الحركية والشورى

محاولة أولية لاستنطاق مشروع المدينة في

رؤية الإمام الشيرازي(قده)

نبيل عبد الكريم

على خلاف النهج الذي كان سائداً حتى بدايات النصف الثاني من القرن الماضي، أولى الإمام الشيرازي البعد الحركي كثير اهتمام في مجمل نتاجه الفقهي والسياسي، وأضاف لهذا البعد لمسات مهمة من تجربته الذاتية. ويعد الإمام بهذا الشأن الفقيه الوحيد من بين أقرانه في الحاضرة الكربلائية الذي ساهم بشكل مباشر بتطوير الحركية الإسلامية وإغنائها عبر تدخله في أساسياتها ومناهجها، وفي كتابة أولياتها السياسية التي ظهرت بعناوين مختلفة ومسميات إسلامية متنوعة. ويعود سبب طموح هذا الفقيه الكبير في إغناء تلك الحركة السياسية لشعوره أن مناهج الإصلاح الديني في تلك الفترة جنحت إلى استلهام أدوات العمل العام الذي يعتمد المسجدية والاحتفالية والبناء الشخصي قاعدة لاستعادة روح المجتمع الإنسانية والإسلامية، في الوقت الذي كان الإمام يشعر بأن الأمة بحاجة إلى تنظيم حركي قادر على انتشالها من وهدة الأوضاع السياسية الخطيرة، وهو يملك الكفاءة في التقاط المفاهيم الجذابة للوقوف بوجه حالات الترويض التغريبي التي كانت سائدة أيامذاك.

إن الحركة الإسلامية التي سعى الإمام الشيرازي إلى صناعتها وتأسيسها وإغنائها بالتجربة الذاتية وتجارب المراحل التاريخية الإسلامية السالفة، هي نوع من النقد السياسي والفقهي لروح مناهج الإصلاح الديني التي كانت تتمسك بالتقاليد الحذرة في التعامل مع نهوض الأمة واستعادتها لدورها الحضاري، وقد عبرت هذه الحركة بعد ذلك عن نفسها بالتنوعات الحزبية السياسية التي ظهرت في كربلاء وفي مقدمتها الحركة المرجعية وتالياً تنظيم العمل الإسلامي في العراق. على أن الإمام الشيرازي لم يكن يسعى إلى تأسيس حزب (إسلامي)، بحدود المصطلح للتعبير عن خطه السياسي والفقهي، بل كان يعمل لمحورية إسلامية نهضوية تستعيد فيها كربلاء كحاضرة (إسلامية) فقهية، والعراق كبلد ودور في مركزية المشروع الإسلامي العام، حضورهما في استعادة الذاكرة الحضارية في الأمة، والدعوة لحاكمية المليار مسلم في العالم. كان يرى أن كربلاء بخزينها التاريخي ونهجها الثوري وتضاريس طقسها الفقهي التحريضي ومكانتها في الوجدان العراقي والعربي والإسلامي، يمكن أن تستعيد أهداف المشروع الإسلامي التحرري النهضوي العام، بل لم يكن الإمام يولي المسألة الحزبية كبير اهتمام حين يتعلق الأمر بتطوير تجربتها الداخلية دون إسهامها بمسألة المشروع الإسلامي العام. لقد أولاها الاهتمام الكافي حين عبرت عن نزوعها لامتلاك حقيقة الشراكة في هموم حكومة المليار مسلم، وتطوير الكتاب الإسلامي، وفي استنهاض الشعوب الإسلامية لتتلمس أدوارها الحقيقية في الحياة، وهي تواجه أخطار التغريب، والمؤامرة الصهيونية، وسحق الأنظمة التي خرجت من رحم مشروع اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة لعام 1916.

لقد اشتغلت حركية الإمام الإسلامية بروح مشروعه الذاتي، بل إنها عرفت بذاتيته وخصائصها الإيمانية والتواضعية والتربوية المجسدة لقيم العمل الإسلامي النبوي الذي لا يطمح لسلطة مارقة أو دولة مستلبة، بل إقامة دولة معتدلة في الخطاب، موضوعية في علاقاتها مع الأمم والشعوب والحضارات، واقعية في علاقتها بالمجتمع، منفتحة على الآخر بمقدار انفتاح الآخر عليها..

لكن الإمام لم يكن يخفي تلك الحالة التي تنتاب الفقهاء الكبار من أمثاله وهي استلهام الحركية الإسلامية العراقية لمجمل الطروحات السياسية والفقهية التي يتبناها ويعتقد بصدقها وقدرتها على التأسيس والبلورة، لذا جاءت مؤلفاته وكتاباته الفكرية والسياسية والفقهية وهي تؤكد على الدور المهم لتلك الحركية في بناء كتلة ريادية وقيادية في الأمة تستطيع تحريضها وتعبئة جهودها في سبيل إقامة حاكمية الشريعة في حياة الناس. إلا أن الإمام كان ولم يزل يشدد على ضرورة استلهام فكرة الحركية الرسالية الإسلامية ذات الاتجاهات الجماهيرية الواسعة (إن هذا التنظيم الإسلامي العام الواحد يجب أن يحتوي على ما لا يقل عن عشرين مليون منظم حتى يكون بإزاء كل خمسين مسلماً موجه واحد.. وهذه هي أول نسبة مطلوبة)(1).

ويضيف الإمام أيضاً: (إن التنظيم يجب أن يكون استشارياً من القمة إلى القاعدة.. إن الاستشارة تعرف الإنسان على الخطأ والصواب وتأخذ بيده إلى الطريق السليم) (2) ويضع الإمام شروطاً أساسية للتنظيم تجعله قادراً على خوض غمار التحدي الداخلي والخارجي الذي يحوط الأمة بقوله: (إن التنظيم التوعوي على قسمين.. التوعية العامة وهي التي تعمل على إعطاء (الرشد الفكري) لألف مليون مسلم، والتوعية الخاصة التي تعمل على إعطاء (الوعي المركز العميق) لكل أفراد التنظيم.. فالتنظيم إذا لم يكن توعوياً لم ينجح في تخطيطه وعمله وسلوكه أولاً، ويقع ألعوبة بيد المستعمرين ثانياً..)(3).

إن الإمام يذهب بعيداً في الأغراض الحضارية الكبيرة لإنشاء التنظيمات السياسية الإسلامية متجاوزاً النشوء الإقليمي أو القطري أو الأحزاب التي تدعو إلى متبنيات سياسية ضيقة ويفصل في ذلك بالشكل الذي تظهر فيه الحركية التي يدعو إليها الإمام مستوفية لشروط وخصائص التصور الإسلامي لإيجاد الكتل التنظيمية.. وفي هذا يقول: (إذن - فمن الضروري أن يهتم القائمون بالتنظيم لإعطاء الوعي الأشمل العميق لأفراد التنظيم حتى يفقهوا الدين - كي يفهموا تطبيق الإسلام في الحاضر وكيفية دحر الأعداء ويعرفوا ماذا يحيك المستعمرون ضد المسلمين من المؤامرات وما هي الطرق الكفيلة بإفشال هذه المؤامرات)(4).

هذه التركيبة الفكرية والسياسية المجبولة بالفهم العميق للإسلام والتي تعي فلسفة المشروع الاستعماري الغربي ضد بلاد المسلمين، وتدريب الذهن الحزبي على مبادرات المعرفة وإيجاد الوعي المناسب لحقيقة حرب المذاهب الغربية للشريعة الإسلامية، هي القادرة على مواجهة المد الشامل للتآمر الغربي على العالم الإسلامي. والإمام حين وضع هذه الأسس والمتبنيات الفكرية والفلسفة السياسية لنشوء الأحزاب كان مدركاً في الحقيقة لدور المشروع الآخر ومدى الأذى الذي تركه في بلاد المسلمين، فالخريطة العربية وقت نشوء فكرة الأحزاب الإسلامية في ذهنية الإمام كانت ممزقة ومجزأة وفق مفاهيم المشروع الغربي، لا تستطيع معها الأمة مواجهة أحابيل الحركة السياسية والحضارية للغرب، والشخصية العربية والإسلامية، مقهورة قلقة، غير قادرة على صد الهجمات العنيفة التي كانت تأتيها من بلدان الهيمنة والاستلاب، فكان من الضروري إيجاد صيغة حركية إسلامية تتلاءم ومستوى التحدي الداخلي والخارجي الذي تعيشه الأمة الإسلامية وشعوبها المتناثرة في أصقاع الأرض.

لم يكن الإمام يتوقع نشوء أحزاب إسلامية على شاكلة الأحزاب العربية التي نشأت بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وهي أحزاب جاءت على أنقاض صرح دولة مريضة لم يكن الإسلام ليشكل أية قيمة في وجودها السياسي والاجتماعي أو في علاقاتها بالمسلمين في حيز الدولة، أحزاب شددت على ضرورة قطع أية علاقة بين المسلمين وحركية حضارتهم الإسلامية بموازاة التشدد في العلاقة بالبعد القومي مما سهل على أعداء الأمة عمليات إخضاع الخريطة العربية والإسلامية لمشتهيات مشروعهم السياسي وهو أساس دعوة الإمام الشيرازي التي تقوم على معرفة ما يفكر به أعداء المسلمين في ظل واقع التجزئة الإسلامية.

إن الإمام يستشرف بحسه الحركي وإدراكه لطبيعة المؤامرة الدولية على الإسلام والمسلمين، كيفية التخطيط الاستراتيجي للمؤامرة قبل أكثر من أربعين عاماً، وكيف أن المشروع الغربي في العالم الإسلامي يحاول تدمير مكامن قوة المسلمين، هذا في الوقت الذي لم تكن فيه اتجاهات متطرفة في العالم الإسلامي ولم يمض على موت جمال الدين الأفغاني إلا سنوات ليست من عمر التاريخ وفي الوقت الذي لم تكن فيه الولايات المتحدة الأمريكية قد انتهت من بناء مركز التجارة العالمي. ما يعني أن الإمام كان يتابع ما يكتب في الغرب ويلتقط أدق السمات الواضحة في عمل استراتيجية المشروع الغربي إزاء خريطة العالم الإسلامي، يقول الإمام: (قبل ثلاثة عقود كتب رجل ألماني اسمه (بول اشميد) كتاباً أسماه (الإسلام قوة الغد) ويذكر في الكتاب أن على الحكومات الغربية أن توحد صفوفها وتكرس جهودها لأجل إعادة الحروب الصليبية مرة أخرى - ضد المسلمين وأنه إذا لم تفعل الحكومات الغربية ذلك فسوف ينتصر المسلمون عليهم - ثم يستدل على هذه المقولة، بأن المسلمين يمتلكون أربع قوى هائلة وإذا وعى المسلمون لما يمتلكون من قوى جعلوا منها حربة قاتلة ضد الغرب:

1- خصوبة النسل - فهم (المسلمون) يؤمنون بتعدد الزوجات وبكثرة النسل لأن نبيهم قال: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط) وهذا ما يسبب كثرة عددهم.

2- القوة الاقتصادية - فهم يملكون بحيرات الذهب الأسود (النفط) روح الاقتصاد المعاصر، ويملكون معادن هائلة تمكنهم ليس من النهوض فحسب وإنما من السيطرة على الغرب.

3- الدين الوثاب - لأن دينهم، دين عالمي تقدمي وليس ديناً قومياً أو قبلياً أو جامداً، والمسلمون يرون أنفسهم مكلفين بنشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ثم ينصح أشميد الحكومات الغربية بشن الحروب الصليبية على البلدان والشعوب الإسلامية(5).

إن الفكرة الحركية التي أشرف الإمام على بلورتها وإعطاء الأولوية القصوى للمسلمين في إخراجها إلى ساحة العمل الإسلامي في مواجهة المشروع الغربي، هي فكرة واسعة، ففي مقابل الانغلاق والقبلية والتعصب والرجعية التي وظفها المشروع الغربي ضد العالم الإسلامي يطرح الإمام حركية الإسلام الذي يحارب الانغلاق بالانفتاح، والقبلية بروح الأمة الإسلامية الواحدة، والتعصب عبر الإيمان بالآخر، والرجعية بالبديل السياسي والاجتماعي والإيماني الإسلامي.

ولم يخالط ذهن الإمام وهو يشرف على تأسيس هذه الحركية في الواقعين النظري والتطبيقي أن يكون له حزب يدعو لمرجعيته الدينية أو طرف يدعو لأفكاره وتوجهاته وتصوراته السياسية، لقد جاءت حركية الإمام لكي تعمل في حقيقة الأمر على بعدين أساسيين هما:

1- محاولة إبطال مفهوم النكوص السياسي الذي ظهر في أوساط قيادات ومرجعيات دينية بعد فشل ثورة العشرين في تحقيق أهداف وطنية في العراق، والتراجع إلى حلقات التدريس، والاهتمام ببناء الحوزة الدينية، والابتعاد عن طرح مناهج التغيير عبر محاربة الوجود الاستعماري في الأمة بعد تشكيل الحكومات المرتبطة بعجلة السياسة الاستعمارية، بل إبطال هذا النكوص في السطح الديني العام في خريطة التوجهات الإسلامية في الوطن العربي، التي كانت ترى في الوجود الاستعماري أمراً واقعاً، وفي العمل على اجتثاثه (تدخلاً غير مفيد في السياسة)، وإيجاد نهج إصلاحي إسلامي جديد مؤداه الارتباط الشديد بهموم الأمة وصناعة كتلة قيادية إسلامية هدفها إعادة كيانية الإسلام في الواقع الاجتماعي واحتواء هجمة المشروع الغربي والتعامل مع مقتضياته السياسية والعسكرية والفكرية في بلدان المسلمين.

2- محاولة القول بأن حركية الحضارة الإسلامية وما تملكه من (كارزيما) قادرة على الوصول إلى أهدافها في طرد السيطرة الغربية، وصناعة أمة عتيدة بفكرها وحضارتها وثوابتها في الحياة. وبما أن حركية الحضارة الإسلامية لا تتجسد إلا بمعرفة عوامل النهضة واستعادة الدور فكان لزاماً على الحوزات العلمية والمرجعيات الدينية والشخصيات القيادية في الأمة الاجتهاد في الوسائل والأساليب الثقافية والفكرية والسياسية لمواجهة ما بعد هيمنة الوجود الاستعماري في البلدان الإسلامية. لقد أراد الإمام في تأكيد هذين البعدين إثارة حقيقة النظرية الأممية الشمولية الإسلامية التي تطمح إلى مواجهة الحالة الاستعمارية؛ أي إن نهج الإصلاح الديني في رأي الإمام يقوم على نشوء أحزاب إسلامية تتصرف في الواقع باعتبارها رديفاً للحكومات الإسلامية وتمارس عملها ونشاطها وكونها المحورية القيادية التي تلقى على عواتقها مهمات إعادة النظام الإسلامي للحياة، ولذا جاء تقييم الحركية الحضارية الإسلامية للإمام - فيما يتعلق بالأحزاب الإسلامية - ليعكس طابع (الدولة) في الحزب، وليس حالة (التحزب) التي سقطت بها اتجاهات حزبية إسلامية منذ النصف الأول من القرن الماضي.

يقول الإمام وهو يضع مسطرة الهندسة لبناء هرم الحزب الإسلامي(إن هناك شروطاً أساسية لبناء التنظيم الإسلامي منها انتخاب القاعدة للقيادة، لأنه إذا لم يكن هناك انتخاب من القاعدة للقيادة انتخاباً حراً لا يكون التفاعل بين القمة والقيادة تفاعلاً عن اقتناع ومن أعماق النفس، وبذا يصبح التنظيم ديكتاتورياً والدكتاتورية لا بد من أن تزول إن عاجلاً أم آجلاً، لأن الاستبداد خلاف طبيعة البشر فالأمة التي يحكمها المستبدون لا بد من أن تثور ذات يوم، كما أن القاعدة التي تحكمها قمة مستبدة تصبر، ولكنها لا تمضي مدة طويلة حتى تثور على القمة وتسقطها)(6).

هذا النص صالح لإقامة دولة، وهو عين هدف الإمام من إثارته على مستوى حركية الحزب؛ ما يعني أن الإمام يراهن دائماً على التنظيم القادر على التحول إلى هدف الدولة الإسلامية في البلدان التي يحكمها مشروع استعماري أو أنه يتمظهر بأشكال الحكم الاستعماري في البلاد الإسلامية. إن موضوعات من مثل الانتخابات، إطاعة القيادة، والتنظيم الحديدي، دولة المليار مسلم في العالم، العمل بالشورى في حركية المشروع الحزبي، هي موضوعات حزبية لم يتم التطرق لها في مناهج الإصلاح الديني في فترة النصف الثاني من القرن الماضي، وهي الفترة التي دون الإمام فيها هذه الموضوعات؛ ما يعني أن الإمام أراد من إثارتها في أوساط هذه المناهج وفي حركة الأحزاب الإسلامية، إيجاد تيار فكري إسلامي قادر على مجاراة نشوء الأحزاب في الغرب والتدريب على الديمقراطية، لأنها حسب رأيه، من بين الأسباب التي أدت إلى تقدم الحضارة الغربية.

مشروع المدينة - مشروع الحوزة

قبل رحيل والده المرجع الميرزا مهدي الشيرازي (قده) كان الإمام يتطلع لكربلاء على أساس مخزونها الفكري والحضاري وتراثها الثقافي العريض وموقعها المقدس في الحياة الإسلامية ودورها في الحواضر والمنتديات الدينية، قبل أن ينظر إليها بوصفها أول حوزة دينية تخرج الطلاب والأفاضل والمجتهدين.

وفي مذكراته التي كتبها وعنونها بـ(تلك الأيام) إشارة بليغة (للدور الكربلائي) الذي كان يمارسه الإمام في الحياة السياسية العراقية أيام العهد الملكي، عبر زياراته المتكررة لبغداد ولقاءاته بالوزراء والشخصيات الدينية والسياسية، للمطالبة بحقوق الشعب العراقي عامة والشيعة بشكل خاص. وبعد وفاة مرجع الأمة الميرزا مهدي الشيرازي (قده) اتسع دور الإمام وامتد خطابه الفقهي الديني والسياسي ليشمل العراق بأسره، وفي كل ذلك كان الإمام ينطلق من حجم كربلاء ودورها التاريخي ويخاطب الأمة والسلطات السياسية المتعاقبة على خلفية خزينها المعرفي وقيمتها المعيارية الحسينية ولم تراود الإمام هواجس الخطاب المغلف بالطموح الشخصي لحصر المرجعية في كربلاء دون بقية الحواضر الإسلامية الشيعية. كان هدف الإمام الأساسي هو إنشاء مشروع للمدينة بموازاة مشروع الكيان العلمي، رغم أهمية هذا الكيان في حماية العلوم الدينية وتراث المدرسة الإمامية، لأن الإمام كان يشعر أن نشوء طقس خاص للمدينة الكربلائية كفيل باحتضان المعرفة والثقافة الإسلامية وتعزيز رصيد الظاهرة الدينية في العراق والعالم الإسلامي، لا سيما أن لكربلاء المقدسة قيمة اعتبارية في نفوس المسلمين لا يمكن معادلتها بجامع الزيتونة أو جامع الأزهر مثلاً، لذا تصرف الإمام مع الكيان العلمي والحوزة العلمية ومعارف العلوم الدينية بروح المدينة وخزينها العرفي وأبعاد الثورة الحسينية في الوجدان الشيعي العام، ولم يتلفت للتقاليد الثابتة التي ترسخت في قيم الحوزة وهي تضع بعض الشروط الاجتهادية الذاتية كمعايير لهذا الفقيه أو ذاك. هذا لا يعني أن الإمام لم يكن مع تلك المعايير وهو الذي شغل وكالات أبرز الفقهاء والمجتهدين الذين مروا في تاريخ الطائفة الشيعية، بل لأن الإمام كان يعتقد أن نهضة الأمة وبث روح الوعي الحقيقي لاستعادة دورها الحضاري المفترض وإمكانية انبعاثها الإسلامي ثانية وتحديد شكل علاقة الأمة بنظامها السياسي والحريات وسيادة الشورى ووحدة الشرائح المختلفة للأمة - لا يمكن أن تسود إذا تم الخضوع التام لهذه التقاليد التي كان بعضها يقف حجر عثرة حقيقية في وجه القيادات المرجعية التي تحمل هموم النهضة واستعادة الدور، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الإمام مسكوناً بهاجس خضوع مناهج الإصلاح الديني الحوزوي لقرارات عدم التدخل في الشؤون السياسية وانسحاب الإسلام من دائرة التصدي المباشر لمؤامرة إقصاء التيار الإسلامي في العراق، وهي مؤامرة كانت تجسيداً لثوابت مشروع التقسيم الاستعماري، دفعت الحوزة الدينية إلى الانكفاء على الدرس وممارسة التثقيف على نطاق ضيق لم يعبر عن حماسة حقيقية لعودة الإسلام في الواقع الاجتماعي العراقي والإسلامي العام، لهذا انصب اهتمام الإمام على إحياء دور (المدينة) في الحياة الإسلامية وأخذ يتعاطى شؤون المرجعية وهو في موقع الريادة الاجتهادية وشؤون السياسة والعمل الحركي وهو الخبير بتاريخ الأحزاب السياسية في العراق والعالم الإسلامي من خلال روح المدينة ودورها ومركزيتها الفكرية؛ فجاءت آراؤه في الحركية جماهيرية شوروية، عكست الطابع الشمولي الذي كان يفترض أن يتجذر في الحياة العراقية في تلك الحقبة.

وفي هذا الصدد يقول السيد الإمام: (التنظيم الجماهيري يعني أن تكون مؤسسات التنظيم وعناصره ملتحمة بالجماهير، وأن ينظم طاقاتها ويقودها في معارك التحرر ضد الاستعمار والاستبداد، ولو فقد التنظيم صلته بالجماهير فسيعيش في الفراغ ولا يتطور وبالنتيجة لا يستطيع تقديم الأمة إلى الأمام ولا طرد الاستعمار من بلاد المسلمين، وإذا كان التنظيم جماهيرياً فالجماهير تغذيه فينمو ويتسع حتى يستوعب العالم الإسلامي، وتحدث عندئذ اليقظة الكاملة والحركة الشاملة ثم مكافحة الاستعمار وطرده)(7).

الملفت أن الإمام في تلك الفترة التي كان يدعو فيها إلى هكذا نوع من التنظيم الإسلامي، كان يخاطب الشعوب الإسلامية كلها ونخبها الدينية والقيادية المثقفة، من مشروع مركزية المدينة ولم يكن يخاطبها بوصفه زعيم حوزة ومجتهداً كبيراً له قيمته المعرفية وتاريخه السياسي كزعيم وطني، لذا كانت توجهاته الحركية لا تخرج عن إطار دعوة التنظيم للاندكاك الحقيقي بأعماق الجمهور ووجدانه، ويرى أن ابتعاد التنظيم عن الجماهير هو ابتعاد عن العمق والروح التي تغذي التنظيم بالقوة والواقعية والنمو والحياة.

ولأن السيد الإمام كان قد خبر شخوص التجربة الحزبية في العراق والفساد القيادي الذي أودى بالعديد من الأحزاب السياسية، فإنه وضع شروطاً حاسمة ومواصفات نبوية للذين يتولون قيادة تلك الأحزاب كقوله: (إن القائد لو ارتمى في أحضان الفساد والارتشاء والاختلافات والميوعة الخلقية سقط من أعين الجماهير وانفض الناس من حوله، والجماهير لا تسلم زمام أمرها إلا إلى القائد النزيه. بناءً على هذا فاللازم على القيادات التنظيمية أن تكون في مستوى لائق وسام من النزاهة، وهذا العامل هو الذي جعل راية الأنبياء(ع) خفاقة لأنهم كانوا في غاية النزاهة والزهد والخلق الكريم..

إن الذي يريد أن يقود الجماهير يجب أن يضبط أعصابه ويحفظ لسانه وعينه وأذنه وقلبه، ولا يقبل على الدنيا، فقد قال عيسى(ع): (الدنيا داء والعالم طبيب، فإذا رأيتم الطبيب يجر الداء على نفسه فاتهموه)(8).

ولأن مسألة الجماهير ودورها في العمل الحركي، أساسية وجوهرية فإن السيد الشيرازي أشبعها بالتنظير والمعيارية القيمية، لأنه يدرك أن هذه المسألة تلعب دوراً كبيراً في ازدهار العمل الحركي وانحطاطه، ولكي لا يسقط العمل الحركي الإسلامي بذات الأخطاء التي سقط بها الذين سبقوه، نجد السيد الإمام يؤكد بأن (المقوم الثاني للتنظيم الجماهيري هو احترام الجماهير، فإن كثيراً من التنظيمات يأخذها الغرور والعجب بنفسها، فتنظر إلى الناس نظرة احتقار، وترى نفسها هي العاملة والآخرين كلهم خاملين وجزاء الناس لهذه التنظيمات احتقارها وإهانتها.. مما ينتهي بشكل تدريجي إلى السقوط)(9).

هذا التنبيه الذي أطلقه السيد الإمام بوجه كل التنظيمات السياسية، نابع من خبرة طويلة في النظر للتجارب الحزبية التي عايشها في حياته الشريفة، وكانت هذه الحالة التي ينتقدها تشكل أزمة في أدوات العمل الحزبي في العراق؛ مما دفعه إلى التحذير من السقوط في وحلها. ولم ينس السيد الإمام - إلى جانب تنظيره للمسألة التنظيمية - أن يكتب عن معايشته لبعض نماذج الأحزاب التي انتهت إلى السقوط بسبب خضوعها للفساد والخلافات والأمراض السياسية التي لا دواء لها؛ فيقول: (إني قد لاحظت في تاريخ كثير من الحركات الإسلامية منذ مئة عام أنها فشلت في تقديم الأمة إلى الأمام وإذا كانت قدمتها فقد كان التقدم وقتياً؛ بسبب أن تلك الحركات لم تكن تحترم شخصية الجماهير، وبالنتيجة انفصلت تلك الجماهير عنها، وظلت هي وحدها في الميدان تنادي وتستنهض الهمم، فلا تسمع سوى صدى نداءاتها، وبانفصالهم عنها سقطت تلك التنظيمات. وما سقوط الحركات العاملة في العراق قبل 25 - 40 عاماً إلا لأجل ما ذكرناه. وقد كان مجموع الأحزاب في العراق أربعة وأربعين حزباً من مختلف التنظيمات والانتماءات، ولم تتمكن من إنجاز شيء يذكر).

ويمضي السيد الإمام في سرد الشواهد المرجعية وعلاقتها بالجماهير، لكن هذه المرة من عمق العائلة الشيرازية التي أقامت دولة إسلامية في كربلاء، إبان الاحتلال البريطاني، قاصداً من إثارة هذه الشواهد إلفات النظر لقيمة المرجعية الدينية في تثوير الناس وتحريضهم ضد الاحتلال واسترداد الحقوق وإقامة الدولة الإسلامية. إن الإمام يروي هذه الشواهد من موقعه كشاهد على مرجعية الميرزا تقي الشيرازي (قده) قائد ثورة العشرين والمحرض الأساسي لها، وهدف الإمام أيضاً من وراء هذا السرد بيان علاقة هذا الفقيه الحركي الكبير بجماهير الشعب العراقي ووقوفه معهم ومؤازرتهم في جهدهم الجماهيري لطرد العدوان ومواجهة الإرهاب الحكومي الذي كانت تمارسه بريطانيا أوائل القرن الماضي.. يقول الإمام:

(إن واجب التنظيم أن يلاحظ الجماهير على طول الخط فإن الجماهير هي التي تتمكن من إنقاذ بلاد الإسلام، لا جماعة خاصة من المثقفين فقط. إن مثل الجماهير كمثل الماء، فإذا لم يكن هناك ماء في البحر فلا تبقى الأسماك حية والتنظيم مثله مثل السمكة، فقد نقل لي أحد المراجع عن قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) - الذي أسس أول دولة إسلامية في كربلاء المقدسة - أن الإمام الثائر قد التفت حوله الجماهير بصورة غريبة، الشيوخ والعشائر، الكبار والصغار، ضد بريطانيا الغاصبة، وكان وراء بريطانيا في ذلك اليوم أكثر من ألف مليون - الهند بكاملها والصين والشرق الأوسط ومناطق أخرى من أفريقيا وغيرها - لكن هذا القائد الإسلامي المحنك تمكن من أن يطرد الاستعمار البريطاني من العراق، وكان الزحام هائلاً حول الميرزا محمد تقي الشيرازي، ومن الطبيعي أن المرجع بتلك السن المتقدمة لا يتمكن أن يجمع بين القيادة الثورية وبين قضاء حوائج الناس، وأنه رحمه الله قال لنا نحن معاشر الطلبة: كنت أتمكن من قضاء حوائجكم شخصياً قبل الثورة وأما بعد الثورة فإني مشغول بالمسؤوليات.. فإذا كانت لأحدكم حاجة فإني في كل يوم بعد صلاة الصبح أخرج إلى الشوارع الممتدة في أطراف كربلاء المقدسة، فيتمكن كل طالب علم أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد أن يأتي في ذلك الوقت لأقضي حاجته).

إن الجماهير العراقية التي كانت تتجه من كافة المحافظات والمدن والقرى للالتحاق بالثورة إلى كربلاء كانت ترى في الميرزا تقي الشيرازي (قده) وكربلاء كمدينة تحتضن تراكم المعارف والثورات والقدسية الحقيقية - الامتداد الطبيعي لنهج الثورة والحركية الواعية، والموئل الذي تستظل به في مراحل الكفاح الوطني والإسلامي. هنا نعتقد أن إقرار الإمام لمبدأ المشاركة الجماهيرية، واحترام رأي الجمهور في أمر الثورة والعمل الحركي والكفاح المسلح ومحاربة العدوان، يلتقي وإقرار الشيخ محمد تقي الشيرازي (قده) ونهجه في الإصلاح الديني؛ فالميرزا كان قائد ثورة ضد نهج الاحتلال والعدوان، والإمام الشيرازي لم يخرج عن سياق اللغة الثورية والسياسية والحركية للزعيم الوطني والإسلامي كبير العائلة الشيرازية، فهل هو نهج في عائلة أم طريقة حركية في محاربة العدوان وإقامة خيار الدولة الإسلامية؟.

نحن نعتقد أن العمل الحركي الإسلامي يمثل أحد الخيارات المرجعية والقيادية للعائلة الشيرازية بما أوتيت من قيمة ونزاهة وصدقية وجماهيرية بين أوساط الشعب العراقي، بل في الأوساط الإسلامية المجاورة مثل إيران عبر ثورة التنباك التي قادها الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه الله).

أخيراً نقول - إن حركية المشروع الحضاري الإسلامي العالمي للسيد الإمام الشيرازي (قده) وهي تستهدي (بالمدينة) رغم هجرته من العراق، قادرة على إحياء مفاهيم نهضة إسلامية شاملة يقودها الإسلام ويبلورها بأصالة ومشروع الراحل الكبير وتنظيره وتاريخه.

الهوامش:

(1 -9) كتاب السبيل لإنهاض المسلمين.