الإمام الشيرازي بين وحدة الفكر ووحدة الهدف

راجي أنور هيفا

لا شك أن دراسة وتحليل حياة العظماء من المفكّرين والمصلحين ضرورة حيوية وواجب ملح من أجل السير بالأمة في معارج التطور ومدارج الكمال والارتقاء.

وعندما نجنّد أقلامنا للكتابة عن هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين وقفوا ونذروا أنفسهم من أجل جلال الفكرةِ وسموّ القضية، فإنما نفعل ذلك إكراماً لهم وإخلاصاً لمدادهم الذي يعدل بل - كما في الحديث النبوي الشريف- يَفضُلُ دماء الشهداء.

إن كل الأمم تحتاج في مسيرة حياتها إلى الرموز الخالدة وإلى المنائر الهادية، التي يستضيء الكل بنورها ويهتدي التائه المتعب بهديها، فما من أمة خلت إلا وكان فيها من يُنذرها ومن يهديها، وما من أمةٍ إلا وكان فيها من يدعوها إلى العودة إلى جادة الصواب ونهج الحق والعدل والمحبة.

وإن سنن التاريخ تعلمنا أن لكل أمة رجالاً أخياراً وآخرين أشراراً، ولكل نبي عدواً من المجرمين، نعم، فهناك قابيل يقف ضد صراط هابيل المستقيم، وهناك النمرود الذي يكيد علانية لخليل الرحمن إبراهيم (ع)، وهل ننسى فرعون وأفعاله مع موسى كليم الله (ع)، وكيف لنا أن ننسى أو أن نتناسى قبلات يهوذا الخائن الذي جعل من قبلاته الغادرة رمزاً للفتك بالرسل والأنبياء؟ فقبلاته على وجنات السيد المسيح عيسى بن مريم (ع) كانت أشد فتكاً به من السيوف التي أطاحت برأس يحيى بن زكريا (ع). ولئن كان نبينا محمد (ص) آخر الأنبياء وخاتمهم، فإن هذه الحقيقة الطيبة لم تغير شيئاً من واقع معاداة الرسل والأنبياء، سواء جاءت رسالاتهم للأمم الأولى من فاتحة البشر على وجه هذه الأرض، أم جاءت رسالاتهم لآخر الأمم والشعوب، بل ربما كان ما لاقاه نبينا الأكرم(ص) من معاناة وظلم على أيدي الفراعنة من أمته، في حياته وبُعيد وفاته، يجعلنا نقف مندهشين أمام فظاعة تلك الصور التي عاشها رسول الله (ص) بكل أبعادها وأعماقها.

ولكن ورغم كل ذلك الظلم وتلك الجراح التي ارتسمت على خريطة الحركة الرسالية التي حملها كل الرسل والأنبياء من أجل خلاص البشر وسعادة الإنسان، كان لا بد من وجود من يجدد معالم الدين، ويعيد ترسيم المناهج والحدود بشكل واضح وأمين، ليعود صافياً كما كان، وخالياً من الرواسب والشوائب التي علقت به بعد تقادم عهده.

وبما أننا ننتمي إلى آخر رسالة سماوية، فإننا شاهد على ما حل بهذه الرسالة من تعمد إساءة تطبيق لها بدءاً من الأيام الأولى لوفاة الرسول (ص) وحتى وقتنا الحاضر. واعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية، التي تجعل من الرسالة الإسلامية الخالدة رسالة على درجة عالية من الحساسية والدقة، أنها رسالة عالمية كونية تتوجه إلى كل الجنس البشري عموماً، وليس لشعب معيّن أو لفئة محددة. فعندما يصرّح الرسول الكريم (ص) بهذه الحقيقة قائلاً: (إنما بُعثت للناس كافة)، فهذا يعني شمولية الإسلام كدين واحد غايته جمع أشلاء الإنسانية الممزقة تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله (ص).

ولا يعني هذا الاجتماع تحت راية الإسلام أن تذوب كل الفوارق الفكرية، أو أن تُمحى كل الاختلافات العقائدية الفرعية؛ فالإسلام في حقيقته لا يقوم على صهر وإذابة هوّية الفرد داخل الهوية الإسلامية الكلية، بل نرى أنه ترك للإنسان هامشاً عريضاً، من أجل ممارسة حرية الحركة والتعبير عن الآراء الخاصة والرغبات الشخصية والاقتراحات الفكرية، وبالتالي فالإسلام لا يريد منا أن نكون نِسخَ (فوتوكوبي) متكررة الشكل والمضمون، بل يريد منا، إذا اختلفنا، أن نعرف كيف نختلف، وعلى ماذا نختلف. إنه يريد منا أن يكون اختلافنا في الفروع اختلافاً تكاملياً مثمراً؛ فالصيف نقيض الشتاء، والربيع نقيض الخريف، ولكن هذا الاختلاف والتناقض يولّد عندنا دورة الحياة واستمرار تيار الوجود والعطاء.

ولو أردنا هنا أن نحصي عدد أولئك الرجال العظماء من علماء وجهابذة الدين الذين يفهمون هذه الاختلافات بهذه الطريقة وبهذه الروحية العالية، فكم سيبلغ عددهم يا تُرى؟!!.

إنهم دون شك قلة قليلة وربما أقل بكثير مما يتصوّره كل فرد منا. ولئن جاد الزمان علينا بهذه القلة القليلة من العظماء المصلحين، فلا أجد خير من أستشهد به على حديثنا هذا من الإمام المجدَّد الخالد في وجداننا سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله تعالى). والإمام الشيرازي غنيّ عن التعريف والوصف، فهو سليل عائلة كريمة تمتد بجذورها الطيبة إلى العترة النبوية الطاهرة(ع)، وقد رفدت العالم الإسلامي بالعديد من كبار المصلحين والمجتهدين المجددين الذين أعادوا للدين الحنيف صفاءَه ورونقه(1).

وقد كان الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده) واحداً من أولئك القلة الذين عاشوا في رحاب كلام الله سبحانه وتعالى وتفاعلوا مع حروف كتابه الكريم، فكان أن تحوّل إلى كلمة طيبة أصلها ثابت وحروفها في السماء؛ فهو ابن شجرة كريمة، وابن كلمة طيبة، تحمل عبق القرآن وعبير أقوال وأحاديث سيد الرسالة (ص). وقد أدرك سماحته منذ أن قرأ حركة التاريخ الإسلامي دور الكلمة الصادقة في توحيد صفوف وقلوب المؤمنين أينما كانوا ووُجدوا. فالمؤمن – كما يقول المصطفى (ص) – أخو المؤمن لأمه وأبيه، وبالتالي فإن الكلمة الخالدة التي أوجدت هذه الرابطة الروحية القوية، هي الكفيلة بجمع كل المؤمنين على النهج القويم الذي ارتضاه الله ورسوله (ص) لنا جميعاً.

إذاً، فقضية الوحدة الإسلامية عند الإمام الشيرازي(قده) تنبع من واقع (الأخوة الإسلامية)، بل من عمق النص القرآني المتمثل بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (2). فالإسلام يدعو إلى الوفاق لا إلى الشقاق، ويدعو إلى الانفتاح وتقُّبل الآخر لا إلى التقوقع والتعصّب ونبذ الآخرين واعتبار من لا يوافقني الرأي عدواً لي.

ولو استعرضنا ما جاء في كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) للإمام الشيرازي(قده)، لرأينا أنه قد استفاض في قضية الوحدة الإسلامية والدعوة إلى تلك الوحدة المنتظرة.

ولم يغب عن ذهن الإمام(قده) أن (اختلاف الاجتهادات لا يضرّ بالوحدة، فإن الاختلاف أمر طبيعي في الإنسان، والعاملون – مهما كانوا مخلصين – لا بد أن يختلفوا بالاجتهادات) (3).

ومن الواضح تماماً أن النظرية السياسية للإمام الشيرازي (قده) تبيّن للمسلمين عموماً أن وحدة الكلمة هي السبيل الوحيد والضمان الأكيد لبلوغ وحدة الهدف. ولكن الشيء اللافت للنظر في قضية الوحدة الإسلامية عند الإمام الشيرازي هو أنه رفض الحلول الخيالية، ونبذ كل الطروحات اللاعقلانية التي حاول البعض التبشير بها في أكثر من بلد إسلامي.

ومن هنا فإن الإمام الشيرازي اعتمد على طريقة التسلسل الهرمي في قضية الوحدة الإسلامية، التي تقوم على احترام كل المذاهب لا على تذويبها وإلغائها، لأن الذوبان أو الانصهار شيء غريب على المنطق والواقع ولا يمكن لأحد أن يتقبّله إلا القلة القليلة.

ويؤكد الإمام الشيرازي(قده) على عمق هذه القضية، وضرورة حلّها هرمياً، وذلك من خلال التأكيد على النقاط التالية:

بما أن عدد المسلمين في العالم قد تجاوز الألف مليون مسلم، وزهاء نصفهم شيعة ونصفهم سنة، فعلينا أن نعمل على جمع هؤلاء السنة والشيعة في وحدة دينية وفكرية، من خلال جمع كل مراجع تقليد الشيعة ضمن مجلس أعلى يحكمون فيه بأكثرية الآراء.

وعلينا بنفس الوقت العمل على جمع كل مراجع السنة والعلماء الذين يتّبعونهم في أخذ الأحكام والفتاوى الفقهية في مجلس أعلى – مثل الشيعة – يحكمون بأكثرية الآراء. وبعد القيام بجمع الشيعة والسنة من خلال مجلسين يمثلان الطائفتين، علينا أن نعمل على جمع الطائفتين معاً في مجلس واحد، فإذا أُريد صدور حكم بالنسبة إلى إحدى الطائفتين فقط، كان لعلمائهم الحق بإصدار الحكم بأكثرية الآراء، وإذا أُريد صدور الحكم بالنسبة إلى الجميع – سنة وشيعة – كان الحكم يتبع أكثرية آراء المجلسين معاً، لكن بمعنى أكثرية هذا المجلس وذاك المجلس لا بمعنى الأكثرية المطلقة.

وأكد الإمام الشيرازي أيضاً على نقطة هامة أخرى، وهي أن لكل طائفة من الطائفتين الحق والحرية في المناقشات الأصولية والفرعية، وإنما لا يحق لطائفة أن تعتدي بأي شكل من أشكال الاعتداء على طائفة أخرى.

ولم يغفل سماحته – رحمه الله – عن أنه من الطبيعي جداً أن تنشأ عن المجلس الأعلى وشورى العلماء مدارس اقتصادية، اجتماعية، تربوية من أجل تربية وتوفير الكوادر الصالحة لقيادة فعّاليات البلاد ودفعها نحو الأفضل(4).

وكما ذكرنا سابقاً، فإن الإمام الشيرازي لا يؤمن بقواعد الوحدة الإسلامية الكلاسيكية الجوفاء، بل يرى سماحته أن الحركة الواعية المرتبطة بالنظرية العلمية المدُركة للواقع العملي هي الطريق الأوضح والأنسب لذلك، وبالتالي فإننا نراه يؤكد دائماً على أن (الوحدة الإسلامية كشعار، وكبديل لعواطف غير نابعة من القلب شيء سهل، أما إلباسها لباس الواقع المباشر، فهو بحاجة إلى طرح متكامل، يلف الأمة والدولة من ناحية، ومختلف الاتجاهات التقليدية والمراجع والعلماء من ناحية ثانية) (5).

وهكذا نلاحظ أن الوحدة الإسلامية بمفاهيمها الموضوعية والعقلانية يجب أن تنطلق من القاعدة العريضة أولاً ثم تتجه بعد ذلك باتجاه القمة العليا التي ترعى أمور وقضايا القاعدة الشعبية الواسعة.

ويرى الإمام الراحل (قده) أن الوحدة الإسلامية هي عملية إنقاذ حقيقية للإنسانية المتوترة والمعذبة في قلوب المسلمين جميعاً، أولئك المسلمين الذين مزّقتهم خصوماتهم ونزاعاتهم المذهبية التي خدمت ولا تزال تخدم قوى الاستكبار والطغيان في مشرق الأرض وفي مغربها؛ ولذلك فإننا نرى بوضوح تام أن السيد الشيرازي يدعو كل مسلم من مسلمي العالم إلى احترام روحانية الإسلام وذلك من خلال احترام وحدة الكلمة ووحدة الهدف.

ونراه يدعو في كل مؤلفاته إلى توحيد تلك الكلمة، بدءاً من العائلة والمجتمع وانتهاء بالمجتمع الإسلامي المثالي، الذي يوحّد كلمة وموقف أكثر من ألف مليون مسلم على وجه هذه الأرض، التي ترزح تحت العديد من التيارات المعادية لأية قضية إنسانية عادلة، بل لأبسط قواعد وقوانين احترام كرامة الإنسان.

وقد وضع سماحته الأساليب السليمة والمنطقية لبلوغ ما تصبو إليه روحُه الطاهرة في العديد من كتبه ورسائله؛ ففي كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين) و (ممارسة التغيير) منهاج كامل متكامل لأسلوب التحرك السلمي بهدف جمع كلمة المسلمين وتوجيه قلوبهم نحو مبادئ السماء وقيم الرسالة الخالدة. وقد أبرز سماحته (قده) الخطوط العريضة والملامح الأساسية لنظريته في إرساء قواعد الوحدة الروحية بين المسلمين في كتاب عال في قيمته الفكرية والتنظيمية على الرغم من صغر حجمه، وهو كتاب (كيف نجمع شمل المسلمين).

إذاً، فالإمام الراحل قد شغل قسماً كبيراً من وقته الثمين ومن جهده في قضية ليست بالصغيرة ولا هي بالهامشية، بل بقضية كانت ولا تزال تشغل فكر كل المسلمين الغيورين على مبادئ وقيم دينهم الحنيف. إنها قضية البحث عن الذات وعن الهوية التي ستنقذ ملايين المسلمين من قبضة الاستكبار، وتحررّهم من ربق العبودية والذل والهوان. وقد كتب السيد المرجع الشيرازي عن هذه القضية الكثير.. وهذا هو الأمر الذي رفع لواءه الإمام البروجردي (قده) في أطروحة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية(6).

وهنا نتوقف عند سؤال هام قد يطرحه أحد ما، حول طبيعة النهج الذي ينادي به الإمام الشيرازي للوصول إلى الغاية المرجوّة، وقد يتساءل أيضاً عن طبيعة وصيغة التفاهم مع (الآخر) الذي قد يقف معارضاً أو منتقداً لهذا المبدأ أو لتلك الغاية.

الحقيقة أن الإمام الشيرازي(قده) كان دائماً وأبداً خلال رحلته الجهادية الطويلة مع فكرة أن خير السبل للوصول إلى الغايات السامية تمرُّ عبر الحرف والكلمة الطيبة، وليس عبر العنف وحمل السلاح في وجه (الآخر) لإرغامه على قبول أفكارنا ومقترحاتنا؛ ولذلك نراه (رحمه الله تعالى) يلحّ بقوة على اتخاذ اللاعنف سبيلاً لنيل المطلوب وتحقيق المرغوب، وهاهو يؤكد على هذه الفكرة في كل كتبه ومؤلفاته، وبشكل خاص في كتاب له بعنوان (التجارب والعبر)، وهو كتاب غير مطبوع بكامله حتى الآن، ولكن نأمل من الله القدير أن يساعد أصحاب الأمر في طباعته وإخراجه إلى عالم النور لما فيه من فائدة ثمينة وقيمة عميمة لكل المسلمين.

وها نحن نقتطف شيئاً من ثماره، تلك الثمار اليانعة التي تؤكد على ضرورة اتباع طريق اللاعنف في تطبيق الوحدة الإسلامية بين المسلمين جميعاً.

يقول سماحته: (الانتصار الحقيقي أن لا تحارب، وإذا حاربك غيرك أن تعرف كيف تقصّر الحرب) ويقول أيضاً: (إذا وضعت سهامك على عاتقك لترمي كل من وجدت فلا تطلب السيادة) (7).

إن هذه الانطلاقة المتميَّزة في فكر سماحته هي انطلاقة العقل الراجح والروح الصافية في سماء الفكر الإلهي الرحيب. إن سياسة الإمام الشيرازي في التعامل مع كل الأطراف هي سياسة السماء، لأن الله سبحانه وتعالى يحضّ ويؤكد على أن الكلمة سلاح، وأي سلاح!!!.

فبالكلمة الحسنة يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، وبالكلمة الطيبة يتحوَّل العدو اللدود إلى صديق وفيّ، وربما يتحول إلى أخ حقيقي لك، مؤكداً بذلك قول الله سبحانه وتعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) (8).

إن هذه السياسة الإلهية هي السياسة التي انتهجها الإمام الشيرازي في تعامله وتفاعله مع الواقع، ومع الأهداف التي رسمها كي يعمل على تحقيقها وفقاً لمخططه الإسلامي الشامل. وإذا كان سماحته قد أدرك الحكمة الإلهية من طلب التوحّد والائتلاف بين صفوف المؤمنين، فقد أدرك بنفس الوقت العواقب الوخيمة الكامنة وراء التعصّب والتنازع وتكفير الناس بغير حق. لقد أدرك سماحته ذلك من خلال قوله تعالى في محكم تنزيله: (ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم) (9). فالمؤمن لا يفارق المؤمن ولا يشاققه، والمسلم من سلم الناس من يده ولسانه، سواء كان أولئك الناس مسلمين أم غير مسلمين. وهذه النقطة تحديداً لم تغب عن فكر الإمام المرجع(قده) أبداً، ولذلك نراه يؤكد باستمرار على ضرورة نفي التعصب وإزالته من صدورنا أولاً، حتى نتمكن من إزالته من صدور الآخرين لاحقاً. وهو يقتدي بذلك بأئمة أهل البيت النبوي الشريف (ع) حيث يقول ربُّ البيت المحمدي (ص) ناهياً عن التعصب: (من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) (10). وهاهو الإمام الحسين (ع) يُسأل عن العصبية التي يأثم عليها صاحبها، فيقول (ع): (أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) (11).

وبالتالي نستطيع أن نقول هنا إن مصطلح (العنف) و(العصبية) لا وجود لهما في قاموس الوحدة الإسلامية عند الإمام الشيرازي(قده). فالحرف أقوى من العنف، والسلام خير من السلاح؛ ولذلك فقد قال مؤكداً: (إذا كانت الآراء حرّةً سكت السلاح) (12)، وقال مُوصياً: (لا تُطفأ النار بالنار) (13).

ومهما تجاوزنا من نقاط هامة مشرقة في حياة هذا الإمام المجاهد، فإننا لا نستطيع أبداً أن نتجاوز فكرة هامة قد تمت ترجمتها عملياً على يد شقيق موضوع بحثنا، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده)، وأقصد به آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي(ره) الذي قضى حياته أيضاً في خدمة أمور الإسلام وقضايا المسلمين العادلة. وهذه النقطة الهامة التي أودُّ ذكرها الآن هي إحدى النقاط التي لعب في تفعيلها وتحقيقها بالوجه الأمثل المرجع الديني الأعلى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده) الدور الأكبر.

فالعلويون طائفة إسلامية شيعية منتشرة في العديد من البلدان العربية والإسلامية، وقد لاقوا من الاضطهاد والحرمان ما لم تُلاقه طائفة أخرى أبداً، وقد أدى هذا الاضطهاد إلى فصلهم عن المرجعيات الإسلامية الشيعية في مراكزها الأساسية.

وقد لاقى الإمام الراحل (قده) وشقيقه الإمام الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي(ره) أنواعاً عديدة من الصعوبات التي اعترضت طريقهما، من أجل توحيد الصف وإعادة جمع الشمل، عن طريق اجتماع موسع يضم لفيفاً من رجال الدين العلويين في سوريا ولبنان، ويتم من خلاله مناقشة أهم النقاط التي تؤكد انتماء العلويين إلى الطائفة الإسلامية الشيعية.

وفعلاً، فقد تم الاجتماع التاريخي في 24/8/1392هـ، وكان الاجتماع مثمراً جداً، وكما ذكرنا، فقد تم هذا الاجتماع بإشراف الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي، وبتأييد من شقيقه الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده). وبعد الاجتماع الوحدوي خرج المجتمعون ببيان واضح وصريح يبين للناس جميعاً أن العلوي شقيق الشيعي وأن الشيعي هو علوي تماماً. وقد بيَّن السيد الشهيد حسن الشيرازي(ره) في المقدمة التي كتبها للبيان الذي خرج العلويون به بعد اجتماعهم أن (العلويين والشيعة كلمتان مترادفتان مثل كلمتي (الإمامية) و(الجعفرية)، فكل شيعي علوي العقيدة، وكل علوي هو شيعي المذهب) (14).

ولم يكد يصدر (بيان عقيدة العلويين) حتى طار خبره إلى جميع البلدان والأقطار، بل اعتبر البعض أن هذه البادرة الوحدوية تمثل ظاهرة جديدة وفريدة لم يفكر أحد من قبل بالقيام بها.

وما يعنينا هنا هو الدور الذي لعبه المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده)، وبالتالي يحق لنا أن نقول متسائلين:

إذا كان الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي هو الذي قام بجمع العلويين، وأشرف على لقائهم وإعادة وحدة الصف معهم، لأنهم أساساً طائفة إسلامية شيعية، فأين، إذاً، دور الإمام الراحل محمد الحسيني الشيرازي(قده)؟.

إن الجواب على هذا السؤال موجود في الحديث الذي أدلى به الإمام الشهيد حسن الشيرازي إلى جريدة (الحياة) بتاريخ 16 تموز 1973. وقد كان نص السؤال من قبل مندوب (الحياة) كالتالي:

- لقد تبنّيتم قضية العلويين منذ سنوات، فهل يمكن أن نعرف الدافع إلى ذلك؟.

فأجاب سماحة الشهيد السيد حسن الشيرازي(ره) قائلاً:

(لا بد من الإجابة على هذا السؤال بشيء من التبسيط. فسماحة أخي المرجع السيد محمد الشيرازي منذ توليه مقام المرجعية كان يفكر في قضية العلويين، باعتبارهم جزءاً من العالم الشيعي الذي يشعر بمسؤولية عنه. وقد كلَّفني منذ ثلاث سنوات: إجلاء الهوية الدينية للعلويين، مساهمة منه في إزاحة الضباب التاريخي الذي يلفُّهم.... فالاضطهاد الذي عانوه – كما عانته بقية الشيعة في العالم – على مدى ثلاثة عشر قرناً، لم يكن اضطهاداً سياسياً فحسب، وإنما كان اضطهاداً فكرياً أيضاً، وهذا ما جعلنا شركاء في المحنة، ومسؤولين جميعاً عن الاشتراك في إزالة أسباب المحنة سياسياً وفكرياً) (15).

وهكذا نرى أن الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي(قده) يعتبر نفسه مسؤولاً عن كل المظلومين في العالم الإسلامي سواء كانوا علويين أم غير علويين، فهو مع كل مُستضعف حتى يأخذ له حقه، ومع كل مظلوم حتى يرفع بجهوده الظلامة عنه ويوقف الظالم عند حدّه؛ ولذلك فإن سماحته عندما حاول رفع الستار الضبابي عن العلويين، فإنما فعل ذلك ليؤكد أن أقلام وسيوف الحكام الجائرين في الماضي تقف اليوم عاجزة أمام شمس الحقيقة وقوة الكلمة وإرادة القلوب الصادقة في الالتفاف حول شهادة وحدانية الله وشهادة نبوَّة ورسالة سيدنا محمد بن عبد الله (ص). ولذلك، فإننا لا نستغرب من سماحته أن يجيب على سؤال أحد الأشخاص السائلين عن طبيعة العلويين وعلاقتهم بأصول الدين، فيجيب سماحته على هذا السؤال بشكل مباشر قائلاً في كتابه (الفقه – العقائد): (إنهم (العلويون) شيعة أهل البيت) (16).

وعندما سأله شخص آخر عن الطائفة (الزيدية) وعن إمامها زيد بن علي بن الحسين(ع) فيما إذا كان شيعياً أم لا، فقال سماحته: (شيعيّ) (17). وبالتالي، فإننا لا نستبعد أن يكون سماحته قد وضع على خريطة تحرَّكاته الوحدوية مشروعاً للالتقاء بالطائفة (الإسماعيلية) وببقية الطوائف الإسلامية الأخرى التي تجتمع على الإقرار بوحدانية الله ونبوة محمد (ص).

وممّا يجب أن نذكره هنا، هو موقف سماحته من الأقليات في البلدان الإسلامية. فما هو موقف سماحته من تلك الأقليات؟ وكيف سيتم التعامل معهم في ظل الوحدة الإسلامية؟ إن هذه الأسئلة حساسة دون شك، ولكن علينا أن نعلم جيداً أن الإمام الشيرازي(قده) قد استمد وجهات نظره في هذه القضية، كما في بقية القضايا الأخرى، من فلسفة وعقيدة أئمة أهل البيت المطهَّرين من كل رجس؛ فالإمام علي(ع)، على سبيل المثال، اعتبر أن كل الناس أحرار من مسلمين وغير مسلمين ما لم يُقرُّ المرء على نفسه بالعبودية، فقال (ع): (الناس كلهم أحرار إلا من أقرَّ على نفسه بالملك وهو بالغ، أو من قامت عليه البينة) (18).

أما صادق آل محمد (ع) فيقول: (لا ينبغي ولا يصلح للمسلم أن يقذف يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً بما لم يطلع عليه منه) (19).

أما الرسول الكريم (ص) نفسه، فيقول: (من آذى ذمياً فقد آذاني) (20).

وانطلاقاً من هذه الفلسفة الإنسانية العالية التي استمدها أهل البيت (ع) من فلسفة السماء الحضارية، فقد استطاع الإمام الشيرازي(قده) أن يحافظ على حقوق وحريات الأقليات في المجتمع الإسلامي الموحد المرتقب. فالوحدة الإسلامية التي أرادها الإمام الشيرازي(قده) وسعى إلى تحقيقها لا تتعارض ولا تنتقص من حقوق وحريات بقية المذاهب والأديان الأخرى، بل أكد على إعطاء الحرية لجميع المسلمين بل حتى للنصارى(21) ولغيرهم ضمن إطار المشروع، وقد دعا في معظم كتاباته للحقوق والحريات التي سُلبت وصُودرت من قبل أعداء الإسلام، وقد تعرَّض لذلك في كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) وتناول الحرية ببحث مفصل في كتابه (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، وكان من جملة ما قاله عن هذا الموضوع في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين):

(وأما الأقليات، فاللازم احترامهم في إطار قانون خاص بهم مذكور في الإسلام) (22).

ولم يقف سماحته عند هذا الحد من احترام ومراعاة الأقليات وأتباع الديانات الأخرى، بل اعتبر أن الحكام المسلمين الجائرين قد ارتكبوا خطأ فادحاً بحق الذميين، حين شهروا السيوف عليهم وأساؤوا معاملتهم، حيث هم (الذميون) إخوة لهم في الإنسانية وفي الوحدة الجغرافية. ويقول سماحته عن هذا الأمر: (ولقد أخطأ أمراء المسلمين حيث شهروا السيوف وأساؤوا المعاملة مع الذميين... ولو لم يخطئ أولئك الحكام في ذينك العملين، بل كانوا يتّبعون سيرة الرسول (ص) ، لشمل الإسلام كل العالم اليوم) (23).

فماذا عسانا أن نقول بعد كل هذا؟.

أليس فقدُنا للإمام الشيرازي يعني أن الدين قد أصابته ثلمة لن تُسدَّ أو تُمحى أبداً؟.

أليست أفكاره النيّرة عن الوحدة الإسلامية واحترام الإنسان للإنسان جديرة بأن تُتخذ دستوراً ومنهجاً للعمل من أجلها؟.

وفي واقع الحال، لا يمكننا إلا أن نقول: إن الإمام المجاهد والمجدّد السيد الشيرازي(قده) قد حمل لواء الدفاع عن كرامة الأمة الإسلامية الواحدة من المسلمين السنة والمسلمين الشيعة على حد سواء، واعتبر أن اتحاد القلوب هو الطريق الأمثل للوصول إلى مراقي العزّ والتقدم، في عالم لا يقبل وجود الضعفاء والمشتتين، وإذا كان سماحته قد كرَّس جُلَّ وقته من أجل هذه القضية السامية، فإنه فعل ذلك إيماناً منه أن الإسلام دين الرحمة والتواصل، لا دين الدماء والتكفير والتنابذ، فالإسلام يأمرنا قائلاً: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (24). وهو الدين الذي يحضّنا على حفظ الأمانات، وحفظ كرامة الآخرين واحترام وجودهم حتى ولو كانوا كفرة مشركين: (وإن أحداً من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (25).

إن الأثر الذي تركه سماحة السيد الإمام الشيرازي(قده) يدل على وجوده الدائم معنا، وما من مسلم حر إلا وله الحق في أن يصف رحيل الإمام الشيرازي بغروب الشمس وغيابها عن مسرح الوجود الإسلامي، الذي تدثَّر بالسواد على رجل قلَّ نظراؤه في عالم التّقى والورع والمعارف الإلهية النبيلة، التي كان يفيضها سماحته على طلابه ومحبيه في كل أرجاء المعمورة.

والسؤال الأخير الذي يمكن أن نطرحه على أنفسنا:

هل هناك من سيكمل الرحلة التي ابتدأها الإمام الشيرازي(قده) وقطع فيها شوطاً طويلاً؟.

نعم، هناك من سيكمل المسير على نهج الإمام الراحل، لأن مَثَلَ سماحته كمثل الحبة النقية الخيرة التي تُنبت سنابل عديدة، وفي كل منها ما يشاء الله، والله يضاعف لمن يشاء؛ فكل الغراس الخيرة التي غرسها سماحته في حقل الإسلام ستتجه نحو الشمس والضياء، نحو السماء ذات الإله الواحد، ذلك الإله الجليل الذي يريدنا أن نكون قلباً واحداً وصفاً واحداً من أجل وحدة الكلمة ووحدة الهدف، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان.

المصادر والمراجع:

1- راجع تاريخ أسرة الشيرازي ودورها الفعّال في دفع عجلة الحضارة الإسلامية في كتاب: (الشجرة الطيبة – أسرة الشيرازي تاريخ فكر وجهاد) إعداد: دار العلوم – بيروت. لبنان.

2- سورة الحجرات: 10.

3- محمد غالب أيوب ملامح النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي دار المنهل – بيروت 1991 ص89.

4- لمعرفة التفاصيل راجع كتاب: كيف نجمع شمل المسلمين؟ للإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده).

5- محمد غالب أيوب: ملامح النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي(قده) ص92.

6- راجع كتاب (أضواء على حياة الإمام الشيرازي(قده)): إعداد جماعة من العلماء. طبع مؤسسة الوفاء بيروت – 1993 ص147.

7- الشيخ محمد تقي باقر: لا عنف عنوان المؤمن، منشورات المسلم الحر - واشنطن 2001م ص27.

8- سورة آل عمران: 103.

9- سورة آل عمران: 105.

10- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده): الصياغة الجديدة مؤسسة الفكر الإسلامي – بيروت 1992 ص80.

11- نفس المصدر السابق: ص80.

12،13- الشيخ محمد تقي باقر: اللاعنف عنوان المؤمن ص31.

14- الشجرة الطيبة: أسرة الشيرازي تاريخ فكر وجهاد ص354.

15- راجع جريدة (الحياة)، المقال بعنوان: العلويون: تاريخهم.. عددهم.. عقائدهم. والمقال عبارة عن مقابلة أجراها مندوب (الحياة) مع الإمام الراحل السيد حسن الشيرازي. راجع العدد – 8581 – الاثنين 16 تموز 1973 ص8.

16- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده): الفقه – العقائد مؤسسة الإمامة- بيروت 2000 ص371.

17- نفس المصدر السابق: ص371.

18- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده): الصياغة الجديدة ص311.

19- نفس المصدر السابق ص312.

20- نفس المصدر السابق ص334.

21- أضواء على حياة الإمام الشيرازي(قده): إعداد: جماعة من العلماء ص150.

22- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده): السبيل إلى إنهاض المسلمين، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت 1994 ص246.

23- نفس المصدر السابق.

24- سورة فصلت: 34.

25- سورة التوبة: 6.