الفقهاء الكبار يكتبون التاريخ مرتين

عمار البغدادي

حين يشعرون بالموت وهو يزحف في الشرايين والأوردة والوجدان القائم في الأمة وأخرى عندما يتحول إلى ظاهرة في الكتابة.

لحظتها يكون الفقيه محراب وحدانية الحرف، وشقيقه السيف المجرد من الخوف، والصوت المحمدي الشاهق القادر على استيعاب مظاهر السفيانية ورجالها ونصوحها وانقلاباتها في الفقه والتاريخ والحياة.

هنا وبعد عشرين يوماً وأربعمائة وثمانين ساعة مضت على وفاة الإمام لا يسعفني إلا القول بأن فقهنا الإسلامي وبالخصوصية المتفردة التي اجتهد الإمام الراحل في صياغتها قادر على كتابة التاريخ ولا تعجبوا أو تندهشوا من تلك الحقيقة فالشيرازية كنهج وسلوك وطريقة في التعاطي مع الإسلام لم تتوقف عن كتابه التاريخ عبر حركية الشخص أو الرمز فحسب بل استطاعت أن تدخل الفقه الحرفي أساساً في كتابة التاريخ.

من الآن وحتى بروز شخصية بوزن الإمام، لا بد من التعامل مع مكونات المنظومة الفقهية والحركية والسياسية والحضارية والسلوكية للإمام باعتبارها رسالة وقضية وهماً يجب أن يعيش هذا الجيل من أجلها، وأن نخرج من دائرة أدب البكاء إلى صناعة لا تبكي الأدب بل تنتجه.

فلقد تعاطى الإمام الراحل مع الإسلام من موقع الإنتاج وروحيته لا من موقع ندب الإسلام وبكائه وبهذا تشكل حيز متقدم للمشروع الإسلامي يمتاز بالتفرد في مرحلة الوفرة وبالاستمرارية في زمن الجمود والتقوقع والحركية، في لحظة الانكفاء عبر التقليد وتحكيم التقاليد.

من حق مريديه أن يذرفوا الدموع الكبيرة على فقده فهو يستأهل تلك الدموع لكن رحيله (قده) فرض منذ الساعات الأولى واجبات ليست أقل من الواجبات التي يفرضها موت الكبار، فهل سيلتفت إليها العلماء والمثقفون والمقلدون والاتباع؟.

ما تركه الإمام في حياته يجب أن يتضاعف بعد رحيله كماً ونوعاً مع محاولة إخصاب منابع القوة والحركية التي عاشها الراحل الكبير وجند كيانه الشريف من أجلها.

الإمام الشيرازي إمام في كل عناصر الإمامة، إمام في الفقه والواقعية والتنظير والأخلاق والدعوة، إمام في الشفافية والروحانية والتسامح، إمام في القيادة واستقطاب الجماهير، وإمام في الصبر والتحمل ومواجهة المطاردة بروحية الإمامة، كما هو إمامة لمشروع التاريخ والتفاعل مع صيرورته وقوانينه وأحكامه، وفي هذا، وبعد أكثر من خمسين سنة إنسانية على عمله واجتهاده وجديته يجب أن ننظر إليه ونتفاعل معه مثلما تفاعل الفرنسيون مع فولتير وديغول وضحايا شركة الهند الشرقية مع المهاتما غاندي ومحمد علي جناح لأنه جسد في حركيته الشخصية والموضوعية كل مواصفات إمام الجماهير وأهدافها وساهم بقوة في تحديد الساعات التاريخية، كان الراصد العملاق لمسيرة الشعوب في بحثها عن حقائق السيادة والحرية والسلامة ودونكم (تلك الأيام) لتكشفوا إسلامية الإمام وعراقية الإمامة وإنسانية المطالب.

برحيل الإمام الشيرازي(قده) يكون زمن آخر من أفكاره ومحاولات تجسيدها وتمليها في الحياة، وفي حركة التاريخ قد بدأ وهنا المسؤولية الأخلاقية الكبرى الملقاة على عاتق الأساتذة والعلماء والمثقفين، هذا الزمن لا يبدأ بالاجترار والتكرار وطقوس الندب والتأمل والبكاء، بل بالمراجعة والحث على الاجتهاد، والآفاق الشيرازية لن تترك الباب مفتوحاً للتأمل السلبي والبكاء على الأطلال لأنها كما قلت في البداية، قادرة بنفسها أن تكتب التاريخ مرتين.

أمامكم شوط طويل لإنجاز مهمة التمثل وأول استحقاقات هذا التمثل التطهر بالعفو والتسامح وممارسة اللاعنف سبيلاً للدخول في مدرسة التجديد المطلوب فلا يجوز التجديد دون التطهر بالتسامح ولعل أهم ركيزة في فكر الإمام الراحل أنه ربط التجديد باللاعنف ربطاً محكماً على خلفية بناء خارطة العالم الجديد عالم الإيمان والحرية.

برحيله المقدس، نتذكر كل الأنبياء والإصلاحيين والأولياء والشهداء والدعاة المجاهدين نطوف في مدار فكره سبعاً ونتبعها بسبع انطلاقاً من إيمان عميق بأن هذا الإمام ترك في الساحة بيتاً مقدساً من الفكر يتجدد بالطواف عليه ويتسع لمحاكاته وقبوله وإعادة إنتاجه، وبرحيله المقدس ترجعنا الذاكرة العراقية الوحيدة التي بكته بدل الدموع دماً إلى أيامه وبيته وصلاته في كربلاء فلا نجد إلا دم الحسين (ع) يسفح كل ليلة وعيد عميقاً في الصخور والرجال والمسافات ليتواصل مع نزيف دم الإمام في مستشفى الكلبايكاني بعناية المفهوم الاستشهادي مثلما أحاط دمه النبوي الفاطمي الحسيني قبر الحسين بعناية المفهوم ذاته.

أربعمائة وثمانون ساعة مضت على رحيل الإمام كافية لكي يبدأ زمن الشيرازية المفترض طريقة في الفكر وأسلوباً في عرض الإسلام ونهجاً في الثبات على القيم فهل نحن بمستوى المهمة..مهمة صناعة الزمن القادم؟!!.