مبدأ اللاعنف في فكر الإمام الشيرازي

د. سعد الإمارة

المقدمة:

تنمو الأفكار عند الإنسان من نطاقها الضيق لتتسع إلى الدائرة الأكبر مع النضج والتطور الفكري؛ فمعظم الآراء والأفكار والاتجاهات بعد نموها تزدهر على المستوى العقلي لتشمل الاتجاه الكلي في الرؤية للواقع والحياة عموماً والمستقبل، والاتجاه الكلي بمعناه الكامل هو اتجاه فكري ينظر إلى الإنسان ككل، يجتمع فيه الجسم والعقل والروح في وحدة متكاملة، ولا يتصور العزل بينهم، وإن ديناميكية الحياة لا يمكن أن تكون نتيجة لأجزاء متفرقة.

هكذا كانت حياة الإمام الشيرازي (قده) توليف متكامل من الأفكار والآراء والاتجاهات والنظريات في شقيها القبلي والبعدي، فهو صنع الفكرة وطور المفهوم، وابتدع الكلمة؛ لتنضج في سياق متكامل عبر مسيرة حقب تاريخية متتالية، لم تنفصل عن بعضها في إطار النمو، بل تتابعت عبر خمسة وسبعين عاماً من عمره الشريف، وزاد على الستين عاماً من التكوين الفكري الخلاق، فهو قد تخصص في العلم العام، وكتب في الموضوعات الهامة الخصوصية بموسوعية ندر مثيلها، فكّون اتجاهات جديدة للأشياء وللأشخاص وللجماعة فضلاً عن ما طرحه من أفكار أو مبادئ أو نظم اجتماعية، فدرس المؤثرات الاجتماعية في السلوك والمعتقد للمذهب الشيعي خصوصاً، وللمسلمين على امتداد الأرض عموماً، وللإنسانية في مسعاها نحو الخير.. فهو (قده) تخصص في ملاحظة:

1- المؤثرات الفردية والاجتماعية والنفسية والعقائدية والتربوية التي تمثلت في دراسة مبدأ اللاعنف.

2- مميزات وخصائص التكوين الإنساني الفردي والجماعي الدقيقين من خلال أبعاد الرؤية.

3- المعلومات.. واتساعها وامتدادها، حتى عدت انسكلوبيديا قل مثيلها.

كتب وطرح الأفكار وناقش المفاهيم والمصطلحات والأساليب والآليات التي تتفاعل مع الإنسان بدقة المتخصص؛ فكان تناوله في دراسة اللاعنف عبر مجرى الحياة من خلال:

- العنصر المركزي.

- العنصر المعرفي.

- عنصر العمل أو السلوك أو العقل(1).

لقد جمع الإمام الشيرازي(قده) في طرحه لمبدأ اللاعنف أرقى الآراء والأفكار والاتجاهات، بل ربما تنوعت بأبعادها أكثر مما طرحه المهاتما غاندي، أحد أبرز رواد هذا الاتجاه في النصف الأول للقرن العشرين، وربما تجاوز معاصريه في التقسيمات التخصصية النوعية لمبدأ اللاعنف.. فهو أبدع بطرحه كنظرية معرفية تارة، وأبدع باعتباره شكَّل مدرسة اجتماعية إنسانية لمبدأ اللاعنف تارة أخرى، فضلاً عن العنصر الفعّال في العمل والسلوك أو التنظير العقلي تارة ثالثة.. فقد نسج نظرية واتجاهات متجانسة عن اللاعنف، تناول خلالها رؤيته وأفكاره وأسلوبه العملي وخلفيته كإطار نظري مرجعي للرؤية الإسلامية، ونجح في ذلك أكبر نجاح.. رحم الله المفكر والمبدع الخلاّق السيد الإمام الشيرازي في نظريته عن اللاعنف..

تحديد المصطلح والمفهوم

العنف، الإرهاب، العدوان، اللاعنف، العصيان المدني، الدفاع السلبي أو مبدأ المسالمة.

العنف (Violence): تُعرّف موسوعة علم النفس والتحليل النفسي مصطلح العنف بأنه السلوك المشوب بالقسوة والعدوان، والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره.. ويمكن أن يكون العنف فردياً (يصدر عن فرد واحد) كما يمكن أن يكون جماعياً (يصدر عن جماعة، أو هيئة أو مؤسسة تستخدم جماعات وأعدادا كبيرة، على نحو ما يحدث في التظاهرات السلمية التي تتحول إلى عنف وتدمير واعتداء، أو استخدام الشرطة للعنف في فضّ التظاهرات والاضرابات) (2).

أما الإرهاب (Terrorism) فبالرغم من عدم وضوح تعريف محدد له إلا أنه أخذ النمط البسيط، فعبر به عن العنف أو التهديد الذي يهدف إلى خلق خوف أو تغيير سلوكي.

أما النمط القانوني لتعريف الإرهاب، فهو يعني عنفاً إجرامياً ينتهك القانون ويستلزم عقاب الدولة. ويرجح بعض الباحثين الاجتماعيين نمطاً آخر، هو النمط التحليلي للإرهاب، ويعني عوامل سياسية واجتماعية معينة تقف وراء كل سلوك إرهابي.

ويطرح نمط آخر للإرهاب وهو نمط إرهاب الدولة، ويعني استخدام سلطة الدولة لإرهاب مواطنيها(3).

ويعرف العدوان Aggression بأنه كل فعل يتسم بالعداء تجاه الموضوع أو الذات ويهدف للهدم والتدمير نقيضاً للحياة في متصل من البسيط إلى المركب. ويكون العدوان مباشراً على فرد أو شيء هو مصدر الإحباط في صورة مختلفة سواء باستخدام القوة الجسمية أو بالتعبير اللغوي أو الحركي(4).

وعلى النقيض الكامل من مصطلح أو مفهوم العنف نتعرف على مبدأ اللاعنف أو ما يسمى أحياناً بالعصيان المدني، أو أحياناً أخرى الدفاع السلبي أو مبدأ المسالمة.

يعرف الإمام الشيرازي(قده) اللاعنف بقوله: هو الطريقة التي يعالج بها الإنسان الأشياء سواء كان بنّاءاً أو هدّاماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج(5).

ويُعرّف اللاعنف في الموسوعة السياسية بأنه سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات وهي المعرفة الصارمة والعميقة للنفس(6).

ويعرف اللاعنف ( Non Violence) أيضاً بأنه شكل من التحرك السياسي يتميز بغياب كل تصرف عنيف(7).

أما مفهوم العصيان المدني، والذي يتقارب ببعض أبعاده مع مبدأ اللاعنف، فيعرف بأنه عصيان متعمد للقانون لأسباب دينية أو أخلاقية أو سياسية. والعصيان المدني يقتضي، في أضيق معانيه، أنه لا يحترم قانوناً ظالماً.

ويعرفه (راولز) بأنه فعل سياسي عام، غير عنيف، واع ومضاد للقانون، وهدفه تعديل قانون أو إقرار حكومي.

ويطرح (برتراتد رسل) تبريراً لاستخدام العصيان المدني بقوله أنه للنضال ضد الأسلحة النووية مقدراً أن السيرورات الديمقراطية والانتخابية غير كافية أمام تهديدها للإنسانية(8). أما المهاتما غاندي فيرى في اللاعنف بأنه سياسة يقف بمقتضاها الشعب ضد المستعمر موقف عدم تعاون وبطريقة سلبية ولا يلجأ بحال إلى العنف(9).

من العنف إلى اللاعنف.. نزعة أم دافع

يقول الإمام الشيرازي(قده) أن مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) لا أصل له في الإسلام، نعم قاعدة الأهم والمهم قاعدة إسلامية وهي قاعدة عقلانية يستعملها العقلاء، فأنه كلما دار الأمر بين ضررين قدموا الأخف على الأكثر، وذلك بخلاف (الغاية تبرر الوسيلة) فإنها تقدم الغاية مهما كلف الأمر، وهذه أشبه بالانتهازية والمصلحية والنفعية وهي لا مجال لها في الإسلام(10)، وإزاء ذلك فإن العنف كدافع له الغاية التي تبرره، ولما كانت الغاية هي الوصول إلى هدف ما، فلا بد أن يكون سلوكاً مكتسباً لا سيما أن الدوافع ليست كلها متمركزة حول العنف وما يدور حوله؛ فدوافع الأمومة نقيض دوافع العدوان والعنف، ودوافع النشاط والإثارة، هي أيضاً دوافع بقاء الإنسان، ودافع الاكتشاف والتحكم، يقف أيضاً في الصف المضاد التام لدافع العنف. وعندما نستعرض هذه الدوافع بتكوينها ونشأتها نستطيع أن نصل إلى مبدأ اللاعنف في النفس الإنسانية. فدافع الأمومة كما عبر عنه عبد الرحمن عدس ومحي الدين توق، هو أحد دوافع الحفاظ على النوع، ويتمثل في رعاية الأبناء والعناية بهم وتلبية حاجاتهم الأساسية إلى أن يصبحوا قادرين على رعاية أنفسهم. ويستطرد الباحثان في وصف الدوافع ونشأتها، بأنها لا تعمل فقط على القيام بسلوكيات تحافظ على بقائها ونوعها، بل إنها تعمل على اكتشاف البيئة من حولها وتحاول التحكم في مظاهر البيئة من أجل أن تتكيف معها وتستزيد من نشاطها.

فالدوافع إذن مكتسبة، مُتعلمة، يحاول بها الكائن البشري أن يتكيف مع الواقع الذي يعيشه وهي بنفس الوقت تدفع الفرد للفهم والسعي نحو الجديد وتحقيق التقدم من أجل إثراء وإغناء الإمكانات السلوكية، وإزاء ذلك نجد أن أعظم قدرة لهذه الآليات تتمركز في دافع الاكتشاف والتحكم (السيطرة) من خلال الجذور الأولى للرغبة في المعرفة والاستزادة منها، ولولا وجود هذا الدافع لما وسع الإنسان من إطار حدوده ومعرفته الشيء الكثير الذي يزيد عن المعرفة الضرورية للبقاء البيولوجي(11) ويعبر علماء النفس عن قدرة الكائن الإنساني من خلال دافع الاكتشاف والتحكم (السيطرة) في تنمية القيم والمبادئ الأخلاقية، فجذور سلوك الاكتشاف راسخة في الطفولة الباكرة للفرد، وتتزايد النزعة للمعرفة عند الأطفال بشكل سريع للغاية في السنوات الأولى من حياته وبضمنها نشوء المبادئ القيمية العظيمة، مثل مبدأ اللاعنف أو نقيضه بدوافع أخرى مثل دافع العدوان. فمبدأ اللاعنف يقوم على فلسفة آمن بها الكثير من دعاة السلم أو الساسة وخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين..

إن دوافع العنف، هي دوافع نفسية أولاً وأخيراً، ولا يمكن عزلها عن مجرى المتغيرات الحياتية الأخرى سواء في البيئة الاجتماعية للفرد أو الشخصية الإنسانية. ومن تلك المتغيرات التي ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، هي ظاهرة التعصب بكل أنواعه؛ فالتعصب اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً أو جماعة أو موضوعاً معيناً إدراكا إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً، دون أن يكون لهذا الإدراك أو ذاك ما يبرره من المنطق أو الأحداث أو الخبرات الواقعية؛ فالتعصب ظاهرة سلبية، خاصة التعصب الديني أو العرقي أو الطائفي، فهو يمثل مشكلة خطيرة تهدد السلام الاجتماعي داخل المجتمعات القائمة، وازداد التعصب وتبلورت صوره في العنف عند ظهور الجماعات الإرهابية بكل انتماءاتها..

إن مبدأ اللاعنف بكل أشكاله ابتداءً من العصيان المدني أو مبدأ المسالمة أو الدفاع السلبي.. يقوم على فهم واحد هو احترام الإنسان ككائن بشري، لا يمكن فناؤه أو تدميره، رغم أن ظاهرة العنف تستخدم بنفس القوة صورة منهجية مطلقة تعتمد على نوابض اللاشعور لدى الأفراد والجماهير المتأثرة بفكر متعصب أو جماعة تؤمن بالعنف كطريق موصل إلى الأهداف، وإقامة ضرب من نظام الرعب، ولكن من المناسب أن نميز بين العنف بوصفه نظاماً، وبين صوره الفردية الموجودة في كل مجتمع؛ فمن الممكن على وجه تام أن يكون مجتمع من المجتمعات غير عنيف في كلية بنيانه، ولكن سير العنف الكيدي يمكن على نحو تام جداً أن يتم يومياً تقطيره (بلطف) دون أن نكون على وعي بهذا العنف، أنه ليس صنيع المجموعات الاجتماعية الكبرى(12) وهو قديم قدم الوجود الإنساني، وجد منذ بداية التاريخ، ومنذ أول حدث للصراع بين البشر المتمثل في الخلاف بين قابيل وهابيل. ويبرر علماء النفس أخيراً أن العنف ليس بغريزة فطرية ولكنه ظاهرة نفسية اجتماعية، فالإنسان الكائن الاجتماعي الواعي بغرائزه البيولوجية، على عكس الحيوان الذي لا يمتلك الإرادة والوعي بالغريزة – والحيوان قوي بجسده ضعيف بعقله، أما الإنسان فضعيف بجسده قوي بعقله(13) – وهذا تدعيم لما سبق، ويمكننا القول أن الإنسان بوعيه وإدراكه للواقع الاجتماعي يحاول الرد على الأذى الذي أصابه مثل اغتصاب حق من حقوقه أو الدفاع عن شيء من خلال عدة سلوكيات مقبولة، وبضمنها اللاعنف أو مبدأ المسالمة أو العصيان المدني، لا سيما أنه (الإنسان) عاقل يتحقق وجوده في ظل واقع اجتماعي يمارس فيه كل متطلبات وجود البقاء الإنساني.

خلاصة القول أن الإمام الشيرازي(قده) وضع المبدأ الفعّال في سياق حركة الأبعاد الاجتماعية، من خلال رفض العنف والإرهاب، فهو - كما يرى- لا يولد إلا التأخر، ويوجب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين وهو محرم (19) وقوله أيضاً: إن إراقة الدماء تقود الحكم نحو التحطيم والفناء إن لم يكن في القريب ففي البعيد(20) .

اللاعنف من المبدأ إلى التطبيق

أثبتت الحركة التاريخية للأمم والحضارات أن الأفكار والثقافات تتشكل في إطار زمني طويل، بحيث تنمو ضمن عمر حركي وتاريخي لا يقاس بعمر جيل أو جيلين من عمر البشر، بل هو أبعد من ذلك، مما يصعب تغييره فوراً، وإنما التغيير يتم بجرعات طويلة المدى هادئة(14)14 هذا من جانب ومن الجانب الآخر أن يكون التغيير نحو الأفضل هو المبدأ وهو الأساس، فالإمام الشيرازي(قده) نادى بمبدأ التغيير في كل مجالات الحياة ومواكبة حركة التطور الطبيعي للتاريخ وحركة التغيير الاجتماعي. ومن هذا المنطلق الفكري كان ينادي حتى وفاته باستخدام مبدأ اللاعنف في كل مجالات الحياة. فالإمام الشيرازي(قده) يرفض العنف والعدوان كأسلوب لحل المشكلات باعتبارهما من الأساليب التي تؤثر في حياة الفرد والمجتمع، ويستند في دعوته هذه إلى فكره الإسلامي العميق القائم على ما ورد في القرآن الكريم من آيات صريحة، والسنة النبوية الشريفة وروايات آل بيت الرسول(ع)، فيقول سماحته: (إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء) (15)، وهو يطرح أفكاره ونظرياته التي تساير وتواكب التمدن والتغيير الاجتماعي كمبادئ تحولت إلى ميدان التطبيق الواقعي، وهو بنفس الوقت يرفض جميع أنواع التسلط والتعسف والعنف على الأفراد أو على الشعوب في سياق التعاملات الفردية والجماعية، ويستمد هذه الرؤية من قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (ادخلو في السلم كافة) (البقرة: 208) ويستطرد سماحته مؤكداً على مبدأ اللاعنف كحقيقة لا يرقى إليها الشك إطلاقاً في الدين الإسلامي بقوله: (إن الأصل في الإسلام: السلم واللاعنف) (16).

إن الإمام الشيرازي(قده) الذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الأديان قامت على مبدأ السلم والمسالمة والأخوة بين البشرية ونبذ اللاعنف بقوله: إن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو، والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، ان الله يحب المتوكلين) (آل عمران: 159).

يقسم الإمام اللاعنف إلى أقسام بعد أن آمن به كمنهج وطريقة يعالج بها الإنسان الأشياء بكل لين ورفق، فهو يقسم اللاعنف: في اليد، وهو أنه لا يمد الإنسان يده نحو الأعداء، ولو بالنسبة إلى أقوى خصومه، ولو كان المد لرد الاعتداء، ويضيف سماحته أن اللاعنف اليدوي سلاح يجلب إلى الداعية النفوس، ويؤلب على أعدائه الناس.

أما القسم الثاني من اللاعنف، فهو اللاعنف اللساني، وهو أنه يلزم الإنسان لسانه، ويلجم كلامه عن النيل من المعتدي وهو فضيلة كبرى، أما القسم الأخير وهو اللاعنف في القلب، وهو أنه لا يملأ الإنسان الداعية قلبه بالعنف بالنسبة إلى خصومة ومناوئيه(17) ورغم ما ينادي به السيد الإمام الشيرازي(قده) من عمق هذا المبدأ، ودعوته إلى التطبيق العملي له فإنه يرى أن الإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل، والحرب هي الاضطرار، وأن الجهاد والحرب حكم ثانوي اضطراري وأن السلم هو الحكم الأولي(18).

الخصائص النوعية لمبدأ اللاعنف

عدّ الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، الداعية الإسلامي في عالمنا المعاصر أحد أبرز رجالات القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، طرحاً لمفهوم اللاعنف بكل مجالاته الفكرية النظرية والعملية التطبيقية، فهو يؤكد دائماً بأن مبدأ اللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابة، ولا تردها، وأن سنحت الفرصة، ويقول أيضاً: (نعم.. ليس من معنى اللاعنف أن لا يقي الإنسان جسمه من الصدمة الموجهة إليه، فهو وقاية لا عنف؛ والوقاية من اللاعنف) (21) ويعرض سماحته لخصائص اللاعنف النوعية من خلال تقسيماته التالية:

أولاً: اللاعنف الملكي(*)..

أي تكوين النفس، بحيث تظهر على الجوارح

ثانياً: اللاعنف القسري الخارجي..

أي إن الضعف أوجب ذلك، فإن الضعيف – عادة – يلجأ إلى اللاعنف للوصول إلى هدفه

ثالثاً: اللاعنف القسري العقلاني..

أي أن يرجح اللاعنف على العنف من باب الأهم والمهم، وهو قادر على العنف، لا كسابقه، عن ضمير، وإنما يرجحه حيث أنه يراه طريقاً للوصول إلى هدفه(22).

إن الإمام الشيرازي(قده) عندما يطرح مبدأ اللاعنف كإطار مرجعي فكري، فأنه يقصد بذلك بعداً نفسياً وروحياً واجتماعياً في جميع التعاملات الإنسانية، والدليل على ذلك قوله: (إن قوة الروح غالبة على قوة الجسد، وملكة (قدرة ability) اللاعنف من صفات الروح التي تؤثر في سلوك الإنسان وتصرفاته) (23)، ويضيف سماحته بتعميم أوسع عن مبدأ اللاعنف بقوله: (على الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف) (24) ويناقش سماحته السلوك الإنساني في الواقع الاجتماعي من خلال تداعيات النفس الإنسانية في قوتها وضعفها، غيها وارتدادها، لطفها وسماحتها، فالإنسان لا بد أن يخضعها إلى الطريق القويم، حيث قال: (إن الإنسان بطبيعته يغضب ويثور، ويذكر معايب الآخرين، ويدخل مع الناس في صراع وحقد وبغضاء وعداء ومقاطعة، وإن الإنسان مسالم حازم عاقل مفكر مدبر، فإذا لقن نفسه بهذا التلقين ليله ونهاره، وشهره وسنته فأنه يتطبع بطابع السلم) (25) فالإمام الشيرازي يرى أن النفس البشرية تمتلك الخصائص النوعية لتدعيم السلوك الإنساني من خلال قوة التطبع بطابع السلم والمسالمة؛ فاتجاهات التطبيع الاجتماعي Socialization والنفسي والأساليب الموصوفة تتشابه تشابهاً كبيراً في التربية وفي المجتمع الواحد والتنشئة الاجتماعية، وتتفق آراء الإمام الشيرازي(قده) وقوة طروحاته الفكرية مع آراء علم النفس الاجتماعي بقولهم: صحيح أن هذا الرأي لا تعكسه معطيات البحث التجريبي، لكنه يتطابق مع النمط السائد، وقد تبين أن التدريبات الموصى فيها تتغير تغيراً شديداً من فترة إلى أخرى، ويستطرد علماء النفس الاجتماعي في ذلك تأييداً لطروحات الإمام الشيرازي(قده) بقولهم: (يستند البحث في تأثيرات أساليب التطبيع عامة على بيان العلاقة بين سلوك الأبوين وشخصية الطفل في عدد كبير من الأسر) (26).

إن تدعيم الخصائص النوعية لمبدأ اللاعنف التي أكدها الإمام الشيرازي(قده) قامت في أحد أنماطها الثلاثة على مبدأ اللاعنف القسري العقلاني وفقاً للقاعدة الفقهية التالية، وهي أن يرجح اللاعنف من باب الأهم والمهم، وهو قادر على العنف، ولكنه يرفضه.

وبهذه الأفكار النظرية يناقش السيد مرتضى الشيرازي، أحد معتنقي مبدأ اللاعنف بقوله: (إن الإسلام يدعو إلى اللاعنف حتى في اللسان، ويستشهد السيد مرتضى الشيرازي بقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام: 108) وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع): إني أكره لكم أن تكونوا سبابين). ويصل في مناقشته بقوله: (إن من يملك قوة المنطق لا يحتاج إلى منطق القوة).

بعض الآراء الفقهية للإمام الشيرازي في مبدأ اللاعنف

إن مبدأ اللاعنف في فكر السيد الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده) يأخذ منحى التطبيق الواقعي، وهو يعتمد في ذلك على الرؤية الإسلامية الواضحة، حيث يقول: (السلام هو الأصل، والعنف خلاف الأصل، وعلى الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف). بأن يكون قلبهم، وتبعاً له كل جوارحهم يريد السلام ويتجنب العنف، لفظاً ورؤية، وإشارة وعملاً(27) ويضيف سماحته: (لا يجوز الاعتداء وهو ظلم إطلاقاً ودلت عليه الأدلة الأربعة(28)؛ وقال الله سبحانه وتعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: 190) ).

ويطرح الإمام رأياً فقهياً عن العنف والطغيان بقوله: (يحرم الطغيان بلا إشكال) (29) ويستند في ذلك لقول الله سبحانه وتعالى: (فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا أنه بما تعملون بصير) (هود: 112) ويستطرد سماحته في إيضاح هذه القاعدة بقوله: (لا يجوز الاعتداء والطغيان، كذلك لا يجوز التعسف في استعمال الحق، كما لا يجوز الفتوى والقضاء على طبق التعسف إذا كان التعسف يصل إلى الضرر الكثير في حق نفسه ومطلق الضرر في حق الغير، وإلا جاز إذ لا نص بالنسبة إلى لفظ التعسف، وإنما الميزان هو ما ذكر في الشريعة من لفظ، لا ضرر ولا ضرار.. ) (30).

إن الإمام الشيرازي(قده) في دعوته إلى مبدأ اللاعنف لكل البشرية دون استثناء، اعتمد على صياغة مفاهيم الحياة صياغة جديدة وممارسة شؤونها ممارسة فعلية، فقال في اللاعنف: (بل من اللاعنف أن يتجنب كل ما يشين الطرف، ولو بالكتابة والتعريض، أو التلويح، فإن ذلك كله عنف) (31)، ويناقش سماحته مبدأ اللاعنف مع العنف، وأن العنف يولد العنف، والعنيف يجد من هو أعنف منه، فيقول: (اللاعنف أحد مقومات الدعوة التي ندعو إليها وهي حكومة إسلامية واحدة.. ) ويؤصل سماحته لذلك بقوله: (لقد ورد اللاعنف لفظاً ومعناً في روايتين إحداهما عن رسول الله (ص): من علامات المؤمن اللاعنف، والثانية عن الإمام جعفر الصادق(ع): من علامات المؤمن اللاعنف) (32).

اللاعنف في منهج النبي (ص) وآل بيته(ع)

إن الإسلام كدين سماوي قام على أسس المبادئ الرفيعة في التعامل والمعاملات بين الناس، فكان رسول الله محمد (ص) داعية السلام الأول، وكان السلام منهجه؛ فالنبي الأكرم(ص) دعا إلى عبادة الله الخالق بأسلوب السلم واللاعنف استناداً إلى قول الخالق عز شأنه: (ادخلوا في السلم كافة) (البقرة: 208) وقوله سبحانه وتعالى: (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256) وقوله أيضاً: (وإن تعفوا أقرب للتقوى) (البقرة: 237).

أما النبي الأكرم(ص) فقد آمن إيماناً مطلقاً بمبدأ المسالمة واللاعنف بقوله(ص): (تعافوا تسقط الضغائن بينكم) (33)، وقوله (ص): (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). كما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): (العفو تاج المكارم) (34) ويضيف رسول الله (ص) في مبدأ اللاعنف بقوله: (العفو أحق ما عمل به) (35).

إن مبدأ المسالمة واللاعنف هو الطريق الأمثل الذي سار عليه النبي المصطفى (ص) وآل بيته(ع)، فقد قال الإمام جعفر الصادق (ع): (إنا أهل بيت مروتنا العفو عمن ظلمنا) (36) وقال (ع): (الصفح الجميل أن لا تعاقب على الذنب) (37).

إن آل بيت النبي (ص) آمنوا بمبدأ السلام والمحبة واللاعنف في كل تفاصيل حياتهم حتى أنهم مارسوه في كل شؤون الحياة صغيرها وكبيرها رغم ما تعرضوا له من قسوة وتنكيل من الساسة والحكام والولاة والخلفاء؛ فالإمام علي بن أبي طالب (ع) يقول: (صافح عدوك وأن كره، فأنه مما أمر الله عز وجل به عباده، يقول: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقّاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) وما يكافأ عدوك بشيء أشد عليه من أن تطيع الله فيه) (38) ويحذر الإمام علي (ع) من اللجوء إلى القوة والعنف والتعسف ضد الآخرين، بل يدعو إلى استخدام المسالمة واللاعنف بقوله (ع): (إحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود الجلاء، والحيف يدعو إلى السيف) (39) ويورد لنا الإمام زين العابدين (ع) أعظم صورة من صور المسالمة واللاعنف بقوله: (حق من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو عنه يضر، انتصرت) (40).

إن مبدأ اللاعنف والسلام والتعامل السلمي كان من أبرز سمات الحضارة الإسلامية عبر التاريخ، فالدين الإسلامي دين المحبة والأمان، يدعو معتنقيه إلى الدخول في السلم كافة معتمداً في ذلك على ما ورد في كتاب الله العزيز وما جاءت به السنة النبوية الشريفة وآل بيت الرسول(ع)، فما يدعو إليه أحفاد النبوة، هو دعوة صادقة لمنهج راسخ يعايش التطور والتغيرات الكونية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً..

الخاتمة

إن التشعب في نظرية اللاعنف وأفقها الواسع، يعد إبحارا في الرؤية والتطبيق، فما طرحه الإمام الشيرازي(قده) يعد اتجاهاً جديداً شاملاً للماضي والحاضر، فهو قد كتب عن المبدأ والآليات والمفهوم والأقسام، فضلاً عن أساليب التطبيق الميداني، ودعا البشرية، من المسلمين وغيرهم، إلى انتهاج هذا المبدأ والعمل بموجبه خدمة للإنسانية جمعاء، دون النظر إلى الرؤية الضيقة في الطرح أو الممارسة، فاعتمد على القرآن كمنهج، والسنة النبوية الشريفة كأساس فكري، وسيرة آل بيت الرسول(ع) كممارسة، فلم يكن باحثاً ضيق الأفق في الرؤية أو النظرية، أو ربما في التطبيق، إنما هي دعوة للممارسة على نهج آل بيت الرسول (ص) المعصومين(ع)، فكتب عن خطاهم في الأثر، وتأثر في التكوين الفكري رغم تقادم الزمن، وتنوع المثيرات، وتطور الحضارة وأساليب المعيشة الاقتصادية والاجتماعية؛ فشخص الرؤية ليجعلها رؤية فقهية وسلوكاً لكل المسلمين وغيرهم على امتداد الأرض وعبر ما يزيد على النصف قرن..

وخلاصة القول أن نظرية الإمام الشيرازي(قده) في مبدأ اللاعنف تجسد عظمة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فضلاً عن روايات آل بيت الرسول(ع) ومعاصرة طروحاته للحاضر بكل تعقيداته واتساع طموحاته.. فنجح في الرؤية والتشخيص، ونجح في بلورة الاتجاه والنظرية، وصاغ الفكر المتكامل بكل تفاصيله.

المصادر:

1- الصحة النفسية، مصطفى حجازي، المركز الثقافي العربي، بيروت 2000 ص166.

2- موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، فرج عبد القادر طه وآخرون، دار سعاد الصباح، الكويت 1994 ص551.

3- الإرهاب، أصل المصطلح وتطوره، يحيى عبد المبدي، مقالة منشورة على موقع ميدل ايست اون لاين على الانترنت 2001.

4- موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، مصدر سابق ص480.

5- إلى حكم الإسلام، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مؤسسة الوفاء، بيروت 1984، ص50.

6- الموسوعة السياسية، ج4، عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1987 ص 320.

7- اللاعنف مدخل إلى المفاهيم والرؤى، حيدر البصري، مجلة النبأ، العدد 54 شباط 2001.

8- قاموس الفكر السياسي، ج1، مجموعة من المختصين، ترجمة انطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1994 ص474.

9- معجم العلوم السياسية الميسرة، أحمد سويلم العمري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1985 ص142.

10- الفقه - المسائل المتجددة، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده) ص215.

11- المدخل إلى علم النفس، عبد الرحمن عدس ومحي الدين توق، دار الفكر للطباعة، عمان 1998 ص243.

12- علم النفس وميادينه، مجموعة من المؤلفين، ترجمة وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1985 ص627.

13- الاغتراب والتطرف نحو العنف، محمد خضر عبد الجبار، دار غريب، القاهرة، 1999 ص63.

14- العنف بين الوسيلة والغاية، مرتضى معاش، مجلة النبأ، العددان (23-24) ربيع الثاني وجمادي الأول (1419هـ).

15- السبيل إلى إنهاض المسلمين، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت 1992 ص162.

16- ثلاثة مليارات من الكتب، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، هيئة آل ياسين، بيروت 1998 ص19.

17- إلى حكم الإسلام، مصدر سابق ص68.

18- الصياغة الجديدة، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت 1992 ص364.

19- منتخب المسائل الإسلامية، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، ط2 ص319.

20- إذا قام الإسلام في العراق، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده).

21- إلى حكم الإسلام، مصدر سابق، ص51.

22- ثلاثة مليارات من الكتب، مصدر سابق ص18.

23- نفس المصدر ص18.

24- حكم الإسلام بعد نجاة العراق، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مؤسسة المجتبى، بيروت 2001 ص40.

25- السبيل إلى إنهاض المسلمين، مصدر سابق ص172.

26- علم النفس الاجتماعي، عبد الفتاح محمد دويدار، دار النهضة العربية، بيروت 1994 ص128.

27- الفقه (النظافة) الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، دار العلوم، بيروت 1988 ص356.

28- موسوعة الفقه ج93(المحرمات)،الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، دار العلوم، بيروت 1988 ص250.

29- موسوعة الفقه ج93، مصدر سابق ص238.

30- فقه القانون، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مركز الرسول الأعظم، بيروت 1998 ص221.

31- إلى حكم الإسلام، مصدر سابق، ص66.

32- الوصول إلى حكومة واحد إسلامية، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، دار النخيل، بيروت 1995 ص39.

33- كنز العمال، 7004.

34- غرر الحكم، 520.

35- كنز العمال، 7003.

36- آمالي الصدوق، 238-7.

37- أبو الحسن الحراني، تحف العقول، مطبعة شريعت، طهران(1421هـ)، ص369.

38- الخصال، 2- 633-10.

39- نهج البلاغة، الحكمة 476.

40- الخصال، 570- 1.

يقصد الملكي، بالملكة، وتستخدم في علم النفس المعاصر تحت تسمية القدرة (ability).