الغرب في أفكار الإمام الشيرازي

إعداد: المستقبل للبحوث والدراسات

مقدمة:

عُرف عن الإمام الشيرازي خلال السنوات الماضية، من خلال أحاديثه وتوجيهاته إلى المسلمين دأبه على توضيح صورة الغرب في أذهان العامة من الناس، والبنية الاجتماعية السائدة في معظم مفاصل الهيكلية الاجتماعية والتكوينية للإنسان الغربي، وهي دعوة صادقة من سماحته لاستجلاء صورة الغربي لدى مسلمي العالم وتبيان تكوينه، وكيف يعيش حياته العامة والخاصة؟ وما هي أسس التربية التي يقوم عليها هذا البنيان لدى أجيالهم؟ وما هي الثقافة السائدة التي يؤمن بها إنسان الغرب؟ وما هي آثار العوامل الاقتصادية على سلوكه؟ وما هي أنماط الحرية الشخصية التي يؤمن بها، ونوع الديمقراطية التي ينتهجها المجتمع..؟

وإزاء ذلك الاستجلاء في الرؤية، يقول الإمام الشيرازي: (المصلح يحتاج قبل كل شيء إلى صدر رحب، وإرادة قوية، وعزيمة صخرية، وذكاء ثاقب، وصدق لهجة، وحلم واسع، واستمرار في العمل، وعدم اليأس عندما لم يوفق لنتيجة)(1).

إن الصورة التي يرسمها الغرب عن نفسه، صورة براقة ناصعة؛ جميلة من حيث الشكل الخارجي، ولكن تكتنفها

العديد من العقد والأزمات والمشاكل، من حيث الجوهر الذي يشكل أسس بناء المجتمع واستمرار وجوده؛ فالإمام الشيرازي قد تنبأ بهذه الصور وهي نبوءة علمية عن حضارة الغرب وما فيها من مزايا ومساوئ وانحراف، ونقاط قوة وضعف، وعوامل تقدم وانهيار، فيقول سماحته: (إن الدول الغربية قفزت في صناعتها إلى مستويات خيالية، لم يكن يتوقعها البشر قبل مائتي عام، لكن الصحيح أيضاً أن المادية البحتة كانت سبباً في حدوث خلل روحي رهيب وفراغ فكري هائل، لا زال المجتمع الغربي يعاني من آثاره، ولذا كثرت الجرائم الإنسانية والأخلاقية، ولم يستطع القانون بقبضته الحديدية من ردع الناس عن اقتراف الموبقات والجرائم؛ فإن القانون لا يكفي في ردع الإنسان عن الموبقات إذا لم يكن له وازع من داخله، والشاهد على ذلك هو وقوع مئات الجرائم في أمريكا بسبب انقطاع الكهرباء لثلاث دقائق فقط) (2).

وعليه فإن صورة الغرب من وجهة نظر الإمام الشيرازي تعد رؤية من الرؤى، وقد تنبأ بأحداث قبل وقوعها بأعوام، ومن ذلك:

تنبأ سماحته بالأزمة اللبنانية والتي بدأت عام (1975م) قبل حدوثها بعامين، كما تنبأ أيضا بسقوط الشيوعية العالمية يوم لم يكن يدور في أذهان الساسة وعامة الناس انهيار هذا الصرح الدولي المتعاظم - وقتذاك - والذي كان يشكل أحد أقطاب العالم، ولكن عندما تناول ذلك سماحته في كتابه (الاقتصاد للجميع) وكتب أخرى، أشار فيها إلى هذه الرؤية التنبوئية وأرجعها إلى الفلسفة التي تحكم حركة التاريخ، وحدد الفترة الزمنية بعقد من الزمان.. وهكذا انهار الصرح الشيوعي وهزم المعسكر الشرقي..

كما أنه تنبأ باندلاع حرب الخليج الثانية قبل وقوعها بأعوام، فحصل ما تنبأ به، وهكذا عندما احتل العراق دولة الكويت، كما تنبأ بعودة الكويت لأهلها، فكان أن حصل ذلك.

وكان لسماحته أيضاً رؤى تحققت بشأن الحرب العراقية - الإيرانية، وغزو الاتحاد السوفييتي - السابق - لأفغانستان وانسحابه منكسراً، فكان الأمر كما تنبأ.

إن تشخيصات (الإمام الشيرازي) الصائبة للرؤية المستقبلية المتحققة تكاد تأخذ مسارها التاريخي باتجاه الغرب، فهو وضع التقييمات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتغيرات الدولية على محك الواقع.. وتنبأ بما سيؤول إليه الواقع الغربي.

الغرب والانهيار المعنوي..

يقول الإمام الشيرازي: إن الكنيسة وكتبها الدينية والأخلاقية عاجزة عن ملء الفراغ الروحي الذي يعيشه المجتمع الغربي؛ ذلك أن الكنيسة لا توفر إلا جانباً ضئيلاً جداً من حاجات الروح، وشعر العقلاء في المجتمع الغربي بهذه الحقيقة، كما تجد ذلك في كتبهم، وهم اليوم يلتمسون المخرج، ولا مخرج إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح الذي يزرع في الإنسان الخوف من الله سبحانه، وإلى الفطرة الإنسانية الرشيدة(3)، فضلاً عن سيطرة وسيادة روح التعاملات المادية المبنية على المصلحة الشخصية الضيقة، وهي ناشئة من التربية التي تربى عليها الفرد في أسرته ومجتمعه والمناهج التعليمية التي درسها وقيم المجتمع السائدة بين الناس؛ مما أدى إلى اضطراب الإنسان الغربي ومسخه، ومما لا شك فيه فإن الإنسان يعاني من المشاكل منذ أن خلق الله العالم، وإلى اليوم، وستبقى معاناته حتى ظهور الإمام المهدي (عج)، إلا أنه من غير شك تفاقمت مشكلة الإنسان بسبب النظام الغربي أكثر وأكثر(4).

ويؤكد سماحته أن مشكلة الإنسان في الغرب ناجمة عن عدم الإيمان بالله إيماناً صحيحاً، ووجود النظام غير الصحيح(5).

أما المحيط الاجتماعي وما يتلقاه الإنسان من مجتمعه فلا يخفى تأثيره في تكوين شخصيته..

ويقول أيضاًً: إن الإنسان لا يتعلم حاجاته الأولية وأصول معاشرته من المجتمع فقط، بل يتعلم منه الحاجات الثانوية، مما يحتاج إليه في معاشرته الاجتماعية أيضاً، كالآداب والرسوم والتقاليد والعادات الاجتماعية، وهي حاجات اجتماعية. ويبدأ الاحتواء الاجتماعي من العائلة ثم المدرسة، وإلى المجتمع الكبير بل وإلى المجتمع الأكبر(6).

إن ضعف العوامل الروحية هي انعكاس لتربية الفرد الغربي وتنشئته وثقافة مجتمعه، ولما كان المجتمع الغربي يدعو أفراده من خلال التربية إلى التقليل من شأن الجوانب الروحية، فإنه أصبح بمرور الزمن يسلك سلوكاً يتنافى وقيم السماء ومن ثم ابتعد شيئاً فشيئاً عن روح القيم والمثل، وازداد إقباله على الحياة المادية البحتة، بل وتكالبه على المادة، والتنازع على الثروة، حيث إن (المادة والثروة) محدودة، وحيث أن طموحات الإنسان غير محدودة، وكل واحد يريدها كاملة لنفسه ويراها من حقه وحسب، فقد انحرف (القانون) أيضاً، وهذا ما عبر عنه سماحة الإمام الشيرازي حيث رأى سماحته بأن الإنسان روح ومادة؛ فالتفريط في أحدهما له نتيجة معكوسة على الجانب الآخر(7).

الغرب والديمقراطية.. والرؤية الإسلامية

عُرفت الديمقراطية الحديثة بتطبيقاتها العملية في المجتمعات الغربية منذ ما يزيد على القرن من الزمان، وترعرعت على وفق أساليب اتخذتها الحكومات الحديثة وباتت تشكل قوام مجتمعاتها وأسسها، وإن كان ظاهرها - كما يدعي ساسة الغرب - يدعو للديمقراطية والحرية.. إلا أن باطنها ليس كظاهرها؛ ففي الكثير من مجالات الحياة في الدول الغربية، تكبت الحريات باسم الديمقراطية، وقد عبر الإمام الشيرازي عن ذلك بقوله: (إن الحريات تكبت في بلاد الإسلام بالاستبداد والديكتاتورية وفي أكثر مجالات الحياة، أما في غير بلاد الإسلام فتكبت باسم الديمقراطية، والحاصل إن في بلاد الإسلام كبت وسلب إرادة، وفي بلاد الغرب كبت بإرادة، حيث يزعمون أن الكبت بإرادة الناس أنفسهم فلا محذور، بينما هذا الكبت والاستبداد ليس إلا بالقوانين الجائرة والإعلام المضلل وكله تحت غطاء الديمقراطية) (8).

فالديمقراطية في الفكر الغربي، وتطبيقاتها العملية هي مجرد دعوات ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر؛ فتراهم يدعون الدول إلى تطبيقها على شعوبها، سواء تلك التي خضعت لهم أو الدول المستقلة عنهم؛ وهم إلى ذلك يحاولون مراراً وتكراراً - في الحاضر كما في الماضي - أن يخلقوا الأزمات والمشاكل، ويصطنعوا الحلول الجاهزة لها باسم الديمقراطية، وهو ما عبر عنه الإمام بقوله:

لم يكتف الغرب بما أورده على المسلمين من الضرر بهم في مجال العلم والصناعة والعدة والعدد، والدين والعقيدة(9)، فقد عملوا على تدمير الشعوب الإسلامية وبذر الشقاق والفرقة، وراحوا يطرحون العلاجات الجاهزة التي رسموها لمجتمعاتهم كبدائل لحل أزمة الشعوب وبضمنها الإسلامية، إلا أن سماحته يطرح آراء مغايرة تماماً لعلاج أزمة الحرية والديمقراطية في المجتمعات الإسلامية بقوله:

فالحرية إنما تقدر على الانطلاق إذا لم تكن حرية أخرى إلى جانبها، وإلا فكل حرية تأخذ نطاقاً لنفسها تمنع نفوذ الحرية الأخرى إلى تلك المنطقة، كحال الأفراد في داخل الدولة(10).

وقال أيضاً:

ثم إن الإنسان، كما أنه يتطلب الحرية في كل شيء وأقر له الإسلام ذلك - باستثناء ما فيه من إضرار نفسه أو إضرار الآخرين - من المأكل والملبس والمسكن والمركب، واختيار الزوج والكسب، وأشياء أخرى، كذلك يتطلب الحرية في عقيدته وشريعته؛ ولذا أقر له الإسلام ذلك، فقرر له الانتخابات(11).

ورغم أن سماحته يؤكد في موضع آخر بقوله:

إن الغرب لما عمل ببعض تعاليم القرآن الكريم من الشورى والحرية وما أشبه ذلك، تقدم ذلك التقدم الهائل(12).

وقد قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): (الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم)؛ أي غير المسلمين..

إن رؤية سماحته للحرية رؤية شاملة ومستوعبة لكل متطلبات الحياة الإنسانية، وقد لخصها بقوله:

الحرية التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان وقررها الإسلام في غير المحرمات تقتضي وجود كل الأشكال المتقدمة للمؤسسات والمنشآت في الحياة العملية للتجمعات وقيامها بالأوجه المختلفة من النشاط، هذا بالإضافة إلى حاجة الإنسان إلى كل تلك الأشكال، مما يمكن أن يساهم في تقنين الحياة بمختلف الأبعاد(13).

ويضيف سماحته عن رؤيته للحرية من خلال أبعادها المختلفة ومظاهر نشاطاتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية بقوله:

إن الإسلام أعطى الحرية لكل الناس في كافة الأمور باستثناء المحرمات التي نص عليها، سواء المحرمات الأولية كالقمار والخمر وما أشبه، أو المحرمات الثانوية التي ينطبق عليها دليل لا ضرر ولا حرج ولا عسر، وما أشبه ذلك من الأدلة الثانوية التي قد تتدخل في الميدان فيقلب العنوان الأولي إلى نفسه؛ فإن الإسلام بمرونته المعروفة جعل بعض الجائز حراماً أو واجباً حسب قانون لا ضرر، فإذا كان بقدر كثير حرم ذلك الشيء، وإذا كان بقدر قليل بالنسبة إلى الإنسان نفسه أو الغير فيما إذا رضى جعله جائزاً(14). وعليه فإن الحرية والديمقراطية على وفق المفهوم الإسلامي تعني الرؤية الشاملة لكل نواحي الحياة ومفاصلها المتعددة، وكل ما يخص الإنسان ككائن خلقه الله؛ فالمقصود من الحريات الإسلامية كما يطرحها الإمام الشيرازي هو أن يتوفر لكل مسلم في جميع البلاد الإسلامية كل الحريات الإسلامية المباحة - أي باستثناء ما هو محرم وما هو محدود وقليل جداً - فيتمكن الفرد المسلم أن يمارس بكل سهولة جميع النشاطات اليومية وأعماله الفردية والاجتماعية دون أن تعوقه مسألة أخذ إجازة، أو كسب موافقة، أو دفع ضريبة أو ما أشبه ذلك.

وعلى هذا فيتمكن كل المسلمين من تحصيل حقوقهم الأولية في الحياة، وممارسة حرياتهم الإسلامية مثل: حرية التجارة، الزراعة، الصناعة، السفر والإقامة، العمران والبناء، العمل والاكتساب، حيازة المباحات، حرية تأسيس المعامل والوحدات الصناعية الكبيرة والصغيرة، حرية النشاطات الثقافية من نشر الصحف والمجلات والكتب، حرية الاستفادة من المؤسسات العامة كالإذاعة والتلفزيون، حرية المشاركة في الانتقاد البنّاء، حرية التشرح للانتخابات الحكومية، حرية التقليد لأي مرجع تتوفر فيه الشروط المعتبرة، وغيرها من الحريات الإسلامية الكثيرة والتي هي أكثر بكثير من الحريات الموجودة في الغرب، ولو أن الغرب كان قد وعى مغزى الحريات الإسلامية لطبقها في بلاده(15).

ومما تقدم نستطيع استخلاص ما يلي:

- إن الإسلام طرح الحرية بمفهومها الواسع والشامل قبل الحضارة الغربية الكثير.

- إن التطبيقات الإسلامية لمفهوم الحرية لا يتحدد على ضوء سياسة أو نظرية تكتيكية مرحلية.. فظاهرها كباطنها.

- إن الإسلام وضع المنهاج العملي لهذا المفهوم في حيز التطبيق لكل البشرية دون استثناء أو تمايز للعرق أو للدين أو للجنس أو للون.

- تتميز الرؤية الإسلامية بأصالتها السماوية، ونجاح تطبيقاتها الميسرة دون الرجوع إلى مفسرين في التطبيق.

- حدد الإسلام الممنوعات (المحرمات) تحديداً واضحاً، كما حدد المسموحات (الجائزة) من أمور الدنيا بأوضح صورة.

- الرؤية الإسلامية للحرية والديمقراطية لم ولن تتبدل عبر القرون والحقب الزمنية، بل إنها ثابتة في التنظير والتطبيق.

الغرب يتدهور..

تتصاعد بين الحين والآخر في المجتمعات الغربية دعوات صادقة من منظمات إنسانية وبيئية واجتماعية تطالب بالعودة إلى الفطرة الإنسانية، والبساطة، وإلى تطبيق القيم السماوية، بعد أن أثقل كاهل إنسان الغرب بالموبقات والمحرمات وانتهاك الأخلاق، حتى بانت على سلوك الناس في المجتمعات الغربية وبصورة متنوعة أنواع الاضطرابات، كالأمراض الزهرية والسفلس والإيدز والأمراض النفسية والعقلية كالاكتئاب والشيزوفرينيا (الفصام)، وأنواع الهوس (الهوس الجنسي، وهوس القتل، وهوس الصرعات؛ كأشكال الحرائق، وممارسة الجنس مع الموتى، والتمثيل بالأحياء)، ورغم أن الحضارة الغربية أعطت للكلاب حقوقها، إلا أنها فرّطت برغبات الإنسان الحقيقة والذي بات يبحث عن الجديد بكل ما هو منحرف، دون رادع يمنعه أو وازع من دين سماوي يحل هذه الإشكالية.. فتيقن واضعو السياسة الغربية بأن العودة إلى الفطرة الإنسانية أمر لابد منه.. وقال الإمام الشيرازي:

إن الفطرة الإنسانية ستنتصر على أعدائها في نهاية المطاف، وستحسم نتائج المعركة قريباً لصالح الفطرة، لكن الأمر يبقى مرهوناً بعدد الرجال الذين يدافعون عن الفطرة وبالأساليب العلمية التي يعتمدونها في تحقيق ذلك، فكلما كانت الوسائل أفضل وأشمل، وكلما كان الرجال أكثر كلما كان طريق النجاح أقصر وأسرع، كما أن التقدم العلمي الإيجابي الذي وصل إليه العالم اليوم يعتبر هو الآخر انتصاراً للفطرة أيضاً(16)..

إن رؤية الإمام الشيرازي التنبوئية في حالة الغرب اليوم، هي حالة تشخيص لحضارة أمم بدأت بالتدهور، وهو أمر ماثل أمام المراقب العادي، وقد بدت للعيان بداية النهاية واضحة.. وهي رؤية فاحصة لما يجري الآن، كما أنها دعوة لإعادة صياغة الحياة الإنسانية برؤية سماوية تضفي روح الإنسانية عليها، فالإمام الشيرازي يدعو عقلاء الغرب وقادته إلى إعادة النظر في كل القوانين المادية بعد أن ثبت فشلها عبر قرن من الزمان أو أكثر، سواء في إقامة السلام بين شعوب الأرض، أو في إقامة مجتمعات إنسانية خالية من الآفات والكوارث والأزمات والمشاكل، أو في إقامة نظام قيمي أخلاقي يرتكز إلى تعاليم السماء في حل إشكالات التطور والتحضر المتسارع الذي لا يأخذ بنظر الاعتبار مادة الحياة الأولى التي هي الإنسان.. فمن أجله نزلت الرسالات السماوية، ومن أجله أرسل الله سبحانه وتعالى أنبياءه لإصلاح الناس وما على الأرض.

فيقول الإمام الشيرازي في ذلك:

إن مناهج الصحة العامة في الغرب مختلة الموازين، وذلك لفقدان الوقاية الصحية، مما جعل العلاج مستعصياً أيضاً؛ فاللازم تعديل تلك المناهج في الأكل والشرب والملبس والمسكن والمعاشرة والسلوك وطريقة الزواج، وفي كل مرافق الحياة(17)، وطرائق التعامل مع البيئة ومع أفراد المجتمع ومع تصحيح الاعتقاد لاسيما وأن ما سار عليه الغرب خلال تلك العقود المنصرمة أثبت فشله فشلاً ذريعاً، ويطرح سماحته رأياً يبدأ بعلاج المشكلة المستعملة وهذا الرأي هو:

إن المخرج الوحيد هو الإيمان بالله إيماناً قلبياً يطفح على سلوك الإنسان وعمله وأعضاءه وجوارحه، لا إيماناً ظاهرياً لا يتجاوز لقلقة اللسان، وإلى جانبه قانون صحيح هو (الإسلام) وإلا فما نفع القانون الصحيح - مع فرض وجوده - إذا لم يطبق؟!!.

وقال سماحته أيضاً معلقاً على أزمة الغرب الصحية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية والروحية بقانونها الحالي الذي فشل في تسوية النزاعات بين أفراد المجتمع والنزاعات بين الدول مع بعضها البعض:

أي قانون هو الذي يسود العالم حيث ترك نصف العالم فقيراً ولا أحد يحرك ساكناً لإزالة ذلك الفقر المدقع، مع إن العالم يملك وسائل التغيير ويملك من الثروة ما يكفي الكرة الأرضية مرات ومرات؟ وأي قانون هذا الذي يسمح بإنتاج أشد الأسلحة فتكاً ثم يؤيده الجميع ويباركون له في إنتاجه؟ ومن ذلك يظهر:

إن الحضارة الغربية مهددة بالانهيار، إذا لم ترجع إلى فطرتها الإنسانية في التعامل مع الحياة(18).

الشباب المسلم والغرب

يرجع بعض المراقبين الأسباب التي تدعو المسلم إلى الهجرة لبلاد الغرب أو إلى البلدان التي تدين بدين غير الإسلام إلى أسباب كثيرة؛ منها الاضطهاد الديني والعوامل الاقتصادية والسياسية وكبت الحريات ومصادرتها، ولكن الدعوة الصادقة للأسر المهاجرة أو الشباب المهاجر، هي التمسك بقيم دينهم ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وإظهار المسلم لأعلى ما يمكنه من الالتزام الديني؛ لكي يكون قدوة في الإخلاص بالعمل والتمسك؛ بتعاليم القرآن والدين الإسلامي الحنيف والأخلاقيات الإسلامية والدفاع عن الإسلام، مع مراعاة شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما قال الإمام الشيرازي -(19)، وقال سماحته أيضاً بهذا الصدد:

أول الواجبات على من يذهب إلى البلاد الأجنبية، هو المحافظة على شخصيته الإسلامية، عقيدة وأخلاقاً وعملاً؛ فلا يذوب في تلك المجتمعات، ولا ينساق مع التيارات هناك ولا ينصبغ بلون تلك البلاد، بأن يترك عقيدته إلى الإلحاد، أو إلى عقيدة غير إسلامية، ولا يتخلق بأخلاق تلك المجتمعات؛ أي الأخلاق التي تنافي الإسلام، فإن التحفظ على الشخصية، هو دليل على وجود نفس قوية، وفكر أصيل ثاقب، يجلب احترام الآخرين(20)، فالشباب المسلم حينما ينتقل إلى بيئة أخرى مختلفة تمام الاختلاف عن بيئته التي ولد فيها وعاش وترعرع في كنفها، وتعلم منها العادات والقيم والتقاليد المبنية على الأسس الإسلامية، سوف يواجه بيئة تدعو في ظاهرها إلى التحرر من كل القيود، ولكن تحمل في محتواها الباطن قمة التردي والتفسخ الخلقي على صعيد الواقع اليومي للمجتمع، مع دعم من قبل الدولة لهذه السلوكيات والممارسات التي هي مدعومة أيضاً بوسائل إعلام وتكنولوجيا حديثة تصور الوضع الراهن بأنه الصورة المتطورة للحضارة، وما عداها هو التخلف..

فالأقمار الصناعية وشبكات الانترنيت، ومحطات التلفزة والإذاعات وظفت توظيفاً تاماً لإغفال الإنسان في الغرب، وجعله في دوامة مستمرة مع الطموحات غير المنتهية، المادية والثقافية والاجتماعية والجنسية، حتى يضيع بمرور الزمن ويندمج بشكل مرضي، ولا يجد لنفسه الخلاص، سوى بالجنون أو بالمرض الذي لا يجد له الشفاء..

فالغرب كما يقول الإمام الشيرازي: ينتهي إلى افتقار القطاع الأكبر من المجتمع(21).

وهو (الغرب) أيضاً يعاني من ضياع الكفاءات رغم التطور الهائل الذي شمل مرافق الحياة(22).

اللاعنف.. مدخل لإصلاح الشعوب والمجتمعات الغربية

لقد استطاع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا أن يحقق أعلى نمو اقتصادي في العالم منذ انتهاء العمليات الحربية في الحرب الكونية الثانية، وتزامن مع هذا النمو الاقتصادي، النمو التكنولوجي - الصناعي، الذي عد عصب الحياة الحديثة، فضلاً عن التحولات الاجتماعية والضمان الاجتماعي وما رافقها من حقوق الإنسان عموماً وحقوق المرأة خصوصاً وحق حماية الأطفال والشيوخ المسنين.. وأخيراً دور الثقافة التي قطعت شوطاً طويلا ً في الحياة العامة.. إلا أن هذه التحولات والإصلاحات وتكوين الأحزاب السياسية، وإطلاق الحريات (الديمقراطية) الغربية على وفق المفاهيم التي تحت صياغتها.. لم تمنع أهم أساس لاستمرار الحضارة الإنسانية، ألا وهو الأمن بكل أنواعه، النفسي، الاجتماعي، العام.. فظهرت نزعات العنف بشكل مجسم على سلوك الكبار، كما هو الحال على سلوك الأطفال، وتنوع أساليب تعلمها..

وعليه يطرح الإمام الشيرازي علاجاً إنسانياً لتحقيق استمرار الحياة والحفاظ على الحضارة الحالية بقوله: من الضروري على الحركة العالمية التي تريد نجاة الغرب سلوك طريق اللاعنف(23)، ويرى أيضاً أن التعلم يبدأ من الاحتواء الاجتماعي الذي يكون عادة من العائلة ثم المدرسة، وإلى المجتمع الكبير، بل وإلى المجتمع الأكبر(24).

وعليه فإن اللاعنف كسلوك عام في السياسة الدولية أو التعامل مع الشعوب أو في التعاملات الاجتماعية اليومية بين البشر ستؤدي حتماً إلى تقليل استخدام العنف. ويعرض سماحته قوله:

وحركة اللاعنف، وإن كانت صعبة جداً على النفس لكنها مثمرة جداً في الوصول إلى الهدف وهو نجاة الغرب، كذلك يناقش آليات هذا المبدأ بقوله: اللاعنف ليس في بعد السلاح فقط، بل يشمل حتى الكلمة والنظرة والإهانة وغيرها، كما يشمل وسائل الإعلام كالصحف والمجلات وما أشبه، فيجب أن تكون غير عنيفة.. ويورد سماحته رأياً بقوله: فاللازم أن تلتزم الحركة التي تريد نجاة الغرب بالسلم واللاعنف الكامل، فإن اللاعنف وإن كان صعباً في مقابل من يستعمل العنف إلا أنه محمود العاقبة(25).

لقد أثبتت الدراسات العلمية في كل المجتمعات الإنسانية المتقدمة والنامية والمتخلفة، بأن المعطيات التجريبية أبانت وجود علاقة سببية بين مشاهد العنف في التلفزيون والسلوك العدواني، ففي الغرب أظهرت دراسة (كومستوك comstok) أن حوالي خمسين تجربة ميدانية أظهرت علاقة إيجابية بين مشاهدة العنف والسلوك العدواني الآني، وبتعبير آخر فإن نتائج هذه التجارب الميدانية أوضحت أن تعرض الأطفال لبعض أنواع المشاهدات لأفلام العنف يزيد من الاحتمال الآني بظهور الاستجابات العدوانية من قبلهم(26) فضلاً عن الدراسات الأخرى التي تؤدي إلى ظهور السلوك العنيف في الأسر الغربية، منها السلوك المصاحب للإدمان الكحولي في الأسرة الغربية، بعد أن أصبحت الخمور وتعاطيها أمراً طبيعياً دون النظر إلى انعكاساتها الجانبية، ففي دراسة (شورت short) التطبيقية على الأسر الأمريكية أظهرت أن كل طفل من خمسة أطفال يعاني من الكحولية المرضية، وإذا أحصينا ست أسر في الولايات المتحدة الأمريكية فإن الأسرة السادسة تعاني من إدمان الكحول سواء بالنسبة لأحد الأبوين أو كلاهما، وبالتالي فإن الحديث يتعلق بملايين الأطفال(27).

وغيرها العديد من الظواهر التي استشرت في المجتمع الغربي واستخدمت فيها شتى أساليب التعامل العنيف، فظهر العنف في أدق تفاصيل الحياة الإنسانية والاجتماعية، حتى شمل المرأة.. حيث تم استغلالها في كل مجالات الحياة، العمل، الأسرة.. حتى أصبحت المرأة ماركة تجارية، وتحريرها شعار مزيف كما عبر عنه الإمام الشيرازي.. وقوله:

إن دوافع إطلاق مثل هذه الشعارات المزيفة كثيرة، منها ما خفي ومنها ما ظهر، لكن الدافع الأقوى، كان دافعاً اقتصادياً بحتاً حيث أن إطلاق مثل هذه الدعاوى برز على إثر الثور الصناعية في الغرب، وما نجم عنها من توسع في الدوائر الإنتاجية ووسائلها، وتزايد رؤوس الأموال ونفوذ أصحابها في مراكز القرار ومواطن الدعاية والإعلام(28).

ويمكننا القول إزاء ذلك أن العنف والسلوك الموجه من خلاله أفراد الأسرة بكاملها، الأب، الأم، الأولاد، ثم المجتمع بأسره، وامتد إلى التطور التكنولوجي الصناعي، بعد أن حقق الغرب أعلى تطور فيه وليصل إلى حالة الرخاء ا لاقتصادي، فالإمام الشيرازي يدعو إلى انتهاج اللاعنف كطريق مؤدي إلى السلام، بقوله:المسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء.

إصلاح الغرب.. ضرورة حتمية

يعتقد الإمام الشيرازي اعتقاداً مؤكداً أن رياح التغيير والإصلاح سوف تهب على الغرب حتماً، وقوله: الغرب ومن في فلكه أناس قابلون للهداية، فإنهم بشر والبشر بفطرته يحب الخير لنفسه ولغيره، ووجود ظواهر التعصب فيهم لا يدل على أنهم متعصبون.. ودليل عدم تعصبهم قبولهم للمسيحية مع أن المسيح (ع) كان شرقياً وليس غربياً(29).

فالغرب بعد حالات الانحطاط الخلقي والإنساني التي وصل إليها، رغم ما حققه من تطور تكنولوجي وتفوق في عالم الإعلام والفنون ووصل إلى أعلى مراتب الكمال الاقتصادي، والرخاء المادي فإنه بدأ يتجه إلى التآكل من الداخل، وبدأ ذلك بتصدع القيم السائدة بين الناس وانهيارها وبمرور الزمن بدأت تظهر الآفات الاجتماعية والشخصية، وهذا ما أكده إعلان مدريد في العام (1999) في إحدى فقراته ونصها:

لا شك أن هناك حاجة عالمية للتعامل الأخلاقي وللمراجعة المستمرة للمعايير الأخلاقية رغم الفروق الحضارية والاجتماعية والقومية(30).

وإزاء ذلك فإنه بات ضرورة حتمية لابد منها، وعليه فإن الإمام الشيرازي عندما يدعو إلى إصلاح الغرب فيقول:

من اللازم على المنظمة العالمية التي تريد نجاة الغرب، عدم الاهتمام بالجانبيات والجزئيات، حتى بعض الانحرافات في داخل المسلمين، كما يلزم عدم الدخول في الصراعات السياسية والعقائدية والاقتصادية والحدودية بعضها مع بعض، فإن الأمور الصغيرة تمنع تمكن الإنسان من الأمور الكبيرة(31).

إن الإصلاح الذي يقصده الإمام الشيرازي ليس إصلاحاً أحادياً في جانب واحد من جوانب الحياة، وإنما يشمل كل ما يتعلق في الأبنية المختلفة للإنسان المعاصر، سواء نفسياً أو اجتماعياً أو إدارياً (في إدارة شؤون العائلة أو الأسرة) أو ما أشبه ذلك، رغم أن الإصلاح ليس عملية سهلة ويسيرة على الإنسان، أو من يقوم به.. فقوله: كلنا نعرف الداء، وإنما الخلاف في الإصلاح، فالأغلبية الساحقة يرون أنه غير ممكن، ولهم في ذلك حجج ومستندات، وقوله: أنا أدري أن كل نهضة وكل فكرة، كانت مهددة في بدء أمرها بكل هذا، وقد لاقت كل هذه المتاعب والمصاعب وجوبهت بجميع هذه المجابهات، ومع ذلك فقد نجح الكثير منها(32).

إن الغرب يدرك مدى حجم الإعاقات الناجمة بين أفراد المجتمع الغربي بسبب ما آلت إليه تطورات الحضارة السريعة وانعكاساتها، وهو يطرح العلاجات التي يجد أنها ملائمة مثل مساعدة المرء على القيام بمواجهات ناضجة لمشكلات الحياة وصعوبتها، مما يعني تأهيل أفراد المجتمع ليكون النجاح نصير ممارساتهم، والثقة بالذات دافعهم لما يمارسون، ويضيف الإمام الشيرازي إزاء ذلك بقوله:

المصلح يحتاج قبل كل شيء إلى صدر رحب، وإرادة قوية، وعزيمة صخرية، وذكاء ثاقب، وصدق لهجة، وحلم واسع، وعدم اليأس، ويضيف: إن نظام اليوم مدين لكل مصلح مهما اختلف مذهبه، وحيثما كانت نشأته، وأينما دعى(33) ، ويضيف بقوله: لذلك فإن نجاة الغرب بحاجة إلى المواظبة والنزاهة الكاملة(34).

الهوامش:

(1) الإمام محمد الحسيني الشيرازي، مقالات، مؤسسة المجتبى، بيروت (2000م) ص15.

(2) الإمام محمد الحسيني الشيرازي، الغرب يتغير، كتاب منشور على صفحات الانترنيت (2001م) ص5.

(3) الإمام الشيرازي، الغرب يتغير، ص5.

(4) الإمام الشيرازي، كيف يمكن نجاة الغرب، مركز الرسول الأعظم (ص) ، بيروت (1999م)، ص21.

(5) المصدر السابق ص22.

(6) الإمام الشيرازي، فقه الاجتماع ج1، دار العلوم، بيروت (1992م)، ص202 - 203.

(7) الإمام الشيرازي، الغرب يتغير، ص5.

(8) الإمام الشيرازي، لماذا يحاربون القرآن، مركز الرسول الأعظم (ص) ، بيروت (1998م) ص21.

(9) الإمام الشيرازي، المسلمون يتضررون، مؤسسة المجتبى للتحقيق، بيروت (1999م) ص30.

(10) إياد موسى محمود، دراسات في فكر الإمام الشيرازي، لجنة خدام المهدي(عج)، الكويت (1999م) ص75.

(11) الإمام الشيرازي، فقه القانون، مركز الرسول الأعظم (ص)، بيروت (1998م) ص333.

(12) الإمام الشيرازي، لماذا يحاربون القرآن، مركز الرسول الأعظم (ص)، بيروت (1998م) ص11.

(13) الإمام الشيرازي، فقه الإدارة ج1 ط2، دار العلوم، بيروت (1998م) ص97.

(14) نفس المصدر، ص27.

(15) الإمام الشيرازي، رؤى عن نهضة الإمام الحسين (ع)، مركز الرسول الأعظم (ص)، بيروت (1999م) ص32.

(16) الإمام محمد الحسيني الشيرازي، الغرب يتغير، مصدر سابق، (2001م) ص1.

(17) الإمام الشيرازي، الغرب يتغير، ص18.

(18) الإمام الشيرازي، الغرب يتغير، ص21.

(19) الإمام الشيرازي، الشباب، مركز الرسول الأعظم (ص)، بيروت (1999م)، ص105.

(20) الإمام الشيرازي، إلى أبنائنا في البلاد الأجنبية، مؤسسة الوفاء، بيروت (1984م)، ص17.

(21) الإمام الشيرازي، الغرب يتغير ص18.

(22) المصدر السابق ص19.

(23) كيف يمكن نجاة الغرب،الإمام محمد الحسيني الشيرازي، مصدر سابق ص30.

(24) فقه الاجتماع، مصدر سابق ص203.

(25) كيف يمكن نجاة الغرب، مصدر سابق ص33.

(26) هل هناك علاقة بين أفلام العنف والسلوك العدواني المتعلم، محمد حمدي الحجاز، الثقافة النفسية: العدد (38) شباط/1999م.

(27) الطفل في ظل الأسرة الكحولية (رؤية نفسية - علاجية)، محمد قاسم عبد الله (و) وليد أحمد المصري، الثقافة النفسية: العدد 38 كانون الثاني/ 1999م.

(28) المرأة في ظل الإسلام، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مؤسسة المجتبى، بيروت/ 2001م، ص11.

(29) كيف يمكن نجاة الغرب، الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قده)، مركز الرسول الأعظم(ص)، بيروت/1999م، ص13.

(30) الجمعية العالمية للطب النفسي (إعلان مدريد)، الثقافة النفسية: العدد 37 المجلد العاشر، كانون الثاني/1999م.

(31) كيف يمكن نجاة الغرب، مصدر سابق، ص37.

(32) مقالات، مصدر سابق ص88.

(33) مقالات، مصدر سابق ص16.

(34) كيف يمكن نجاة الغرب، مصدر سابق ص46.