الإمام الراحل..

العبد الصالح الذي أقاموا عليه لبدا

أزهر الخفاجي

فجعت الأمة الإسلامية، بانطفاء نور من أنوار آل محمد، وغياب عظيم من عظماء هذا العصر، وعالم رباني زاهد، وفقيه مجتهد حاث الخطى لتحويل الكلمة إلى سلوك والفكرة إلى عمل والفطرة إلى منهج وتطبيق يلمسه القاصي والداني، وذلك برحيل الإمام المجاهد والعبد الصالح الإمام الشيرازي.

سيدي .. لقد كنت سفيراً، بين ظهرانينا.. ولكن لم نلحظك!! وكنت نوراً من أنوار آل محمد(ع).. ولكن الأمة .. منعت من أن تستضيء بك!!.

جئت لتختصر المسافات الزمنية السحيقة، بيننا وبين الأنبياء، وبيننا وبين الرسول الأعظم محمد (ص)، والأئمة الأطهار(ع)، لتجسدهم.. ولكن في جهادك ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، من أجل أن تكون كلمة الله في هذه الأرض هي العليا.. وجسدتهم في زهدك.. وتقواك.. وفي حلمك وعفوك.

ظلموك.. فاستغفرت لهم، ووجموا في وجهك.. فابتسمت لهم، وأعرضوا عنك.. فحنوت عليهم، وقالوك.. فخطبت ودهم، وافتروا عليك.. فدعوت لهم.

نعم.. هكذا يكون العلماء الربانيون.. وهكذا يكون المصلحون الرساليون.. وإلا.. فأين هي إذن في هذه الأرض ونحن نفتش عن قوله تعالى: (نفخت فيه من روحي) ومتى تتجسد هذه النفخة عملاً نبوياً وسلوكاً إيمانياً في حياة البشر!!.

إنك وأمثالك.. العاملون التائبون العابدون السائحون والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.. مصاديق كلام الله هذا.

لقد كان الإمام الراحل.. نموذج العبد الصالح .. الذي نذر كل ما لديه لربه.. فكان يعيش همَّ الأمة.. وهي تتحول إلى أشلاء موزعة تتناهشها ذئاب الشرق والغرب.. ويسوقها.. أشباه الرجال الذين لم يدّخروا جهدهم لزيادة بلائها ومحنتها، من أجل سنين ذليلة من الحكم والبطش!! وباسم الإسلام المغلوب على أمره!!.

لذلك.. كان الإمام الراحل هدفاً دائماً لسهام الطعن والافتراء.. والختل والبهت.. وكانوا يسعون كلهم.. ضده!! كلهم..

قوى دولية.. وأخرى إقليمية.. وأحزاب محلية.. وجماعات انتفاعية تستأكل بالدين .. كل أولئك قاموا على هذا العبد الصالح، لبدا..!! تزاحموا عليه.. لا ليسترشدوا بعطائه وتضحيته للدين، ولكن للتصدي له ومواجهته، وائتمر الشيطان بينهم.. وأي شيطان أكبر من شيطان الهوى.. ليجمعهم على جادة واحدة.. وليقعدوا مراصد للّغو.. والتعتيم والتشويه.. وليشكلوا أكبر سمفونية إعلامية معاصرة قل نظيرها، لتعزف مقطوعات الشر .. ولتوزع (نوتة) الكذب الأشرّ، على هذا العبد الصالح، الذي خافهم على أمة الإسلام.. وخافوه على مصالحهم!!.

كل ذلك الائتمار.. لم يجد من الإمام الراحل إلا المزيد من العطاء الفكري والعملي لهذه الأمة.. والمزيد من مشاريع التأليف .. والسعي لإنشاء وإقامة المؤسسات الفكرية والدينية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.

وفوق كل ذلك.. فاجأ الإمام المجاهد الراحل.. أعداء الأمة.. بمعادلة ثقيلة عليهم .. موجعة لهم.. سيجدون آثارها ومرارتها الآن.. في العقود التالية.. وإذا به يخلق في صفوف هذه الأمة، جيشاً من الرساليين.. العاملين.. المتقين.. الحارسين لهذه الأمة والماضين على العهد معه.. على أن يواصلوا مسيرة استنهاض الأمة.. وتجميع عوامل البناء والوحدة، لاستعادة القوة والمجد.. لها.. ومثل هذا الإنجاز الحضاري.. هو الذي سيقوض فرص الانقضاض النهائي التي تعد وتسعى لها هذه القوى الدولية الغاشمة، للسيطرة على هذه الأمة، واحتوائها..

وزاد الإمام في عطائه!!..

فترك وراءه ثروة علمية وفكرية لا مثيل لها، ناهزت الألف والمئتي كتاب!!.. لو قسمت إلى العشرات.. لكانت كافية في خلق العشرات من الحركات والمنظمات ذات الأداء الفذ.. في العمل الاستراتيجي لإحياء الأمة وبعثها من جديد.. وتكاد كتب الإمام الراحل تشكل برامج عمل وحركة، أكثر مما هي مجرد نظريات، ودعوات إنشائية دينية لتحقيق هذا الهدف.. وهو إحياء الأمة.

نعم.. كان الإمام الراحل.. ظاهرة فريدة في نوعها.. ولا مثيلٍ لها .. ولو كان عند غيرنا من الأمم.. بمثل هذا العطاء والعمل والجهاد.. لكان شعاراً يوشحون به تاريخهم وحضارتهم.. ولتباكت عليه الفضائيات.. ولتنادت.. للرثاء عليه، الآلاف المؤلفة من وسائل إعلامهم .. وعلمائهم وكتابهم وأدبائهم..

لكن الإمام الراحل.. كان بين أمة، لا تلتفت لعظمائها إلا بعد رحيلهم.. ولا تبدأ بالإنابة والتوبة عما اقترفته بحقهم.. إلا في جنائزهم.. ولا تؤوب إلا في الاصطفاف عند مجالس عزائهم.. والمساهمة في الإبداع للمرثيات في فواتحهم!!.

أديت الأمانة.. وذهبت عبداً باراً.. ومؤمناً محتسباً.. جسدت صوراً مشرقة من صور الفداء والعطاء لأمة جدك النبي محمد(ص)..

كانت آخر أمنياتك سيدي.. أن تزور كربلاء.. ومن حقك أن تتمنى.. وأن تلثم ضريح قبر جدك الثائر المظلوم.. الإمام الحسين.. بعدما طال السرى.. وضاق صدرك.. بالنوى!!.

لكن الله.. اختار لك القربى، والخير فيما اختاره الله، فاختارك لجواره ولصحبة أوليائه.. ولتكون في محضر جدك المصطفى وأمك الزهراء وعند سبطيه الشهيدين.. فأعطاك الله أكثر مما أملت.. ونعم المجزي ربنا.. وللآخرة خير لك من الأولى..

لقد رحلت سيدي.. وبكت عليك ملائك السماء.. وودعتك الأكف والعيون الساكبة.. لكنك سكنت القلوب والعقول.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.