العراق في حياة الإمام محمد الشيرازي

موسى جعفر محمد

مدخل:

لا يمكن اعتبار تاريخ كل الشعوب والأمم والبلدان، تاريخاً يعتد به، أو حتى أن يحسب من عمر تلك الشعوب، فهناك فترات من ذلك التاريخ قد تطول أو تقصر، يكاد يتوقف فيها الزمن، حيث تتوقف عجلاته عن الحركة إلى الأمام رغم دورانها. تلك الفترات يمكن أن نسميها مراحل ضمور التاريخ وانكفائه، بل وحتى تراجعه القهقري نحو الوراء بدلاً من التقدم إلى الأمام.

ذلك هو ما حصل بالضبط لشعب العراق، حيث أنه مرّ ومنذ سقوط العاصمة العباسية بغداد على أيدي جنود القائد المغولي هولاكو عام 1258م هذا إذا اعتبرنا ذلك الحدث هو بداية دخول العراق في عصر ما أسميناه بـ (ضمور التاريخ)، حيث ساد الجهل والتخلف والظلام، ولم يتوقف العمران فقط، بل خربت المدن التي كانت قائمة وقتذاك، كبغداد وواسط والكوفة والبصرة وغيرها، وعادت القيم الجاهلية والروح القبلية إلى الظهور مجدداً في بغداد، وصارت القبيلة والعشيرة هي المرجع والملجأ بعد سقوط الدولة العباسية.

وهكذا غدت أرض العراق مغنماً سهلاً لكل الغزاة والطامعين من المغول وحتى العثمانيين، مروراً بالسلاجقة وباقي قبائل الترك والفرس الصفويين.

صحيح أن العراقيين الذين كانوا ممثلين باتحادات القبائل التي أخذت تتشكل بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي، كاتحاد الخزاعل واتحاد قبائل المنتفك واتحاد قبائل بني لام وربيعة وزبيد، ومن ثم شمر وعنزة والعزة والعبيد، قد قاوموا المحتلين، ولم يكونوا ليرضخوا لهم أو يرضوا بالخضوع أو الاستكانة إليهم، إلا أنهم ما استطاعوا أن يحققوا نصراً كبيراً على المحتلين، ولم يتمكنوا من تحرير العراق وفرض سلطة وطنية فيه، حيث كانت تلك المقاومة يعوزها عنصران رئيسيان همها التنظيم والقيادة، وكما يقول علماء الثورة المعاصرين، إن انتصار أية ثورة يعتمد على توفر عاملين، هما الشروط الموضوعية، أي تهيؤ الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونضجها، إلى حد الانفجار، والعوامل الذاتية، أي توفر العنصر البشري الذي يشعل الفتيل، ومن ثم - وهو الأهم - يقود جموع الناس الثائرة لتحقيق المطالب التي ثاروا من أجلها.

يؤكد علماء السياسة والاجتماع والتاريخ كافة على الأهمية الكبيرة والحاسمة لدور الفرد في صنع أحداث التاريخ، ليس لشعوبهم وبلدانهم فقط، بل وللعالم كله أيضاً. ويحدثنا تاريخ البشرية عن أسماء أولئك الأشخاص الذين يكونون معدودين، والذين يظهرون كومضة نور في حياة الأمم، تنير للآخرين دروب الحياة الحرة الكريمة وترشدهم إلى مسالك العزة والمجد وتقودهم إلى حيث رضا الله ورضا النفس.

مع السنوات الأولى من القرن العشرين المنصرم، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م وبعد أن أعلنت الدولة العثمانية التي كانت تحتل العراق التحالف مع ألمانيا وأعلنت الحرب ضد دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) لم تدر أنها بذلك قد قدمت المبرر والحجة التي كان ينتظرها البريطانيون، وهيئت لهم الفرصة التي كانوا يعدّون لها منذ سنين عديدة لاحتلال العراق البلد الذي طالما حلموا بالسيطرة عليه، لثرواته العديدة ولأهمية موقعه الجغرافي الاستراتيجي، ولم تكن الأحزاب والحركات السياسية قد ظهرت بعد في العراق، ولم تكن هناك قيادات سياسية وطنية غير علماء الدين الأعلام ومراجع المسلمين في كربلاء والنجف، الذين أعلنوا (الجهاد) ضد الغزاة الإنكليز، رغم كل ما لقوه وما كانوا يلاقونه من ظلم واضطهاد وتمييز من قبل ولاة الدولة العثمانية.

وبسبب عدم توازن القوة بين الجيوش الغازية وقوات المجاهدين التي ذهبت للقتال مع القوات العثمانية التي كان قد استشرى الضعف والفساد والانحلال وروح الهزيمة في صفوفها، فقد استطاع البريطانيون هزيمة القوات العثمانية ودحرها واحتلال العراق الذي تم في عام 1918م، بعد أن تمكنت قواتها بقيادة الجنرال مود من احتلال بغداد في عام 1917.

لقد وقف الجنرال الإنكليزي خطيباً في بغداد حث قال: (إننا جئنا محررين لا فاتحين). ولكن أحداً من العراقيين لم يصدق هذا القائد المحتل، وقد أثبتت الأحداث والوقائع اللاحقة صدق هذا الحدس العراقي، حيث أخذت قوات الاحتلال تنهب ثروات الناس وممتلكاتهم، وبدأت تسيء إلى معتقداتهم ومقدساتهم، ومع اشتداد جور وظلم قوات المحتلين، زاد سخط الناس وغضبهم فكان أن اندلعت ثورة النجف في عام 1918م بقيادة علماء الدين والسادة المجاهدين.

لقد ظل العراق ومنذ قرون عديدة وهو يبحث عن القائد الذي يجمع بين يديه القيادة الدينية الروحية والقيادة السياسية الثورية.

صحيح أن الأحداث الكبيرة التي جرت في بداية القرن العشرين، وشهدها العالم أجمع وبالخصوص أوربا وآسيا، وبالذات خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، والتي أدت إلى تغييرات دراماتيكية في كثير من مناطق العالم وبلدانه، قد أثرت بشكل كبير على مجريات الأحداث في الساحة العربية عموماً، والعراقية منها على وجه الخصوص، إلا أن ما ميّز الساحة العراقية عن غيرها من الساحات العربية وبالذات تلك الواقعة في مشرق الوطن العربي، هو أن معظم قادة تلك البلدان قد انخدعوا بدعاوى البريطانيين والعهود التي أطلقوها قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى وحتى بعدها.

نعم لقد انخدع كلهم، باستثناء القيادة المرجعية الدينية في العراق التي سبق وأن أفتت بالجهاد ضد الإنكليز في الوقت الذي كان الكثير من العرب يقاتلون في صفوفهم أو حتى يتحالفون معهم في الحجاز والشام. وقد أثبتت الأيام والسنين اللاحقة التي مرت بعد ذلك صدق وصحة موقف العلماء المجاهدين في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء.

ونعود فنقول أن الشروط الذاتية للثورة ضد الإنكليز في عام 1920 قد اكتملت بتوفر عنصر القيادة التي بحث عنها العراقيون سنين طويلة، كانت تلك القيادة هي التي تحققت بشخصية اجتمعت فيها الخصال والمواصفات التي كانت لأهل بيت النبوة وأئمة الهدى وفرسان الخلاص البشري، وتلك هي شخصية الإمام آية الله المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي، فقد فكر المخلصون بإلقاء زمام القضية من ناحيتها الدينية إلى أحد كبار العلماء المجتهدين الذي لا يقل من حيث السمعة وانقياد الناس إليه عن السيد اليزدي، إن لم يكن أوسع سمعة وأكثر جماهيرية، وهو آية الله المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي، وقد كان رضوان الله عليه يومذاك يسكن مدينة سامراء.

وهكذا اجتمع رأي المخلصين على هذا، وعلى إعطاء الزعامة الروحية إلى الشيرازي تلك الزعامة (التي لا يليق لها سواه ولا تليق هي لغيره)(1).

نعم فلقد كان الإمام الشيرازي الكبير القائد الروحي والوطني الذي طالما انتظره العراقيون عبر الحقب المظلمة من تاريخهم الطويل، كان هو ومضة النور التي أضاءت الأمل في النفوس اليائسة، وكان هو الشعلة الوهاجة التي أنارت ليل العراقيين الدامس، وكان هو جذوة الثورة التي أشعلت لهيبها عرش الطاووس البريطاني، وأظهره على حقيقته العارية.

الخطوة الأولى للثورة

وكانت الخطوة الأولى للثورة هي الفتوى التي أصدرها (رحمه الله) بعدم جواز انتخاب غير المسلمين للإمارة والسلطنة على المسلمين، وذلك بعد وصوله إلى كربلاء قادماً من سامراء، والجماهير على أتم استعداد لخوض غمار حرب الحرية والاستقلال، فتقدم الروحانيون إلى مقامه بهذا الاستفتاء الذي كان أول خطوة خطاها المخلصون إلى ساحة الجهاد(2).

فتوى آية الله الشيرازي

ما يقول شيخنا وملاذنا حجة الإسلام والمسلمين آية الله في العالمين الشيخ ميرزا محمد تقي الحائري الشيرازي متع الله المسلمين بطول بقائه في تكليفنا معاشر المسلمين بعد أن منحتنا الدولة البريطانية العظمى الحق في انتخاب أمير لنا نستظل بظله ونعيش تحت رايته ولوائه، فهل يجوز لنا انتخاب غير المسلمين للإمارة والسلطنة علينا؟ أم يجب علينا اختيار المسلم؟ بينوا تؤجروا.

فكان جوابه رضوان الله عليه على السؤال كما يلي(3):

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين.

الأحقر

محمد تقي الحائري الشيرازي

20 ربيع الثاني، سنة 1337هـ

بعد ذلك وإثر فشل كل الجهود التي بذلت من أجل استحصال الحقوق العراقية بصورة سلمية، وأصرت بريطانيا الاستعمارية على موقفها الرافض لإعطاء العراقيين الحرية في تأسيس دولتهم المستقلة، فقد قام قائد الثورة وزعيمها الروحي آية الله الشيرازي (رض) بتأسيس مجلس من كبار العلماء العاملين للمشورة(4)، وهم الشيخ مهدي الخالصي، والسيد أبو القاسم الكاشاني، والسيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني، وميرزا أحمد الخراساني، والشيخ محمد رضا الشيرازي.

ثم قام الشيرازي القائد الكبير بكتابة كتاب إلى العشائر الفراتية، لأجل تطمين الناس بأن رجال الدين لهم رأي في الموضوع وموافقة على الثورة والجهاد(5). وأرسله إلى النجف الأشرف بيد ولده الأكبر السيد محمد رضا. وسلم الرسالة إلى الشيخ رحوم الظالمي الذي بعد أن قبّلها قال: (الحمد لله وله الشكر الذي جعلني ممن يتمكن أن يقوم بما فيه الصالح العام، وشكراً لله وألف شكر، وها أنا ألبي طلب نائب الإمام (ع))(6).

كما أرسل السيد أبا القاسم الكاشاني إلى الكاظمية في بغداد، فكان الأخير (رحمه الله) يقوم بكتابة المنشورات التي كانت تحضّ وتدعو إلى الثورة على المحتلين(7).

كما كتب إلى كل الزعماء الوطنيين الآخرين وأيضاً إلى الملوك الهاشميين يدعوهم فيها إلى وحدة الكلمة والصفوف لمقارعة المستعمرين الإنكليز والحصول على كافة الحقوق. ومن الزعماء الوطنيين الذين كان يكتب لهم هو محمد جعفر أبو التمن(8).

ثم أصدر سماحته (رض) الفتوى الشريفة الخالدة التي أمر فيها الزعماء ورؤساء القبائل بالثورة، وقد جعلت من الواجب على كل مسلم مقاتلة الإنكليز دفاعاً عن كرامته وكرامة بلاده، وهذا نصها(9):

فتوى الثورة

مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم.

الأحقر

محمد تقي الحائري الشيرازي

كانت هذه الفتوى بمثابة البيان الأول للثورة من قائدها وزعيمها، والتي كانت الفتيل الذي أشعل أوراها، فانتشرت نيران الثورة في كل أرض العراق العربي القديم. لا نريد هنا الخوض في تفاصيل المعارك البطولية التي خاضها الثوار مع الجيش البريطاني الذي كان يعتبر أقوى الجيوش في العالم وقتذاك، وخاصة بعد أن خرجت بريطانيا منتصرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عن أراضيها.

لقد قاتل ثوار العشرين بأسلحتهم البدائية القليلة البسيطة، جيش المحتلين الغزاة قتالاً بطولياً قل نظيره، أعاد إلى أذهاننا قتال العرب العراقيين في معركة ذي قار وجيش الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وأيضاً معارك المسلمين الأولى في صدر الإسلام، حيث كان المسلمون قليلي العدد والعدة، ولكنهم كانوا شجعاناً أباة، لا يهابون الموت ولا يخافون المنية، رجالاً آمنوا بربهم وبرسالة نبيهم (ص) العظيمة، وبحرية واستقلال وكرامة وطنهم.

لقد كانت شخصية الإمام آية الله محمد تقي الشيرازي الكبير هي الشرط الذاتي الذي اكتملت به عناصر الثورة الكبرى، فلقد كان الرجل الذي أسس للمرجعية الدينية الوطنية الثورية في العراق؛ وبذلك ما عادت المرجعية مقتصرة على القضايا والشؤون الروحية الدينية فقط، بل منذ ذلك الحين صارت المرجعية تمثل القيادة السياسية الوطنية المشغولة بهمّ حرية الوطن واستقلاله، وكرامته وكرامة وسعادة أبنائه أيضاً.

وهكذا فقد صنعت ثورة العشرين العظيمة بقيادة الشيرازي الكبير (رض) تاريخ العراق المعاصر كله.

المدرسة الشيرازية.. مدرسة العلم والشهادة والثورة

في خاتمة كتابها الرائع (جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول) تقول الدكتورة سميرة الليثي:

إن من عوامل استمرار حركات الشيعة عبر التاريخ وخاصة في العصر العباسي هو حب المسلمين لآل بيت النبوة، ليس لقرابتهم الخصيصة من رسول الله (ص) فقط، بل لأن علياً أصبح في نظر المسلمين كافة (مصدراً للعلم والأدب). وقد انحسر العلم عن بيوت كثير من أولاد الصحابة، فهي تقول(10):

(ومن هذه العوامل أيضاً، حب المسلمين لآل البيت بصفة عامة، وللبيت العلوي منهم بصفة خاصة. فقد أصبح بيت علي، في نظر كافة المسلمين، مصدراً للعلم والأدب. وقد انحسر العلم عن بيوت كثيرة من أبناء الصحابة، وأتبعوا الدنيا، أما البيت العلوي، فلم يكن فيه منحدر لينحسر منه العلم أو يغيض، وأصبح البيت العلوي في العصر العباسي الأول، أكبر مصادر النور والعرفان... وأنصرف آل البيت إلى العلم النبوي، يتدارسونه وفيهم ذكاء آبائهم، وهداية جدهم، والشرف الهاشمي، وتوارثوا ذلك الاتجاه العلمي، فورثوا الإمامة فيه.

وفي مكان آخر من نفس الصفحة تقول الدكتورة الليثي، (ومن عوامل استمرار حركات الشيعة أيضاً، فتح باب الاجتهاد)(11).

هذه الحقائق التي سطرتها الدكتورة سميرة الليثي في كتابها، هي واحدة من شهادات عديدة وكثيرة، كتبها كتاب أمناء وباحثون شرفاء ملأت صفحات المجلدات والأبحاث والدراسات.

ومرت السنون والأحقاب والقرون وهذه المدرسة الثلاثية الأركان (العلم والثورة والشهادة)، راسخة البنيان لم تزل تقدم العلماء الأعلام والثوار الشجعان والشهداء الأبرار.

وجاء القرن العشرين، القرن الذي شهد أحداثاً جساماً لم تشهد البشرية لها مثيلاً طيلة عمرها الطويل فقد شهد القرن المنقضي نهضة الأمم والشعوب، بعد رقاد طويل أمتد لعشرات السنين، ومن تلك الشعوب الشعب العراقي فكان لمدرسة أهل بيت النبوة عامة والبيت العلوي خاصة أن تأخذ دورها الذي اضطلعت به منذ تأسيسها على يد صاحب الرسالة (ص) وباب مدينة علمه، وحامل رايته وقائد جيوشه الإمام علي(ع).

فكان الإمام آية الله محمد تقي الشيرازي (رض) هو المدرسة، الذي وجدت فيه جموع المسلمين الرجل المناسب في الزمن المناسب، فبايعته قائداً ومعلماً ومرشداً.

وثم كانت المدرسة الشيرازية التي أسسها الإمام الثائر مرجع الإسلام والمسلمين استمراراً لمدرسة أهل البيت وتجسيداً حياً لها، وتحقيقاً لأركانها الثلاثة: العلم، والثورة، والشهادة في عصرنا الحالي،. فكما هرول المسلمون الثائرون نحو الإمام علي (ع) واختاروه إماماً وقائداً ومعلماً، في أشد الأوقات محنة وأكثرها خطورة، كذلك هرول العراقيون الثائرون إلى الإمام الشيرازي الكبير، في أشد الأوقات محنة وأكثرها خطورة، فبايعوه إماما وقائداً ومعلماً، كما فعلوا مع جده تماماً.

بعد رحيل الإمام والقائد الشيرازي الكبير، استمرت هذه المدرسة في عطائها، وفي ترسيخ قواعدها، وتعزيز أركانها، ليس طلباً لجاه أو رغبة في زعامة، بل تأدية لواجب شرعي ورثته كابر عن كابر، فجاء السيد مهدي نجل آية الله الشيرازي الكبير ليكمل الطريق الذي ابتدأه القائد الوطني العظيم، رغم معرفته بوعورة مسالكه، وصعوبة شعابه، فكان علماً من أعلام الهدى والعلم والوطنية. وبعد أن أدى الأمانة على أعظم ما يكون عليه أداؤها، وكما عرف بها آل محمد وأبناء علي(ع) سلم الراية، وأعطى الوديعة إلى أبنائه الكرام البررة.

فكرة وجهاد وشهادة

ولد الشهيد آية الله السيد حسن بن الميرزا مهدي في مدينة النجف الأشرف في العراق عام (1254) للهجرة. ونشأ وترعرع في أحضان بيت العلم والجهاد والثورة، وتربى على يد وفي ظل والده المجاهد الذي عاش أيام الجهاد وثورة العشرين المجيدة التي كان يقودها الإمام الشيرازي الكبير(12).

وتتلمذ على أيدي كبار الفقهاء والعلماء مثل آية الله العظمى السيد الميلاني وآية الله العظمى الشيخ محمد رضا الاصفهاني وعلى يد والده (قده) آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي وأخيه الأكبر آية الله العظمى فقيد الأمة الإسلامية الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي (رض). حتى بلغ المرحلة العالية في الفقه والأصول ونال درجة الاجتهاد والاستنباط للأحكام الشرعية(13).

ولم يكتف بدراسة العلوم الإلهية الشرعية بل أنه اجتهد في مجالات أخرى من المعارف والعلوم الإنسانية، كالأدب والشعر والبلاغة، وقد نبغ فيها جميعها.

جهاده:

لكونه كان واحداً من بيت بايعه مجاهدو العراق قائداً لهم، فقد ولد الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي (رض) وهو يحمل روح الجهاد والثورة، فكانت تلك القيم ينبض بها قلبه منذ طفولته، وتسري في عروقه مع دمائه الطاهرة، التي سالت على درب الشهادة في سبيل حرية العراق وكرامة أبنائه.

لقد نشأ في بيت يتنفس أهله هواء الثورة وعبق الجهاد فكبر، وقد كبرت معه هذه المبادئ والقيم، فما أن بلغ سن الشباب حتى بدأ مشوار جهاده الطويل، وهو لما يبلغ العشرين من عمره فقد اقتحم غمار النضال الوطني بكل صفات العلوي المجاهد، من جرأة وشجاعة وصدق ومبدأ، لا يعرف المساومة والمهادنة أو المداهنة، وكانت بداية ذلك المشوار في تصديه للنظام الملكي البائد العميل للاستعمار البريطاني، ولرموزه كنوري السعيد الذي شغل منصب رئيس الوزراء والحاكم الفعلي للعراق طيلة فترة حكم ذلك النظام وكذلك إلى (بهجت العطية)، رمز ظلم ذلك النظام وبطشه وقسوته والذي كان يشغل وظيفة مدير الأمن العام.

وقد استخدم في تصديه الشجاع ذلك مختلف الوسائل والطرق ومنها أسلوب التنبيه والحث، فقد كان يقوم بزيارة ومقابلة الشخصيات السياسية، والرسمية، ويضعهم أمام مسؤولياتهم في القضايا العامة والخاصة، ويحذرهم من التواني والتباطؤ في تنفيذ ما تقتضيه المصلحة العامة(14).

وكان رضوان الله عليه يدعوهم للاهتمام بالعتبات المقدسة والقضايا الإسلامية بصورة عامة، والتي كانت تعاني من الإهمال وعدم الاكتراث(15).

وقد ضاق المسؤولون في بغداد ذرعاً من إلحاح السيد الشهيد وإصراره على المطالب التي كان يتقدم بها، ومتابعته إياها، ورفضه التنازل عنها، أو التخفيف منها.

موقفه من حلف بغداد

لقد كان المجاهد الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي موجوداً في كل معارك الشعب العراقي الوطنية يتقدم المناضلين المدافعين عن حق العراقيين في العيش في وطن متحرر من قيود المستعمرين، ومنقطع من كل رابطة تحد حريته، وتنقص من استقلاله الوطني ولذلك فما أن أعلن عن قيام حلف المعاهدة المركزية الذي سمي باسم مدينة بغداد، للأهميتة التي يمثلها العراق بالنسبة للاستراتيجية الغربية في هذه المنطقة الحيوية والهامة من العالم، إلا وانبرى السيد الشهيد (قده) مندداً بعقد ذلك الحلف الاستعماري المشبوه، مستخدماً في ذلك كافة الوسائل التي كانت متاحة في وقتها، وفي مقدمتها الصحافة والإعلام، فقد كرس افتتاحية مجلة (الأخلاق والأدب)(16) التي رأس تحريرها ولأشهر عديدة، للتنديد بالحلف المذكور ومهاجمته وفضح نواياه وأهدافه العدوانية الاستعمارية البغيضة.

كما دعا سماحته في تلك المقالات أبناء الشعب العراقي بكافة قومياته وطوائفه إلى مقاومة الحلف الرجعي – الاستعماري والى التصدي إلى الحكومات العميلة التي وقعت عليه، وفي مقدمتها حكومة النظام الملكي في العراق، التي يرأسها نوري السعيد وفاضل الجمالي، كما هاجم حكومة شاه إيران، وفضح النظام البهلوي الحاكم في إيران وقتها، وعرى ارتباطاته مع المستعمرين الأجانب(17)، ومنذ حكم رضا بهلوي الأب، مما أثار عليه غضب وسخط وحنق الشاه المقبور محمد رضا بهلوي شخصياً، الذي أوعز إلى سفيره في بغداد وقتها، بالطلب من الحكومة الملكية العراقية مسائلة ومعاقبة السيد الشهيد على مقالاته تلك وفعلاً قام حينها السفير بالتحرك ضد الشهيد الخالد (رض) ولولا تدخل سماحة السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قده)(18)، وقوة نفوذه الشخصي باعتباره مرجعاً دينياً كبيراً أذّاك، لكان قد أدى إلى سجن السيد الشهيد – بل ربما أكثر من ذلك(19).

كان الشهيد (قده) على يقين تام وإدراك أكيد، بأنه قد اختار الطريق الأصعب والدرب الأوعر في الحياة، ولكنه كان غير آبه لكل ما قد يتعرض له، وكل ما قد يلاقيه جراء اختياره ذاك.

وعود علي بدء، فقد استمر السيد الشهيد (رض) بكتابة المقالات الافتتاحية، التي كانت تحرض الجماهير العراقية، وتعبئها للنضال من أجل الوقوف بوجه الحكومات الظالمة والعميلة للاستعمار فكانت تلك المقالات أشبه بالصاعقة التي كانت تقض مضاجع حكام بغداد العملاء(20). مما جعل أولئك الحكام يقومون باتخاذ قرار اعتقال السيد الشهيد مع أخيه الفقيد الكبير مرجع الإسلام والمسلمين آية الله العظمى والحجة الكبرى السيد محمد الشيرازي (رض) وكل أعضاء هيئة التحرير والكتاب العاملين في مجلة (الأخلاق والأداب)، وفعلاً صدر القرار بذلك من قبل المجرم بهجت العطية، مدير الأمن العام يومذاك(21)غير أن مشيئة الله سبحانه وتعالى حالت دون تنفيذ ذلك القرار الجائر، وذلك لقيام انقلاب 14 تموز قبل أن يأخذ طريقه للتنفيذ.

مواصلة السير على النهج الحسيني

ما أن تكشفت حقيقة الانقلاب الذي وقع بالعراق في 8 شباط 1963م، ووضحت علاقته بالمخابرات البريطانية والأميركية، بشكل جلي لا لبس ولا غموض فيه وقف السيد الشهيد (رحمه الله) وإصراراً منه على مواصلة الخط الجهادي – الحسيني الذي اختاره لحياته الشريفة، وبشكل لا رجعة فيه، بل لا تواني عنه، ولو لفترة يريح نفسه التي اتعبتها أيام النضال، فقد أخذ وبما عرف عنه من جرأة ثورية في قول الحق، أخذ يعمل على فضح الانقلاب والانقلابيين، وبكل الوسائل والطرق التي كانت متاحة له، ومنها إلقاء الكلمات والخطب والقصائد، ضد عناصر الانقلاب المشؤوم والتي كشفت أوراقهم وأزاحت الستار عن عمالتهم وخيانتهم، مما أثار ثائرة الانقلابيين عليه، فخططوا لسجنه أو اغتياله، ولكنه علم بمخططهم الإجرامي الدنيء فهاجر إلى لبنان، وكانت تلك هجرته الأولى في عام 1964م(22)، حيث استقر هناك، وأسس (دار الصادق) لطباعة ونشر وتوزيع الكتب الإسلامية(23).

وبعد سقوط الانقلابيين على يد عبد السلام عارف عاد إلى الوطن الذي كرس حياته من أجل حريته وكرامة شعبه، عاد السيد الشهيد (رض) إلى العراق، ليواصل جهاده البطولي، وكفاحه الرجولي فوقف مرة أخرى يفضح سياسات عبد السلام عارف، ويكشف للجماهير كذبه وخداعه(24). ومن بعده أيضاً أخوه عبد الرحمن عارف.

الثبات على المبدأ حتى الشهادة

كانت الحالة في العراق في نهاية 1967م قد بلغت من السوء والتردي في كافة مجالات الحياة، السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية، إلى درجة بدأت الجماهير العراقية المؤمنة بحقها في الحياة الحرة الكريمة، بالغليان، فانبرت القيادات السياسية الوطنية، وكان من ضمنها بل وفي مقدمتها السيد المجاهد الشهيد (رض)، للتصدي للطغمة الطاغية.

وأخذت تعمل على تحريض الجماهير وتعبئتها وإعدادها للثورة، وإقامة السلطة الوطنية الحقيقة، التي ثار وضحى من أجلها ثوار العشرين الأبطال، ولكنهم لأسباب كثيرة وعديدة لم يستطيعوا بلوغ هدفهم ذاك، ففرضت عليهم بريطانيا حكومة، قائمة على أساس طائفي مقيت، رغم تغير الحكومات وتبدل الأنظمة منذ سنة 1921م وهي سنة تشكيل الدولة العراقية الحديثة، وحتى اليوم لم يجر تغيير ذلك الأساس، ولا تلك المبادئ!؟.

فأحست المخابرات الأجنبية وخاصة البريطانية والأميركية والصهيونية بذلك، فأخذت نواقيس الخطر تدق في لندن وواشنطن وتل أبيب وحتى في عواصم بعض البلدان العربية التي كانت مرتعاً للجواسيس الدوليين، فتم الإعداد بسرعة لانقلاب عسكري يقوم به ضباط القصر الجمهوري نفسه، وبالاشتراك مع تنظيم الحزب الحاكم حالياً الذي كان لا يمثل إلا قلة من المنبوذين اجتماعياً وسياسياً.

منذ اللحظات الأولى للانقلاب الأسود في 17 تموز 1968، وقف السيد الشهيد (رض) بوجهه، كاشفاً عن حقيقته، معرياً ادعاءاته، كما وعمل على إيجاد صيغة حاسمة للاطاحة بالعصابة الانقلابية، وقد قام لأجل ذلك بإجراء العديد من الاتصالات مع الكثير من الشخصيات الدينية(25).

وقد أدرك الحكام عند عودتهم للحكم مرة ثانية في عام 1968 بأن السيد الشهيد الكبير يشكل خطراً كبيراً على نظامهم الفاشي وعائقاً صلباً أمام تنفيذ خططهم الإجرامية في تنفيذ خطط المستعمرين من أجل السيطرة والتحكم بالعراق لنهب ثرواته وخيراته واستعباد واسترقاق أبنائه.

فما كان منهم إلا أن أصدروا أمراً باعتقاله مع مجموعة من العلماء المجاهدين والخطباء الحسينين، وأودع السجن حيث تعرض (رض) لشتى أنواع التعذيب الجسدي والترهيب النفسي وحكم عليه بالإعدام ولمرات عديدة(26). غير أن كل تلك الوسائل والأساليب الفاشية لم تكن لتضعف صمود السيد الشهيد (رض) أمام الجلادين، ولا لتوهن من صلابته، أو توهن من عزيمته على مواصلة الكفاح والجهاد الذي مارسه وهو لما يزل في ريعان الشباب. وقد أدى التعذيب الشديد في معتقل قصر النهاية الذي تعرض له الشهيد الخالد، إلى أن يضطر الجلادون الأوغاد إلى نقله إلى المستشفى لتلقي العلاج، ثم نقله إلى سجن بعقوبة.

وبعد خروجه من المعتقل هاجر إلى عام 1390هـ، ودخل المستشفى – فور وصوله – لمعالجة الآلام والآثار التي تركها التعذيب الوحشي الذي تعرض له (27).

الشهادة

ما أن تماثل سماحة السيد الشهيد العظيم (رض) للشفاء من آثار التعذيب الجسدي والترهيب النفسي اللذين حتى عاد ليواصل السير على الطريق الذي سار عليه أجداده ومعلموه الأوائل، طريق العمل والجهاد والثورة في سبيل إقامة دولة العدل والمساواة التي بشر النبي الأعظم (ص) الناس بها وبلّغها القرآن المجيد.

لقد واصل السيد العالم والمجاهد، طريقه الصعب، بكل ما عرف عن أبناء المدرسة الشيرازية من ثبات على المبادئ، وشجاعة في المواقف، وصلابة عند الشدائد، وعزيمة رغم التعب والعناء ولم يقتصر عمله على العمل الجهادي فقط، بل أنه عمل وسعى من أجل وحدة المسلمين بكافة مذاهبهم ومختلف طوائفهم، ومن أجل ذلك سافر إلى العديد من البلدان العربية والأفريقية كمصر والكويت والبحرين وساحل العاج، وحتى في باريس زار العديد من المؤسسات الدينية الإسلامية والتقى بالعديد من الشخصيات الإسلامية، من أجل توحيد كلمة المسلمين ولم شملهم وجمع صفوفهم. كما عمل على نشر علم التوحيد، كما علمته مدرسة أهل البيت فبذل الجهود المضنية، وقام بالمساعي العظيمة والكبيرة من أجل إنشاء حوزة علمية في مدينة دمشق عاصمة سوريا الحبيبة لأهمية هذه المدينة الكبيرة وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في الشرق الأوسط(28). فكانت (الحوزة الزينبية) التي صارت ولا زالت صرحاً علمياً كبيراً، حيث يتلقى فيها العلوم الشرعية طلاب من العراق وأفغانستان والهند والباكستان، وأفريقيا(29).

كما قام بتأسيس العديد من المساجد في العديد من المدن السورية كاللاذقية وحمص وصافيتا والقرداحة. وتعتبر هذه المساجد اليوم من المراكز الدينية الهامة هناك. وكذلك قام بتأسيس حوزة علمية ثانية وكانت بيروت هذه المرة مكانا لها، فقد أسس مدرسة الإمام المهدي (عج) في عام 1391هـ كنواة لتلك الحوزة (30)، وقام أيضاً بتأسيس دار (الإمام الصادق (ع)).

وأسس كذلك مكتب (جماعة العلماء) ومجلة الإيمان(31) التي صارت منبراً ثقافياً وسياسياً يعمل على ترسيخ الرؤية الدينية في أذهان الشباب وبث الفكر الإسلامي في أسلوب حديث وجميل. وقد واكبت مجلة (الإيمان) المشاكل السياسية على الساحة اللبنانية(32) وما يتعرض له الجنوب اللبناني من عدوان صهيوني.

وكذلك اهتمت هذه المجلة بالقضية الفلسطينية، وما عاناه ويعانيه الشعب الفلسطيني من تقتيل وتشريد على أيدي العصابات الصهيونية المحتلة والمستعمرة لأرضه.

وهكذا فكما بدأت بالعمل النضالي من أجل العراق انتهت حياة هذا السيد العلوي – الحسيني بالشهادة وبهذا يكون آية الله السيد الشهيد حسن الشيرازي، قد جسد الأركان الثلاثة التي قامت عليها المدرسة الشيرازية وهي العلم والثورة والشهادة، لأنها كانت وبحق استمرار مدرسة أهل البيت التي عرفت وتميزت بتلك الأركان.

آية الله العظمى السيد الشيرازي (رض) والهم الأكبر (العراق)

من العترة الطاهرة خاتم الأنبياء (ص) وفي واحد من بيوتهم الشريفة التي ورثت الصفات (الأركان) التي تميزت بها في كل تاريخها الدامي الطويل العلم والثورة والشهادة، من أسرة علوية، حسينية، تعود في نسبها إلى قائد (بدر الصغرى الإمام العالم، الناسك، الثائر زيد بن علي بن الحسين(33)، صاحب القول الذي لا زال صداه تردده الأيام والسنين، على أفواه كل ثائر من أجل الحرية والمساواة (ما خاف قوم حر السيوف إلا ذلوا).

ولد السيد محمد الحسيني الشيرازي في مدينة النجف الأشرف عام 1347هـ (34) ونشأ وترعرع في هذه الأسرة التي أنجبت العديد من العلماء الأعلام والمجاهدين الكبار، من أمثال(35):

1- آية الله العظمى الميرزا حسن الشيرازي، المعروف بالمجدد، قائد ثورة (التنباك) في إيران.

2- آية الله العظمى الميرزا محمد علي الشيرازي (قده) وهو الأخ الأكبر للميرزا محمد تقي قائد ثورة العشرين.

3- آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي.. قائد العراقيين في ثورة العشرين المجيدة.

4- آية الله العظمى الميرزا مهدي (والد الإمام الشيرازي) والذي أخذت مرجعيته بالتوسع والانتشار بعد رحيل الإمام السيد حسين القمي، وكان المرشح للمرجعية العليا بعد الإمام البروجردي (قده) إلا أن الأجل عاجله قبل ذلك(36).

نعم ولد، وتربى في هذه الأحضان الطاهرة التي اختارها الله لتحتضن الذين أوكل لهم أداء أصعب المهام وأخطرها، وأكثرها أهمية في كل حياة البشر، لقد رضع آية الله العظمى الشيرازي (رض) العلم والثورة مع أولى القطرات الطاهرة من الحليب. ونشأ في بيت، يتنفس العلم، ويشرب حب الخير والحرية وكره الظلم والعبودية.

وورث حب هذه الأرض التي سكبت عليها دماء أجداده الخالدين كالإمام الحسين وزيد بن علي(ع).

ولذلك فأنه ومنذ صغره كان يحمل هماً كبيراً، وأمانة خطيرة، وهو لذلك أيضاً لم يعش طفولة عادية كأقرانه بل ومنذ أن عرف النطق بدأ بقول الحق، وحال تعلمه السير، تعلم أن مشوار حياته سيكون صعباً وخطيراً.

وتتلمذ على يد والده آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي (قده)(37) وعلى يد آية الله العظمى السيد محمد هادي الميلاني، ومن كبار أساتذته أيضاً آية الله العظمى الشيخ محمد رضا الأصفهاني، ووصل عدد الأساتذة الذين تتلمذ على يدهم ما يقرب من المائة أستاذ وفقيه وعالم في مختلف العلوم والفنون.

حياة تقاسمتها المهمة الأخطر والهم الأكبر

إن تصفح صفحات حياة واحد من حراس الرسالة الإسلامية وأحد فرسان الخلاص البشري، تبدو غاية في الصعوبة والتعقيد خصوصاً وأنك ملزم بعدد محدود من الكلمات في عدد محدود من الصفحات. فبأي شيء تبدأ، وعن أي صفحة من تلك الصفحات التي لو كنت موضوعياً ومنصفاً لتطلب الأمر منك أن تكتب فيها مجلدات ولكني سأكون مضطر لأن أقصر الحديث هنا عن العلاقة التي كانت قائمة بين المهمة الإلهية، والمهمة الإنسانية الرائع لتجسيدها حقيقة قائمة وواقعة على هذه الأرض الطاهرة، التي أختارها إمام المتقين علي بن أبي طالب (ع) مقراً لحكمه، ومن ثم مثوى لجسده الطاهر، والتي جاءها الحسين مع عصبة المؤمنين، من حراس الرسالة الإسلامية الخالدين لأجل أداء المهمة وتحقيق الرسالة، ولأجل ذلك قدموا أرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية قرابين وأضحية على طريق الشهادة العظيم، ثم وبعد حين من الزمن جاءها زيد بن علي بن الحسين، ليكمل الدرب الذي سار عليه جده وقدم هو وأصحابه القلة ما قدمه الحسين وأنصاره.

وبعده جاء العديد من الأولاد والأحفاد الثائرين الشهداء الخالدين جاءوا إلى هذه الأرض إلى العراق، ليحققوا عليها أهداف الرسالة وغاياتها ومنذ شبابه(قده) بدأ مشواره الطويل، ومسيرة حياته ليخوض غمارها، وليكمل السير على الدرب الذي سار عليه قبله آباؤه الكرام وأجداده العظام، فبدأ وهو لا زال يافعاً يحث الخطى القوية الواثقة، ويسمع صوته الناطق بالحث والمطالب بالحرية والعدل.

في مقدمة كتابه (تلك الأيام) صفحات من تاريخ العراق السياسي، يقول السيد الفقيد الكبير آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي (رض) عن تاريخ العراق:

(مرَّ العراق بمراحل عصيبة في تاريخه السياسي وقد تكالبت عليه قوى الشر للنيل من مكانته المرموقة، ولنهب ثرواته وخيراته(38).

لم يكن حب الإمام الراحل الكبير (قده) للوطن حبا اعتيادياً، كما لم تكن علاقته بوطنه هذا، هي مجرد هذا الحب، والولاء العاطفي الذي يحمله الإنسان للمكان الذي يولد فيه، ويتربى وينشأ ويترعرع ويكبر، لقد كانت علاقة الإمام الشيرازي، علاقة تحقيق مهمة إلهية، وغاية سماوية، وأمانة شرعية، وجد وعاش ومات في سبيلها ولأجلها.

فالعراق هو الوطن الذي وكما ذكرنا عمل وجاهد وقتل فيه أجداده من آل بيت النبوة (ع)، لكي يشيدوا على أرضه المباركة الدولة الإسلامية المثلى التي وعد بها الله العلي العظيم عباده الصالحين، وبشر بها المستضعفين.

بل إن لتلك العلاقة جذور تمتد إلى ألف وأربعمائة عام من الزمن تقريباً منذ أن جاء إمام المتقين الإمام علي بن أبي طالب (ع) وأقام الحكومة الإلهية في العراق.

أنه الهم الأكبر لأداء المهمة الأخطر، وهو إقامة الوطن الحر الآمن السعيد، فهو يقول في كتابه (مستقبل العراق بين الدعاء والعمل): (لذا فإن همنا بتغيير الوضع المأساوي لشعبنا المسلم في العراق، يجب أن يقترن بسعينا نحو تغيير أنفسنا ومجتمعنا أولاً وهذا يتم بالعمل الجاد والمتواصل)(39).

ولذلك فقد عمل على تحقيق تلك المهمة وسعى إليها طيلة حياته الحافلة بالنضال ضد الحكومات العميلة والمنحرفة التي تعاقبت على حكم العراق، ابتداءً بحكومة النظام الملكي، والتي اتخذت أشكالاً ووسائل وطرقاً عديدة، منها مقابلة المسؤولين كمتصرف (محافظ) لواء (محافظة) كربلاء أنذاك (عبد الرسول الخالص)، وتقديم مذكرات الاحتجاج على الأعمال التي كانوا يقومون بها والتي كانت تسيء إلى معالم المدينة التاريخية والدينية والحضارية وكذلك التي كانت تمس مصالح الناس وأحوالهم، وأيضاً مقابلة الوزراء في ذلك العهد، الذين كانوا يمارسون أفعالاً لا تخدم الوطن ولا تنفع المواطنين، وقد وصفهم الإمام الفقيد خير وصف، فقال: (إن ممارسات الوزراء والمسؤولين في أواخر العهد الملكي جلبت عليهم الوبال وكانت سبباً لتوفير الأجواء المناسبة للانقلاب).

لقد أدان سماحته (رض) الانقلابات العسكرية التي حصلت في العراق، حيث أنها قامت إما من أجل مطامع شخصية كانقلاب بكر صدقي أو من أجل تنفيذ أهداف وخطط استعمارية كانقلاب 14 تموز 1985م، 8 شباط 1963، و17 تموز 1968.

وقال سماحته بشأنها ما يلي(40): (أكثر من قاد الانقلابات العسكرية هم من عملاء الغرب، الذين يضعون أرادتهم بأيدي المستعمرين وينفذون لهم ما يريدون من خلال هذه الانقلابات التي تدر عليهم أرباحاً طائلة).

لقد كان يحلم ويدعوا ويعمل لأجل وطن تحكمه الأغلبية من الشعب وتعيش في ظله الأقليات بالعدل والمساواة.

وأن يسود النظام الديمقراطي، القائم على التعددية الحزبية حيث يقول:

وإذا أراد العلماء الأعلام (أيدهم الله) أن يساهموا في إعادة التوازن الذي أختل، فعليهم أن يقدموا على عملين أساسين:

أ- إعادة القوى السياسية التي كانت على الساحة العراقية، وهي المرجعية والتعددية الحزبية.

ب- أن تكون الحكومة المستقبلية، حكومة تمثل الغالبية ذات النسبة الـ 85% بالمئة، مع منح باقي الطوائف والأقليات حقوقهم في الحكم والنظام السياسي بحسب نسبتهم.

والتقى بكبار الشخصيات الثقافية والأدبية والفكرية، حيث كان يجري الحوارات والنقاشات الفكرية معهم، كما كان يدعوهم إلى نشر الثقافة الإسلامية بين أفراد المجتمع فها هو وفي لقائه مع الشخصية الوطنية والثقافية الكبيرة المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيب، يقوله له(41):

(باعتبارك عالم دين، وأحد أقطاب الدولة، ورئيساً للمجمع العلمي العراقي وهو منصب مهم، لماذا لا تحاول أن تنشر الثقافة الإسلامية بين أفراد المجتمع، حتى تعود العلاقة الوطيدة بين الناس والدين الإسلامي كما كان في عهد رسول الله (ص).

لأجل تلك الثقافة وذاك التواضع من الرسول الأكرم (ص) انتشر الدين الإسلامي، وفي هذا يكمن سر نجاح الرسول (ص) فأنه كان مع الناس وكانوا معه، في السلم والحرب والزراعة والصناعة،وفي علم البر والخير.

وإذا اتخذت الدولة منهج الرسول (ص) وأقتدت به،فأنها أيضاً سترتقي سلم النجاح بفضل التفاف الناس حولها).

في هذا القول للإمام الراحل بيان واضح عن الكثير من المسائل وطرح لكثير من المفاهيم.

ومرة أخرى وبهذه الكلمات القليلة المعبرة، تتوضح شخصية هذا القائد الوطني الكبير، ومغزى وجوده، ومعنى حياته العظيمة والتي توزعت وتكرست، في الكفاح والجهاد والسعي والعمل في كل ما كان يملك من إمكانيات، وبمختلف الوسائل والطرق المتاحة لإنجاز المهمة التي حملت المدرسة الشيرازية أمانة تحقيقها وإعادة انتاجها بوصفه أحد أعمدة تلك المدرسة القوية الراسخة، وعلماً بارزاً من أعلامها.

وإن يرى ذلك كله مجسداً حقيقة واقعة على أرض همه وهمة أجداده العظام وآبائه الكرام (عليهم أفضل الصلاة والسلام)،الأكبر وذلك الأمل الأعظم واللكم الأجمل.

إن دولة حرة ديمقراطية متقدمة ومتطورة ومزدهرة، كالتي أرسى أسسها الرسول القائد(ص) في المدينة المنورة مجسدة على أرض العراق (الهم الأكبر). يعيش فيها أبناء هذا الوطن ومن مختلف الطوائف والمذاهب والقوميات والأديان، سواسية كأسنان المشط، لا فرق بينهم إلا بالتقوى، والعمل الصالح في سبيل الوطن.

واستمرت حياة هذا الرمز والعنوان العلوي – الحسيني، في جهادها الذي لا يعرف الراحة، ولا التوقف، بل كان عطاء دائماً، وفيضاً لا ينقطع، وصراعاً لا ينتهي، يزداد رسوخاً وقوة وصلابة، مع كل معركة يخوض غمارها، ويقتحم أوارها، رغم كل ما كانت تأخذه من صحته وراحته وعافيته، بل وكل عمره الشريف الحافل بالمهام والمسؤوليات الجسام.

فبعد سقوط الحكم الجمهوري بزعامة عبد الكريم قاسم في الانقلاب الرجعي في 8 شباط 1963م، وقف سماحته (قده) ضد كل الممارسات الإجرامية التي ارتكبها ما سمي بـ (الحرس القومي). كما وقف بعد ذلك ضد سياسة عبد السلام عارف المشبوهة المنحرفة، وقد طالب عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء في زمن عبد السلام عارف وأخاه عبد الرحمن عارف بعد موت الأول، بإلغاء قانون العقوبات البغدادي لكونه من وضع المستعمرين البريطانيين فقال له(42): (لماذا لا زلتم تعملون بقانون العقوبات البغدادي؟ مع أن هذا القانون ذكر في مقدمته: أنه سُنَّ في فترة الاحتلال البريطاني للعراق، أي إنه من صنع المستعمرين ولا يمت إلى الإسلام بصلة).

ضد الفاشست

منذ اليوم الأول لانقلابهم في 17 تموز 1968 الذي خططت له دوائر المخابرات الأمريكية والبريطانية، وكما ذكرنا ذلك في الفصل الأول من هذه الدراسة المتواضعة، وقف آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده)، ضد الفاشست؛ وذلك لكونه كان على معرفة تامة، ورؤية ثاقبة ثابتة، بأن هؤلاء الذين سبق وأن عاثوا بالعراق فساداً، وتقتيلاً، وقد ضاقت من جرائمهم حتى صدور شركائهم (عبد السلام عارف وجماعته) فانقلبوا عليهم، في محاولة للتملص من الاشتراك في تلك الجرائم البشعة التي يندى لها جبين البشرية، ولما تشهد مثيلاً لها حتى في ظل ألمانيا النازية.

ولذلك كان موقف الفقيد الغالي (رض)، وتبعاً للمسؤولية التاريخية التي تحملها كقائد كبير من قادة الوطن والأمة، شرعياً وسياسياً، فأنه قد واجه ذلك النظام، بكل ما عرف عنه من شجاعة وجرأة وقوة وصلابة وثبات وعزيمة لا تعرف اللين، ولا المداهنة أو النفاق، وهو ما عرفت به المدرسة الشيرازية بكل رموزها، فكان أنه بدأ سوية مع شقيقه ورفيق دربه آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي، في فضح حقيقة ذلك النظام الفاشية وفي كشف ارتباطاته وعلاقته مع الرأسمالية الغربية.

وكذلك عملا معاً في تحريض الجماهير العراقية وتعبئتها للنضال والكفاح من أجل إسقاط ذلك النظام الدموي، ومن أولى لحظات اغتصابه السلطة والدولة في العراق.

فقام سماحته (قده) بإصدار البيانات الموجهة إلى الشعب العراقي التي تكشف حقيقة العفالقة العملاء، وتدعوا العراقيين إلى مقاومتهم.

ومنها البيان الصادر في 1- ذي القعدة – 1399هـ، قال في بعض منه ما يلي: (لقد اجتمعت في حكومة البعث العراقية (العمالة) و(الديكتاتورية) و(الحقد على الشعب) و(الفساد).

وسماحته يقول في بيانه: (وإني أدعو (منظمة العفو الدولية) ومنظمات حقوق الإنسان، وسائر المنظمات التي تدعي الإنسانية أن تزور سجون العراق لترى بأم عينها مأساة الإنسان العراقي تحت هذا الحكم الإرهابي الفاشي)(43).

نداء إلى الجيش العراقي(44)

وفي كلمة موجهة إلى الجيش العراقي الباسل بمناسبة ضرب النظام العراقي كربلاء، قال سماحته في بيان أصدره في ذلك بتاريخ 12- محرم الحرام – 1400هـ، وهو ما يصلح لهذه الأيام الحساسة (الحمد لله قاصم الجبارين مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين. ثم قال (قده) وهو يثير النخوة في نفوس أفراد الجيش من أجل التمرد، وهل تذكر أيها الجيش العراقي الأبي أن آباءك كانوا هم جنود التحرير في ثورة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي لطرد الإنكليز من العراق؟ وهل تذكر أيها الجيش العراقي الكريم أنك كنت العماد والسند في محاربة المستعمر، في الحرب العالمية الثانية، حين أفتى الإمام السيد أبو الحسن من النجف والإمام السيد حسن من كربلاء، وسائر العلماء بوجوب طرد البريطانيين من العراق؟ هل تذكر؟ وهل تذكر؟ فما دهاك أن آثرت الصمت أمام عملاء بريطانيا وعملاء كارتر وبيغن؟.

وفي مكان آخر من النداء.. قال الإمام الفقيد (رض) (45):

(بوّءه الله سبحانه مقعداً رفيعاً في جنان الخلد).. وهو نداء نوجهه اليوم باسم فقيدنا ومرجعنا، الإمام الراحل (قده) في هذه الأيام العصيبة والشديدة المحنة التي يعيشها الوطن (الهم الأكبر) للفقيد الكبير (العراق) حيث تتواتر الأخبار عن نية لتوجيه ضربة كبيرة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي جاءت بالنظام الفاشي، وعملت طيلة السنوات الثلاثين الماضية على دعمه وحمايته وأعادته إلى السلطة، وحمايته من السقوط بعد الانتفاضة الشعبانية المجيدة، فها هذه أقوال الإمام الراحل نوجهها في هذه المناسبة الأليمة، إلى الجيش العراقي الباسل، لعله يفيق قبل فوات الأوان: (أيها الجيش العراقي الأبي، إن صدام وحزبه في طريق السقوط إن لم يكن اليوم فغداً، وهذه سُنَّة الله في الظالمين مهما تسلحوا بالدعاية والدجل والقوة، فعليك أن تبرئ نفسك من الآن، وقبل فوات الأوان، فاخلع لباس الذل واهرب من الجيش، وخير لك أن تتوب إلى الله سبحانه وأن تبقى على كرامتك أمام الأمة في المستقبل من أن تخدم المستعمرين وأذنابهم.

أليس الجيش سور الشرف وسور الإيمان وسور الوطن وسور الأمة؟.

ويختم بيانه (رض) في التعبير عما نذر حياته من أجله وهو أداء المهمة وتحقيق الهم الأكبر.. فقال(46):

(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك،والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة).

حول إعداد الاستعمار لانقلاب عسكري في العراق

على الرغم من أن هذه البيانات والندءات التي وجهها الفقيد الغالي (قده) إلى الشعب العراقي كانت قبل عقدين من الزمان، ولكنها ولأنها تعبر عن رؤية عميقة وواعية وذكية السياسية والظروف المأساوية التي يعيشها العراق، فهي تشير إلى نظرة استشرافية عظيمة لما ستؤول إليه الأحداث في المستقبل.

فها هي المسألة العراقية تدخل اليوم المرحلة الحاسمة من عمرها، وهاهي تقترب من ساعة الصفر لطي ملفها بشكل نهائي، ولكن ليس كما يريد الشعب العراقي ويتمنى، إذن إن القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة، سعت منذ عقود، وتسعى اليوم من أجل أن تفرض الحل الذي تريد، والذي يخدم مصالحها، ويحقق أهدافها، في الهيمنة والاستغلال واستعباد الشعوب والبلدان وفرض قيمها وأخلاقها المتحللة والمتفسخة.

واليوم ونحن نواجه احتمالات أن تقوم الولايات المتحدة بحسم المسألة العراقية وعلى طريقتها الخاصة، فإن من جملة هذه الاحتمالات (السيناريوهات) المطروحة لإسقاط النظام الفاشي في العراق، هو القيام بانقلاب عسكري، يهدف إلى الإبقاء على هيكل النظام ومؤسساته التي أقامها بتوجيه ودعم ومساعدة من قبل القوى الاستعمارية ذاتها، وأن يكون التغيير تغييراً للأشخاص فقط، وليس بجوهر النظام القمعي – الطائفي.

ولهذا فإن البيان الذي وجهه الإمام الراحل (رحمه الله) للتحذير من قيام انقلاب عسكري (شكلي) في العراق، هو اليوم، أكثر تأثيراً وفاعلية، وأننا كعراقيين أحوج إليه من أي وقت مضى؛ حيث قال سماحته (قده) في ذلك البيان المؤرخ في 25 ذي القعدة 1400هـ، ما يأتي(47):

(إننا نحذر الشعب العراقي الكريم من أن انقلاباً عسكرياً جديداً بتخطيط من أمريكا وبريطانيا وإسرائيل في طريق الطبخ ليقوم مكان حزب البعث في العراق، فإن أسياد عفلق وحزبه علموا سقوط هذاالنظام عن قريب، تحت الضربات المتلاحقة من المجاهدين المسلمين من كافة قطاعات الشعب العراقي المسلم.

وأضاف سماحته (رض):

(فليعلم المستعمرون، أن الشعب العراقي، شعب مسلم، والمسلم لا يقبل بالانقلابات العسكرية، فهو حكم بغير ما أنزل الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).

وإن أي انقلاب عسكري يقع في العراق، وتحت أي ستار، وبأي اسم أو شكل مرفوض سلفاً وإذا وقع هذا الشيء فسنحاربه بلا هوادة حتى نسقطه، وقال أخيراً (وأن نصر الله لآت، والله مع المجاهدين، وهو المستعان).

خاتمة

يبقى وقبل أن نختم دراستنا المتواضعة هذه، أن نقول بأننا وقبل كتابة هذه الأسطر الأخيرة، توقفنا طويلاً، قبل أن نبدأ بتسطيرها، وأن علينا أن نبتدأ من جديد، على أن لا نتوقف، عند حدود صفحات معدودة، ذات مساحات محدودة.

فأنت لا تكتب عن رجل عادي، أو عن شخصية مفردة، لأنك ومهما بلغت من عظمة تلك الشخصية وقوتها فأنها تبقى شخصية محدودة التأثير والأثر، لأنها مهما تكن فستبقى مفردة بذاتها.

ولكنك عندما تتحدث عن الفقيد الغالي، الإمام الراحل الكبير آية الله العظمى مرجع الإسلام والمسلمين السيد محمد الحسيني الشيرازي (رض)، فإنك تتحدث عن مفاهيم وقيم، رغم أنه قد كتب عنها عشرات المجلدات وعبر عشرات بل مئات السنين، إلا أنها لا زالت تبحث عن الباحثين وتفتش عن الدارسين.

لأنك ستتحدث عن الإسلام، ماهيته، حقيقته، أهدافه وغاياته وستتحدث عن التاريخ، وقائعه، أحداثه، صراعاته، دروسه وعبره، وستتحدث عن الإنسان، وجوده، حياته، آلامه، وآماله وستتحدث كذلك، عن الحرية، ماهيتها، ودورها في حياة الأمم والشعوب وأيضاً ستتحدث عن العدالة، والمساواة، والحرب والسلم ولا بد لك، من أن تتحدث عن الظلم والجور، والإرهاب، والجوع وما يفعله الإنسان ككائن حي، واجتماعي، وكونه قد اختاره الله تعالى خليفته على هذه الأرض.

عليك أن تتحدث عن علوم الفقه والأصول واللغة والأدب، والسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس (الفردي) و(الاجتماعي)، وحتى الفلسفة والانثربولوجي والأبستمولوجي، وغيرها من العلوم..

وبعد أما من حقنا أن نسأل، كيف يمكن لكاتب ومهما بلغ من قوة البراعة في التعبير والقوة في السرد، أن يختصر كل ذلك، في بضع صفحات؟!.

فعذراً سيدي الإمام، أيها الغائب بالأمس القريب، والحاضر أبداً في هذا اليوم، وغداً، عذراً لأني ومهما بلغت من شأو في عالم الكتابة، فسأكون قاصراً ومقصراً.

غير أن لنا كلمة قبل أن ننهي دراستنا هذه، وهي أن المدرسة الشيرازية التي وجدت في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين هي ليست غير مدرسة أهل البيت (ع) التي أرسى أسسها الأولى رسول الله (ص) نفسه، وأوكل مهمة إكمال قواعدها إلى إمام المتقين علي بن أبي طالب (ع)، وأولاده من بعده (ذرية بعضها من بعض).

تلك المدرسة التي قامت على أركان ثلاثة هي: العلم، والثورة، والشهادة، وهي بهذه الأركان، قد أوضحت بأنها لم تكن مدرسة لإعطاء العلوم فقط، بل أنها أيضاً مدرسة لإعداد القادة والرجال الذين وهبوا أنفسهم، ونذورا حياتهم، من أجل أداء المهمة، المتمثلة في تبليغ الرسالة الإسلامية العظيمة، وتحقيق أهدافها، بإقامة دولة العدل الإلهي على هذه الأرض، وصولاً إلى غاياتها، الإنسان الحر، الآمن، السعيد، ذلك الإنسان الذي اختاره الله العلي العظيم خليفته على هذه الأرض.

فكانت المدرسة الشيرازية وبكل رجالاتها الأفذاذ العظام، بحق هي الامتداد الطبيعي، والتجسيد الحقيقي لتلك المدرسة الخالدة، وتبقى حياة أولئك المراجع والأئمة القادة، هي حياة وهبت لأجل تلك المهمة، وهي لأجل ذلك أيضاً حملت طيلة سنوات وأيام بل ولحظات تلك الحياة، ذلك الهمّ الأكبر.

ملحق

جواب سماحة السيد حول العراق

على سؤال جماعة من المؤمنين عن آرائه حول الصورة المستقبلية للعراق

وذلك في أيام الانتفاضة العراقية (1991م)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على الأخوة المؤمنين ورحمة الله وبركاته..

لقد سألتم عن العراق والصورة التي ينبغي أن يكون عليها في المستقبل بعد سقوط النظام الحالي بإذن الله تعالى وسنشير ههنا إلى بعض البنود حسب ما يستفاد من الموازين الإسلامية المطابقة للموازين الإنسانية الفطرية، قال تعالى: (فطرت الله التي فطر الناس عليها).

الأول : يجب أن تكون الأكثرية هي الحاكمة كما يجب إعطاء الأقلية حقوقها، فإن الأكثرية كان لها الدور الأكبر في إنقاذ العراق مرارا عديدة في هذا القرن: مرة في ثورة العشرين ومرة أخرى في الحرب العالمية الثانية حيث أفتى العلماء بوجوب إخراج المستعمرين من قاعدة الحبانية فتحرك الشعب العراقي بأسره حتى أخرجهم، ومرة ثالثة: إبان المد الأحمر وقد سجلت الكتب التاريخية تلك الحوادث بتفاصيلها

وقد قال الله سبحانه وتعالى: (وأمرهم شورى بينهم).

وقال جل وعلا: (وشاورهم في الأمر).

وورد في الحديث الشريف: (لئلا يتوى حق امرئ مسلم).

الثاني: من الضروري استناد الدولة إلى المؤسسات الدستورية حيث يلزم منح الحرية لمختلف التجمعات والتكتلات والفئات والأحزاب غير المعادية للإسلام في إطار مصالح الأمة، كما يلزم أن تكون الانتخابات حرة بمعنى الكلمة وان توفر الحرية للنقابات والجمعيات ونحوها كما يلزم أن تعطى الحرية للصحف وغيرها من وسائل الإعلام ويلزم أن تمنح الحرية لمختلف أصناف المجتمع من المثقفين والعمال والفلاحين و… كما تعطى المرأة كرامتها وحريتها كل ذلك في إطار الحدود الإسلامية الإنسانية قال تعالى: لا إكراه في الدين

وقال تعالى : (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

وقال الإمام أمير المؤمنين : (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا).

الثالث: اللاعنف هو المنهج العام في الداخل والخارج، كما قال تعالى:( ادخلوا في السلم كافة) فإنه هو الأصل ونقيضه استثناء.

الرابع: يجب أن تراعى حقوق الإنسان بكل دقة حسب ما قرره الدين الإسلامي الذي يتفوق على قانون حقوق الإنسان المتداول في جملة من بلاد العالم اليوم فلا إعدام مطلقا إلا إذا حكم ـ في كلية أو جزئية ـ مجلس شورى الفقهاء المراجع إذ في صورة الاختلاف بينهم يكون من الشبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما ينبغي تقليص عدد السجناء إلى أدنى حد حتى من الحد المقرر في العالم اليوم كما لا تعذيب مطلقا وكذلك لا مصادرة للأموال مطلقا

الخامس: وبالنسبة إلى ما سبق يتمسك بـ : (عفى الله عما سلف) كما عفى الرسول الأعظم (ص) عن أهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء وعن غير أهل مكة، وكما صنع ذلك الإمام أمير المؤمنين ويؤيده ما ورد عن الإمام الرضا (ع): (إن حديث الجب أولى بالجريان بالنسبة إلى المسلمين من جريانه في حق غيرهم).

السادس: للأكراد والتركمان وأمثالهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة القادمة وفي كافة مجالات الدولة والأمة فقد قال الله سبحانه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وقال الرسول (ص):(لا فضل لعربي على العجمي ولا لأحمر على الأسود إلا بالتقوى).

السابع: ينبغي أن تتخذ الدولة القادمة سياسة المعاهدة أو المصادقة مع سائر الدول في إطار مصلحة الأمة كما قام بذلك الرسول الأكرم (ص) مع مختلف الفئات غير الإسلامية حتى المشركين، ويستثنى من ذلك عدة صور منها: صورة احتلال الكفار والمشركين لبلاد المسلمين كما حدث في فلسطين وأفغانستان حيث يجب على جميع المسلمين عندئذ الدفاع إذ المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

الثامن: المرجع الأخير في دستور الدولة الإسلامية القادمة في العراق وفي رسم السياسة العامة والخطوط العريضة هو شورى الفقهاء المراجع حسب ما قرره الإسلام، قال الرسول الأكرم (ص): (المتقون سادة والفقهاء قادة) ومن الواضح أن الفقهاء المراجع يتعاونون مع الحوزات العلمية ومع المثقفين والأخصائيين في كافة الحقول الاختصاصية فإن ذلك هو مقتضى المشورة والشورى كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم).

التاسع: يجب على كافة المسلمين السعي لكي تتوحد بلاد الإسلام وتنصهر في دولة واحدة إسلامية ذلك أن المسلمين أمة واحدة كما قال تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) وقد أسس الرسول الأعظم (ص) أساس الدولة العالمية الواحدة حيث توحدت في حياته (ص) تسع دول تحت راية الإسلام ـ على ما ذكره المؤرخون ـ وفي هذا القرن كانت الهند مثالا لذلك كما أن أوروبا تحاول التوصل إلى ذلك.

ومن الواضح أن تفكك الدول الإسلامية ووجود الحدود الجغرافية بينها من الأسباب الرئيسية في تخلف المسلمين من جهة وفي تناحرهم وتحاربهم من جهة أخرى وفي تفوق المستعمرين عليهم واستعمارهم من جهة ثالثة.

العاشر: يلزم حث المجاميع الدولية كي تقوم بالضغوط الشديدة على كل حكومة تريد ظلم شعبها، ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان لا يرى فرقا بين ظلم أهل الدار بعضهم لبعض وبين ظلم الجيران بعضهم لبعض وهذا هو ما يحكم به العقل أيضا ولا يجوز في حكم العقل والشرع أن ندع أمثال موسيليني وهتلر وستالين يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تشريدا ومطاردة ومصادرة للأموال وقتلا للأنفس بحجة انها شؤون داخلية فإذا اشتكى أبناء بلد عند سائر الأمم كان عليهم أن يرسلوا المحامين والقضاة فإذا رأوا صحة الشكوى أنقذوا المظلوم من براثن الظالم.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة

محمد الشيرازي

الهوامش:

(1) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية – فريق المزهر الفرعون – ص79.

(2) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية – فريق المزهر الفرعون – ص 80.

(3) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية – فريق المزهر الفرعون – ص81.

(4) الحقائق الناصعة – المصدر – ص95.

(5) الحقائق الناصعة – المصدر – ص105.

(6) الحقائق الناصعة – المصدر – ص106.

(7) الحقائق الناصعة – المصدر – ص140.

(8) الحقائق الناصعة – المصدر – ص145.

(9) الحقائق الناصعة – المصدر – ص195.

(10) جهاد الشيعة – الدكتورة سميرة الليثي – ص395.

(11) جهاد الشيعة – الدكتورة سميرة الليثي – ص395.

(12) العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل – مؤسسة الدراسات الإسلامية – ص 654.

(13) العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل – مؤسسة الدراسات الإسلامية – ص654.

(14) العراق بين الماضي والحاضر- المصدر – ص655.

(15) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص655.

(16) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص656.

(17) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص656.

(18) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص656.

(19) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص656.

(20) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص656.

(21) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص 656.

(24) العراق – المصدر – ص662.

(25) العراق – المصدر – ص662.

(26) العراق – المصدر – ص667.

(27) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص667.

(28) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص668.

(29) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص668.

(30) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص 671.

(31) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص 671.

(32) العراق – المصدر – ص672.

(33) العراق – المصدر – ص672.

(34) العراق – المصدر – ص672.

(39) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص584.

(40) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص582.

(41) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص584.

(42) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص585.

(43) العراق بين الماضي والحاضر – المصدر – ص582.

(44) تلك الأيام – آية الله الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – ص12.

(45) مستقبل العراق بين الدعاء والعمل – الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – ص 14.

(46) تلك الأيام – المصدر – ص21.

(47) تلك الأيام – المصدر – ص53.

(48) تلك الأيام – المصدر – ص229.

(50) مجموعة بيانات آية الله العظمى الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي إلى الشعب العراقي العظيم.

(51) مجموعة بيانات آية الله العظمى الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي إلى الشعب العراقي العظيم – ص41-42.

(52) مجموعة بيانات – المصدر – ص43.

(53) مجموعة بيانات – المصدر – ص45.

(55) مجموعة بيانات – المصدر – ص112- 113.