الراحل التنظيم السياسي من الواجبات الدينية التي يجب أن تمارسها الأمة للوصول إلى أهدافها أو على الأقل للحفاظ على كيانها من التشتت والتبعثر، يقول سماحته في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين) ص53: (لقد قلت لبعض مسلمي لبنان -قبل عشر سنوات أو أكثر- إنكم ستواجهون مصيراً سيئاً إن لم تنظموا أنفسكم.

قالوا: ومن أين تقول هذا؟!.

قلت: من منطلق التاريخ، ومنطق الأحداث.

قالوا: وكيف؟!.

قلت: إنكم محاطون بتنظيم معاد في داخل لبنان، وبتنظيم صهيوني في إسرائيل، فأنتم بين تنظيمين معاديين، ومع ذلك فإنكم مبعثرون، ومن الطبيعي أن ينتصر من له تنظيم على من لا تنظيم له، ولا يكفي أن يقول أحد: إنني مع الحق ولا يعمل شيئاً، لأن الحق يأمرك بالتنظيم، يأمرك بأن تعلو ولا يعلى عليك، يأمرك أن تأخذ بالأسباب الطبيعية لا أن تجلس وتكسل وتقول: إنني على صراط الله، والآخرون على صراط الشيطان..! ).

ولما كان المرجع الراحل (رضوان الله تعالى عليه) يرى أن التنظيم إن لم يكن مستنداً إلى الثقافة الدينية العميقة والتربية الإسلامية ولم يرتبط بالمرجعية فسيتحول إلى عصابة شأنه في ذلك شأن سائر التنظيمات لأخرى التي تكتفي بالولاء للحزب فقط ولا تهتم بالارتفاع بالمستوى الثقافي والتوعوي والرسالي، لذلك أكد على ضرورة التثقيف الإسلامي للمجتمع بصورة عامة وللتنظيم بصورة خاصة فيقول: (إن الغربيين والشرقيين عرفوا سر هذه الثورات يكمن في الثقافة التي يحملها هؤلاء المسلمين، ولذا حاولوا تغيير هذه الثقافة، وبالفعل استطاعوا تبديلها إلى ثقافة استعمارية أو مخلوطة على احسن الفروض، ولذا تسنى لهم استعمار البلاد الإسلامية سنين طويلة، وحتى الآن) (4).

وعليه فإن الراحل الكبير كان يرى في التنظيم السياسي الإسلامي أو ما يصطلح عليه العمل الحركي الإسلامي، يجب أن يكون في طول الترتيب الحركي المرجعي وليس عرضياً موازياً له لأن إشكالية البديل الحركي السياسي للمرجع أو ما يصطلح عليه (الولاية على الفقيه) إنما وردت إلى الفكر الحركي الشيعي من النظرية السياسية عند أهل السنة لاعتبارات عديدة، منها أنهم يفتقرون إلى المرجعية الدينية بالمعنى الذي تقول به الشيعة، أي نيابة الإمام المعصوم(ع)، وثانياً إغلاقهم لباب الاجتهاد على الفقهاء الأربعة فلا يشعرون بالحاجة إلى الفقيه المعاصر بل ويمكنهم أن يرجعوا إليهم دون الإحساس بالدور القيادي الذي يجب أن يقوم به الفقيه المرجع لدى الشيعة، لذلك كان دور الحركات الإسلامية الشيعية التي قامت لتشكل بديلاً عن القيادة المرجعية وقعت في خطأ كبير ولم تستطع أن توفر ذلك البديل القيادي، فكان دورها يتضاءل يوماً بعد يوم، وأثبتت فشلاً ذريعاً في خلق الحالة القيادية للأمة وذلك لما تميز به العمل الإسلامي الشيعي بالضرب على وتر الشرعية انطلاقاً من وجوب ارتباطه بالمرجعية، تلك المرجعية التي كانت قد تجذرت في وعي الأمة باعتبارها القيادة النائبة عن الإمام المعصوم(ع)؛ وما تحمله الأمة من مفاهيم حول وجوب التقليد وفقاً لمحورين رئيسيين:

1- بما أخذ الله على العلماء أن يظهروا علمهم عند التباس الفتن وظهور البدع.

2- بما نقل للأمة من وصية الإمام الثاني عشر(عج) حول الرجوع إلى الفقهاء الجامعين للشرائط مضافاً إلى السيرة العقلائية القائمة من ضرورة رجوع الجاهلين إلى العالمين في مختلف الشؤون.

ولكن الظروف السياسية التي مرّت بالعراق أفرزت نسقين من العمل عند المراجع (أعلى الله شأنهم). وبعضه كان يحمل هموم تثبيت الحوزات وترويج العلم وتربية العلماء. ولذلك أهملت بعض المرجعيات العمل على محورين مهمين في العمل السياسي أو الاجتماعي، واللذان يعتبران من صميم مسؤوليات مراجع التقليد الدينية؛ الأول تعبئة الجماهير ثقافياً وسياسياً التي كانت آنذاك تتحرك بإشارة بسيطة من مراجع التقليد وبصورة فطرية وإيمانية، وثانياً العمل على استلام السلطة في العراق، الأخصائيين من قبل ثلة من الصالحين وتهيئة الظروف والمقدمات اللازمة لذلك مثل تربية النخبة المتخصصة في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والتربوية وغيرهما.. مما ستحتاج إليها الدولة الإسلامية حال تسلمها للسلطة، ويرجع ذلك إلى تفشي مقولة فصل الدين عن السياسة التي روّجت لها الدوائر الاستعمارية وبالأخص البريطانية بشكل أثرت حتى على أهل العلم ولا زالت الأمة تعاني من هذه المعادلة البغيضة والتي غرزت منطقة اللاوعي عند الإنسان المؤمن العادي بأن رجل الدين الذي لا يتدخل في الأبعاد السياسية يصبح أكثر قدسية من غيره.

كل هذه الملابسات المتناقضة أدت إلى ظهور فكرة ضرورة خلق وإيجاد البديل السياسي الديني للحالة المرجعية عند الشباب المؤمن، ذلك البديل الذي لا زال لم يجد المسوغ الكافي في ثقافة الأمة من الشيعة خاصة الذين كانوا يلتزمون حتى في منطقة اللاوعي عندهم بمواقف المراجع وفتاواهم، لذلك لم تستطع هذه الأحزاب والحركات أن تتسع في أوساط الجماهير متأثرة بفتاوى العلماء، ولم تأخذ دوراً كبيراً مؤثراً، اللهم إلا في رفع الجوع بصورة مؤقتة عند الشباب، فهي في تلك الفترة أشبه ما تكون بـ(وجبات سريعة) (سندويشات) مسكنة للجوع ريثما تصل الوجبة الأساسية التي تتمثل بالمرجعية.

لقد حاول الإمام المرجع المظلوم أن ينهض بالأمة من هذه الثقافات المستوردة وينقذها من الجهل المركب الذي سيطر عليها بالنسبة إلى الشعور السائد في أوساط الجماهير إزاء الحركات الإسلامية السياسية فباشر بنفسه إلى تأسيس وتشكيل بل ودعم كل من يؤسّس وحث الآخرين على ذلك وجاءت نظريته الفقهية الاستدلالية هكذا: (والعقل حيث إنه دلّ على وجوب التنظيم أمر البشر عامة، والأمة الإسلامية خاصة، وقبّح ترك الناس فوضى لا نظام لهم، أو لهم نظام غير صحيح، وإذ ثبت قبح الترك بلا راع، ووجوب تشكيل الحكومة الرشيدة عقلاً، ثبت ذلك شرعاً للتلازم في القاعدة المعروفة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) ) (5).

إذن فليس التنظيم مندوب عند المرجع الراحل، بل إنه من الواجبات التي ينبغي القيام بها، وليس التنظيم واجب لذاته فحسب، بل إنه مقدمة عقلية لتشكيل الحكومة الرشيدة عقلاً.

هذا التحول الكبير الذي أوجده (رضوان الله تعالى) في طريقة التفكير عن فقهاء الأمة سيترك تأثيره لا محالة في أوساط الجماهير الإسلامية وخاصة في العراق ليقضي وبصورة دائمة على مقولة فصل الدين عن السياسة، أو أن غير السياسيين من رجال الدين أكثر قدسية من غيرهم، بل إنه في آخر اتصال هاتفي أجرته حركة الوفاق الإسلامي في العراق معه قبل وفاته بيومين قال: (إن ما تقومون به من جهاد ضد صدام هو من أعظم الواجبات الدينية).

هكذا كان نضال المرجع المظلوم السياسي على الصعيد العملي في مقارعة حكام الجور أو إصلاحهم، وفي سياسته التغييرية للوضع السياسي وتشكيل الأنظمة السياسة القائمة على أساس من التعددية الحزبية، وفي جهاده الفكري المرير لتغيير الثقافة الاستعمارية من أذهان رجال الدين والشباب والمثقفين وتطوير الحوزة العلمية فكرياً ورسالياًً وعملياً.

فسلام عليك أيها المظلوم يوم ولدت ويوم هاجرت الهجرتين ويوم طوردت وحوربت ويوم رحلت إلى ربك راضياً مرضياً ويوم تبعث حياً.

الهوامش:

(1) تلك الأيام: 179.

(2) السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص28-29.

(3) مطاردة قرن ونصف: ص26.

(4) السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص29.

(5) فقه السياسة: 1/ 7-8.