دروس وعبر من سيرة الإمام الراحل(**)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أجمعين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (لقد كان في قصصهم عبرة).

يقول الإمام الكاظم عليه الصلاة وأزكى السلام: (إذا مات المؤمن الفقيه بكت عليه ملائكة السماء وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها)، في هذا المسجد(*) وهذه البقعة المباركة التي كان يصلي فيها مرجعنا وإمامنا الراحل كان بين ظهرانيكم حوالي تسع سنين كان يصلي في هذه البقعة المباركة التي تبكي الفقيد السعيد، هذا المسجد يبكي الفقيد السعيد، ملائكة السماء تبكي، تبكي بأسى وحرقة لأنها تعرف من كان هذا الإمام العظيم. إذا مات المؤمن الفقيه بكت عليه ملائكة السماء وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، كم من عمل صالح تركه لنا فقيدنا السعيد كم من مؤسسة إنسانية، كم من مؤسسة دينية، كم من كتاب، كم من فضيلة لأهل البيت الأطهار عليهم صلوات الله، كم ترك هذا الفقيد السعيد من آثار، من بركات، ومن خيرات، ومن مبرّات وأعمال صالحة.

الآن تبكي عليه أبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، (وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء)؛ لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام.. عظّم الله أجوركم جميعاً بهذه المأساة؛ هذا الحصن الذي انهد، وهذا الركن الذي انهدم، أفجعنا وأبكى ملائكة السماء.

من كان الفقيد الراحل؟ وكيف كان؟ وكيف عاش؟ وأي اتصال كان بينه وبين ربّ الأرباب؟!!.

تخطي حاجز الزمان والمكان

من عظيم نِعم الله سبحانه وتعالى على عبيده أن منحهم فرصة تخطّي حاجز الزمان والمكان، أن منحهم فرصة الامتداد على مدى التاريخ؛ فالإنسان يعيش حبيس جسده، يعيش محدوداً في مكان معيّن، ومؤطّراً بزمن محدّد، يعيش حياته المادية حياةً ضيّقة محدودة منتهية. إلا أنّ الله سبحانه وتعالى منح هذا العبد فرصة أن يتجاوز هذا الإطار الضيق، لكي يحلّق على مدى التاريخ، ولكي يكون عبرةً وعظةً وموعظةً للأجيال على مدى الزمن.

فقيدنا الراحل (رضوان الله عليه) كان ذلك الرجل الذي منحه الله سبحانه وتعالى هذا العطاء في أجلى صوره، وأسمى تجلّياته؛ فتخطّى حاجز الزمن لكي يبقى ذكره وذكرياته وقصصه ومواعظه خالدةً على صفحات التاريخ مسجلة بأحرف من نور.

كان (رضوان الله عليه) ذلك الرجل الذي نذر نفسه لله، وسيطر على ملاذ الجسد والروح، وعلى شهوات النفس، فمنحه الله الذكر الخالد، والخروج من هذا السجن لكي يبقى حياً على مدى التاريخ.

كان (رضوان الله عليه) ذلك الرجل الذي سحق تحت أقدامه ملذّات النفس وشهواتها ولذائذ الجسد.

أذكر لكم بعض النماذج كي تكون دروساً وعبراً لنا جميعاً لكي نسير نحن أيضاً على هذا الدرب، ولكي نخرج من هذا الإطار الضيق، ويبقى ذكرنا عَطراً على مدى التاريخ، (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) فهذا نبي الله إبراهيم من أعظم أنبياء الله سبحانه وتعالى على الإطلاق، عندما يطلب من الرب الجليل طلباً، فإن هذا الطلب سيكون قمة الطلبات، لأن الرجل نبي من أولي العزم، طلبه من عظيم العظماء، من ربّ الأرباب؛ فلابد أن يكون هذا الطلب قمة في الطلبات (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)؛ علينا أن نحاول أن نكون كذلك، وأن نهتدي بهدي هذا الرجل العظيم.

جهاد النفس

أنا شخصياً رأيته مرات عديدة، ليس مرة أو مرتين، شاهدته بعد يوم حافل بالنشاط والحركة والكتابة والتأليف وإلقاء سلسلة من المحاضرات، بعد هذا اليوم الحافل بالنشاط كان يلجأ إلى النوم في الساعة العاشرة مساءً أو العاشرة والنصف تقريباً، إلا أنه بعد نصف ساعة كان ينتزع نفسه من الفراش انتزاعاً، فكان يستيقظ وهو مرهق أشد الإرهاق، وهو مكدود وهو بعد لما يكتف من النوم، بعد يوم حافل فإنك تحتاج إلى ساعات من النوم لكي تستعيد حيويتك ونشاطك، إلا أنه كان ينتزع نفسه انتزاعاً من الفراش، وكان يتكئ على الجدار ويذهب ليتوضأ ويعود لينشغل بالكتابة حتى الصباح، وبركعات تتخللها أيضاً وبذكر الله جلّ وعلا، وأحياناً أخرى كان يتمشى لكي يتمكن من التفكر فيما يكتب.

كانت حياته (رضوان الله عليه) تجسيداً حقيقياً لمن نذر نفسه لله، كان قليل النوم جداً؛ عندما كنا نقول له: (إن لبدنك عليك حقاً) ينبغي أن تعتني بهذا البدن أكثر، عليك أن تنام أكثر، كان يقول: (إن والدي - الجد (رضوان الله عليهما) - كان قليل النوم جداً، فعندما كنا نقول له نم قليلاً وأرح جسدك قليلاً كان يقول: إن ورائي في القبر نوماً طويلاً).

هكذا أولياء الله، على حسب تعبير الإمام(ع): (بنفوس أرواحها معلقة بالملأ الأعلى)، لا يفكر في هذه الحياة ولا في لذائذها ولا في شهواتها، كلّ ما يفكر فيه هو أن يقدم أكثر فأكثر.. لرفع راية أهل البيت(ع) في العالم أجمع.

كان قليل الأكل؛ يتجنب الأطعمة اللذيذة، تصوّر؛ وكان مقيداً بأن يأكل لوناً واحداً من الطعام، وأحياناً كانوا يجيئون بالحلوى على المائدة فكان يتجنب أن يأكلها، أو أي لذيذ آخر قدر المستطاع لكي يضغط على جسده أكثر فأكثر.

سمعت منه مراراً هذه الكلمة: (إن بين الروح وبين الجسد، العلاقة هي علاقة والضدية والودية، فكلما اقتربت إلى ملذات الجسد أكثر كلما حُرمت توفيقات الروح، وكلما ضغطت على جسدك وسيطرت على شهواتك أكثر فأكثر كلما حلقت الروح أكثر فأكثر، وكلما وهبك الله من لطفه وفضله وبركاته أكثر فأكثر).

هذه النقطة كانت من أسرار توفيق السيد الوالد (رضوان الله عليه) فكان يضغط على جسده، يضغط على شهواته، يجنّدها جميعاً لله سبحانه وتعالى، فأضحى عبرةً لنا وللأجيال على مدى التاريخ.

كان (رضوان الله عليه) يمتنع أن يذهب إلى النزهة، مع أن هذا من الحق الطبيعي لكل إنسان، لكنه كان يرفض الذهاب إلى بستان أو حديقة أو اصطياف أو غير ذلك.. إذ كان يرى وقته وحياته أثمن من أن تضيع ولو لحظة واحدة منها في نزهة، أو ما شابه، وإن كانت مباحة، وإن كانت ربما مستحبة في بعض الأحيان، إلا أن هنالك واجباً أسمى، هنالك واجبات؛ واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي لم يقم به من فيه الكفاية، فكان قد جنّد حياته كلها في هذا الصراط، وفي هذا الخط المستقيم.

ذات مرّة وهو في كربلا ء المقدسة، كان الرجل - كما تعلمون - رجلاً مجاهداً صامداً في وجه الحكومات الطاغية، فبلغه نبأ بأن هنالك محاولة لاغتياله بعد صلاة الصبح، فخرج إلى خارج كربلاء المقدسة إلى بستان معين، إلى أن تنجلي الغمّة، قبيل المغرب أخبر بأن الخطر قد زال، فعاد وصلى صلاة المغرب في صحن الإمام الحسين (ع)، بيد أنه لم يضيع هذه السويعات القليلة بين طلوع الفجر وبين غروب الشمس، في هذه الفترة بدل أن ينتهزها فرصة لبعض الترويح عن النفس، فإنه بدأ بالكتابة، فعندما خرج من المنزل لم يصطحب معه إلا القلم وبعض الأوراق، في هذه الفترة كتب كتاباً كاملاً طُبع من قبل فترة من الزمن أكثر من 25 طبعة، باسم (من قصص العلماء) حوالي مئة قصة تربوية توجيهية متميزة ضمنها في هذا الكتاب.

هكذا كان يستغلّ حتى السويعات، حتى اللحظات، لو أنه قد قضى وقته في البستان في تريض وتنزه ونزهة أكان يبقى منه شيء؟‍! هل يبقى منا شيء لو أننا صرفنا أوقاتنا هكذا؟!! كلا وألف كلا!.

كان (رضوان الله عليه) لنا - ولا يزال وسيبقى - نعم الأسوة، كان ذلك الذي نذر نفسه للرب، كم تعرض في حياته إلى ضغوط، إلى أهوال، فتعرض طوال حياته فيما أعلم أنا إلى ثمان مرات للاغتيال؛ هذا الرجل العظيم، مع ذلك لم يثنه كل ذلك عن الصمود والاستقامة والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك كله وبعد كل هذه المعاناة واصل واستمر لكي يُقدِم على ما قدم عليه.

هكذا أولياء الله، هكذا الصالحون، هكذا الذين يعيشون في هذه الحياة بأجساد تكون بيننا إلا أن أرواحهم تحلّق في آفاق الملكوت؛ الروح، الفكر، النفس، كلها تحلق في عالم آخر، لا تعير للذائذ الحياة الدنيا أدنى اهتمام، ولا تعطيها أية قيمة على الإطلاق.

يجب أن تكونوا في القمة

ولننتقل إلى وصية من وصاياه، هذه الوصية التي كان هو (رضوان الله عليه) التجسيد الحقيقي لها، والتجسيد الأعظم لها - فيما نعلم - كان يوصي زوّاره - وهذه الوصية لنا جميعاً - يوصي رجال الدين والكسبة والشباب الجامعي الذين كانوا يزورونه، إذ كان يقول: (يجب على الموالي لأهل البيت(ع) - بعبارة يجب - أن يسعى لكي يكون القمة في أي حقل توغّل فيه)، فإذا كنت رجل دين يجب عليك أن تسعى لأن تكون في القمة، لكي تستطيع أن تقدم خدمة بذلك المستوى الرفيع، وإذا كنت خطيباً يجب عليك أن تسعى لأن تكون في القمة، وإذا كنت شاباً جامعياً يجب عليك أن تسعى لأن تكون في القمة، لكي يشار إلى شيعة أهل البيت في كل العالم بأنهم هم المتميزون؛ في الفيزياء، في الكيمياء، في الطب، في السياسة، في الاقتصاد.. يجب أن يكونوا هم قمم العالم، وليس اليهود أو النصارى أو من أشبههم من تلك الملل والنحل..

كان يقول يجب على كل شخص، على كل شيعي، على كل مؤمن أن يسعى لأن يكون القمة، لكي يستطيع أن يقدم أكبر خدمة؛ إذا كنت كاسباً فاسع لكي تكون تاجراً عملاقاً، لكي تستطيع أن تخدم أمتك ودينك ومذهبك أكثر فأكثر.. وهو (رضوان الله عليه) كان القمة السامقة في العديد من الحقول؛ في حقل العلم كان متميزاً منذ الصغر، ربما كان في الثامنة وكان في ذلك الوقت حافظاً للقرآن الكريم، وكان في ذلك الوقت ولما يبلغ الثامنة من العمر يحفظ ثمانية آلاف بيت من الشعر، سواءً أشعاراً تربوية أو توجيهية أو علمية أو ما أشبه ذلك..

موسوعته الفقهية؛ هذه الموسوعة يخمّن بعض العلماء أن الفروع الفقهية التي تضمّنتها هذه الموسوعة تجاوزت النصف مليون مسألة في شتى الحقول، وشتى العلوم، بما فيها المسائل المستحدثة.

كان الرجل العظيم الذي آلمنا جميعاً نبأ وفاته الذي لم يكن بالحسبان في هذه الفترة الزمنية، كان الرجل مصداق هذه الوصية في حقل العلم وفي سائر الحقول أيضاً.

كان يقتنص اللحظة من الزمن لكي يكتب بها، أو يطالع، أو يتفكر ويتدبر ويتأمل في ملكوت السماء، أو فيما تحتاجه البشرية في شتى الحقول وشتى العلوم، وشتى المعارف، كان قمّة في العلم والعمل.

على حسب تعبير أحد الأعلام كان يقول أن السيد الراحل (رضوان الله عليه) كان يقوم بمفرده بعمل جيش كامل، بعمل تعجز عنه مجموعة من العمالقة، فقد جند كل طاقاته وكل أوقاته، وكل لحظة، وكل خلية في جسده لخدمة الله ولخدمة أهل البيت(ع) ولخدمة الناس على مدى عقود من الزمن، في حقل المؤسسات، فكم من مؤسسة أسس، وكم من شخصٍ شجعه لتأسيس المؤسسات، ربما طوال حياته بتشجيعه وتحريضه، أسست الألوف وأكثر من المؤسسات ببركة تشجيعه وتحريضه وحثّه، كان ينتهج منهج: (منك الحركة ومني البركة) فيدفع الجميع نحو العمل، ويقول لهم: (لا تفكر في المشاق والمصاعب والعقبات التي تعترض الطريق، لا تفكر في أنك تملك مالاً أو لا تملك، انطلق (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، انطلق منك الحركة - على حسب الحديث القدسي - ومني البركة).

أحد الخطباء الكرام كان ينقل: ذات مرة ذهبت إلى السيد الراحل (رضوان الله عليه) وكانت بحوزتي مئة ألف تومان - وهو مبلغ زهيد جداً - من الحقوق الشرعية، قدّمت هذا المبلغ له، فقال لي انطلق إلى مشهد المقدسة وابنِ بهذا المبلغ مدرسة علمية متميزة باسم الإمام الرضا (ع).

يقول هذا الخطيب: استغربت من هذا الكلام! فكيف يمكن أن نبني بمئة ألف تومان مدرسة ضخمة قد تكلف مئة مليون تومان؟! إلا أن الروح التي بثها فيَّ وزرعها في أعماقي دفعتني لكي أطيع الأمر.

انطلقت إلى مشهد وبهذا المبلغ الطفيف الذي بارك به الله جل وعلا، أسست هذه المدرسة الضخمة التي تجدونها حالياً في مشهد المقدسة باسم (مدرسة الإمام الرضا(ع) ).

لا يهولنكم على حسب وصايا السيد الراحل (رضوان الله عليه) أنك لا تملك مالاً، أو لا تملك معونة أو نشاطاً أو المصاعب التي ربما تعترض الطريق.

انطلق، كل واحد منكم الآن يمكن أن ينوي بينه وبين ربه لكي يؤسس مؤسسة باسم السيدة الزهراء(ع) باسم مولانا صاحب الزمان (عج) باسم سائر الأئمة(ع) أو الأوصياء أو الأنبياء، فلينو ذلك وسيوفقه الرب سبحانه وتعالى حتماًً، لماذا لا يوفقه إذا وجد منه نية صادقة وعزماً راسخاً، فبمئة ألف تومان بُنيت مؤسسة، وأنا شخصياً شاهدت في مواطن عديدة، كثيراً من الناس من داخل إيران وخارجها كانوا يزورونه، فيشجعهم لبناء مؤسسة، ثم يدفع لهم مبلغاً رمزياً لنفرض مئة دينار أو ما أشبه ذلك، ويقول انطلقوا، والله جل وعلا كان يبارك في هذا المبلغ.

كان (رضوان الله عليه) قمة في العلم، كان قمة في تأسيس المؤسسات، وكان قمة في العديد من الحقول الأخرى؛ كان قمة في التواضع، يتواضع للصغير والكبير، هذه دروس وعبر لنا مهما ارتفع وعلا شأن الإنسان ينبغي أن يزيد ويزداد تواضعاً لله وللناس وللعلم وللعمل.

التواضع لله وللناس وللعلم والعمل

في محاضرةً كان يلقيها تكلم عن هذه الأبعاد الأربعة؛ يجب على المؤمن أن يزداد تواضعاً لله أولاً، وللعلم ثانياً، وللعمل ثالثاً، وللناس رابعاً؛ وكان هو التجسيد الحقيقي لهذه البنود الأربعة. كان حقيقةً قمة في التواضع، بما للكلمة من معنى؛ متواضعاً للعلم، متواضعاً في سبيل العمل، ومتواضعاً لخلق الله، ربما هذا الرجل الذي تستصغره أو تستحقره وهو بقال أو حمّال أو ما أشبه في العرف الاجتماعي ربما يكون ولياً من أولياء الله، ربما سيجب عليك يوم القيامة أن تتمسك بأذياله لكي يشفع لك لتذهب إلى الجنة، فإذا كنت أنا أو غيري قمة في العلم أو قمة في الثروة أو قمة في المكانة الاجتماعية علي أن لا أتكبر، لا أتكبر على عبيد الله، وإلا أحرزت سخط الله سبحانه وتعالى، كان قمة في التواضع، كان قمة في السيطرة على هوى النفس، فالنفس قوية جامحة والسيطرة عليها تحتاج إلى جهاد دائم، كان قمة في السيطرة على شهوات النفس، كان قمة في السيطرة على القوة الغضبية، أنتم تعلمون والكثير منا يعلم كم نال منه أعداؤه وكم حاربوه وكم هاجموه وكم افتروا عليه.. ومع ذلك كان يتلقى كل ذلك برحابة صدر، وبالإغماض عن السيئة وبالعفو عنهم في اللحظة، لم يكن يحمل في قلبه أي حقد أو أي بغضاء لأي مؤمن من المؤمنين وإن نال منه ما نال وإن اغتابه أو اتهمه وقذفه بشتى أنواع التهم.

أحدهم كان ينال من السيد (رضوان الله عليه) ويشهر به في المجالس، توفي له شخصٌ فقرر السيد (رضوان الله عليه) أن يذهب إلى فاتحته فذهب مع جمع من الناس، وعندما دخل إلى الفاتحة أعرض الرجل بوجهه عن السيد، ولكن الإمام مدّ يده لكي يصافحه إلاّ أن الرجل قبض يده، فأراد الذين برفقة السيد أن يتعاملوا معه بطريقة معينة، إلاّ أن السيد هدأ من روعهم، ودخل بكل هدوء وقرأ الفاتحة وقدراً من القرآن الكريم، ثم خرج مودعاً موصياً أصحابه بأن لا يضمروا لهذا الرجل أي بغض أو أي حقد وأن لا يقوموا بأي رد فعل على ما قام به من عمل.

وأمثال هذه القضية في حياته لم تكن بالنادرة، بل كانت تشكل سلسلة متواصلة الحلقات من هذا الإغماض وهذا العفو وهذا التسامح الذي يندر أن تجد له في البشرية نظيراً، كان (رحمه الله تعالى) قمة في العفو والإغضاء.

الاهتمام الكبير بالمرأة

كان أيضاً إلى جوار ذلك ممّن يهتم أشد الاهتمام بالقسم الآخر، بالشطر الآخر من البشرية، بذلك القسم وبتلك الجموع الكبيرة التي أضحت مهملة إلى حدٍّ ما في مجتمعاتنا، كان يهتم أكبر الاهتمام - على حسب وصايا الرسول الأعظم (ص)- بالنساء والمرأة، فكان يوصي بهن خيراً دائماً، كان شخصياً - وقد شاهدته ربما يومياً - يذهب إلى المطبخ وهو ذلك المرجع الذي اضطلع بمسؤوليات كثيرة لا تعد لا تحصى كان يذهب إلى المطبخ ليعين أهله في إعداد الطعام يومياً، ربما صباحاً وظهراً وفي وجبة العشاء أيضاً، كان تقريباً يومياً وأحياناً هو بشخصه يطبخ الطعام، التواضع لله التواضع لعباد الله، إكرام الأهل، إكرام الزوجة، إكرام الأبناء، احترامهم، إعطاؤهم قيمتهم..

هذه أيضاً كانت من أسرار توفيقاته اللامتناهية في الحدود التي يمكن للإنسان وللبشر أن يقوم بها، كان يوصي بالنساء خيراً، كان يريد أن يكون أسوة لنا جميعاً، رغم مسؤولياته الكثيرة رغم التدريس والتأليف والتأسيس والمحاضرات وعشرات من البرامج الأخرى.. قبل حوالي عدد من السنين تقريباً جعل في داخل المنزل درساً خاصاً للنساء من محارمه لبناته ولزوجات أبنائه (كنّاته)، ولعائلته أيضاً.. شخصياً هو يومياً كان يجلس معهن.. ويقوم بتدريسهم من درس الخطابة ومن المنبر إضافة إلى توجيهات تربوية وثقافية، واستمر على ذلك سنة كاملة.

سنة كاملة يبذل فيها وقتاً متميزاً لتربية ثلّة من النساء، هكذا كان يعتني بهذا الجانب المجهول والمنسي إلى حدٍّ ما في حياتنا.

طاقة متوقدة من الأمل والعمل

كان (رضوان الله عليه) أيضاً قمة في بث الروح، وزرع الأمل، والحض على العلم والعمل، عندما تلتقي به كان يحاول أن يستثمر هذه الفرصة وهذا اللقاء لكي يفجر طاقاتك، لكي تتحول إلى ولي من أولياء الله، لكي تتحول إلى شخص متميز يرفع علم الدين في أرجاء الأرض.

الكثير من الإخوة الكرام الذين زاروه شجعهم بقوله: عليك أن تسعى لطباعة ثلاثة مليارات من الكتب. الرقم قد يبدوا خيالياً إلا أن السيد الراحل (رضوان الله عليه) كان يؤمن بشراشر وجوده وبكل كيانه بكلمة أمير المؤمنين ومولى الموحدين(ع) الذي يقول: (أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر)، أتزعم أنك جرم صغير؟ بمقدورك أن تحقق ما لا يتخيله بشر لو أنك صدقت مع الرب، ولو أنني صدقت كما يقول أمير المؤمنين (ع) أيضاً: (فلما عرف الله منا الصدق أنزل علينا النصر)، لو أن الله سبحانه وتعالى عرف مني النية الصادقة، والعزيمة الراسخة، لأعطاني أكثر من القدرة على طباعة ثلاثة مليارات من الكتب.

فكان (رضوان الله عليه) يستنهض الأمة عبر بث الروح وزرع الأمل والحض والحث نحو المزيد من العطاء، نحو المزيد من التحرك والتقدم والازدهار..

عشق العودة إلى كربلاء

إلى جوار ذلك كله - وما أكثر صفاته وما أعظمها، وما أبلغها أيضاً وهي كلها حجة علينا - هو ذلك الشخص الذي يكنُّ في أعماقه أكبر المحبة لأهل البيت(ع) ، فكان ذلك الرجل الذي أفنى عمره في طريق المعصومين(ع)، والرجل الذي يحبهم أكبر الحب، كان يعشق الإمام الحسين(ع)، فترة ثلاثين سنة وأكثر في فترة وجوده في كربلاء، وحين هجّر من كربلاء المقدسة كان في كل لحظة يعايش كربلاء، وفي كل لحظة يأمل أن يفتح الله سبحانه وتعالى الطريق لكي يرجع إلى حيث مرقد سيد الشهداء(ع).

هذه الأمنية كانت تعشش في أعماق وجوده، إلا أن الله سبحانه وتعالى ارتضى له أن يلتقي بسيد الشهداء في عالم أسمى.

كان سريع الدمعة، فعندما يذكر سيد الشهداء كان يبكي وتنهمر دموعه بشكل غريب، وهناك صورة له حيث يبدو أن الخطيب كان قد بدأ بالحديث عن سيد الشهداء فانهمرت دموع السيد بمجرد ذكر سيد الشهداء، ويبدو في الصورة أنه قد رفع يده ليغطي وجهه، إلا أن الدموع سبقت يده، كان يحب سيد الشهداء (ع) أشد الحب، فقد جند كل نفسه وكل طاقاته، كل حياته للأئمة(ع)، وبالفعل لم يخيبوا أمله.

أحد كبار العلماء ينقل هذه الرؤيا الصادقة عن امرأة صادقة في أصفهان تميزت برؤاها الصادقة:

رأت في المنام السيد (رضوان الله عليه) بعد حوالي ثلاثة أيام من وفاته، السيد يقول لها في لحظات الاحتضار، هذه اللحظات التي تنتظرنا جميعاً فلننظر ما قدمنا لتلك اللحظات:

لحظات الاحتضار وجدتها صعبة، فتوسلت بالإمام الرضا(ع) فجاء الإمام الرضا(ع) واحتضنني، بقيت لمدة يومين في ضيافة الإمام الرضا(ع)، بعد ذلك جاءت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(ع) واحتضنتني وأنا الآن في ضيافة فاطمة الزهراء(ع).

كان يحبهم أشد الحب وفي المقابل من الطبيعي أن يحلّ ضيفاً عليهم وأن يعتنوا به، تقول هذه المرأة الصالحة: ثم شاهدت منظر التشييع وتلك الجموع الغفيرة التي تقاطرت من شتى الأنحاء لكي تعبّر عن بعض لواعج قلبها.. التشييع يمشي والمشيعون يمشون وإذا بالمشيعين بأجمعهم يتوقفون كأنهم بانتظار شخص، فسألَت - هذه المرأة - في المنام أحد العلماء الكبار: لم توقف المشيعون؟‍!، فقيل لها: لأنهم بانتظار شخص عظيم. قالت: ومن هو هذا الشخص العظيم؟‍ قال لها ذلك العالم في المنام ما مضمونه وما يفهم منه: المشيعون بانتظار ولي الله الأعظم(ع)، المشيعون بانتظار ذلك الشخص الذي يخضع له الكون كله.

أحد المؤمنين في المنام رأى الإمام الحجة(عج) وهو لابس ملابس سوداء في عزاء هذا الراحل المظلوم الذي كانت حياته كلها سلسلة من المآسي، من المشاكل، ومن المظلومية، منذ أن فتح عينيه، كانت كلها مشاكل، ألا يشارك ولي الله الأعظم(عج) في تشييعه؟!.

السيد الراحل (رضوان الله عليه) رغم مقامه العلمي السامي، إلا أنه تشرّف أيضاً منذ البدايات ليكون خطيباً لسيد الشهداء، في كربلاء المقدسة، وفي الكويت، وفي قم المقدسة أحياناً كان يرقى المنبر لكي يقرأ مصاب سيد الشهداء. والكل يتذكر أيام عاشوراء حيث كان يتحدث والدموع تسبقه، وكان يتحدث وهو لا يكاد يستطيع أن يكمل كلامه عندما يتحدث عن الإمام الحسين(ع).

نواصل حديثنا بهذه القصة التي كان ينقل نظيرها السيد الوالد،:

أحد العلماء الأبرار حضرته الوفاة، ودخل في إغماءة الموت وأهله وعياله حوله يبكون، فجأةً فتح عينيه واستعاد صحته وعافيته وقام وجلس، فاستغربوا كيف أن الله سبحانه وتعالى منّ عليه بالحياة من جديد؟!.

قام وقال لهم استمعوا قليلاً كي ألقي عليكم ولكي أنقل لكم جانباً من مصيبة سيد الشهداء(ع)، وبدأ يقرأ مصيبة الحسين (ع) بكل حرقة، وبكى كثيراً هذا العالم الكبير، وكذلك بكى أهله بكاءً مرّا.

بعد أن أكمل قراءة المصيبة التفت إلى أهله وقال لهم: إنني كنت في لحظات الاحتضار، فتجلى لي مشهد القيامة فرأيت الجنة ونعيمها والنار وعذابها، وعرفت أنني بفضل الله تعالى من أهل الجنة، رأيت إحدى الأبواب وقد كان الإمام الصادق(ع) هو الواقف على الباب هنالك وهو الذي يوقع على دخول هؤلاء الأشخاص إلى الجنة، فاتجهت إلى ذلك الباب وكان باب العلماء فوجدت الصف طويلاً والحساب دقيقاً، الإمام الصادق (ع) يحاسب كل عالم على كل كلمة وكل مسألة.

يقول هذا العالم الذي رجع من حالة الاحتضار: وجدت المسألة صعبة ربما تطول سنين، التفت وإذا بي أرى باباً آخر وعلى ذلك الباب الإمام الحسين بن علي(ع) والناس تدخل بسرعة البرق، فاتجهت نحو ذلك الباب وإذا بملك موكّل يقول لي: لا يحق لك الدخول من هذا الباب، فهذا الباب خاص لمن أبكى على الحسين (ع)، لمن تحدث وذكر مصاب الإمام الحسين (ع) أنت عد إلى ذلك الباب.

يقول هذا العالم: لقد تحيرت، ماذا أصنع فذلك الصف طويل والحساب دقيق؟، فمكثت هنيهة ثم وجدت أحد الخطباء - ربما كان اسمه الشيخ حسن ناظم - وجدت هذا الخطيب مسرعاً لكي يدخل من ذلك الباب فأمسكته وقلت له: يا فلان ساعدني لكي أدخل من هذا الباب، فقال لي: أوقرأت مصيبة الإمام الحسين؟ قلت له: كلا. فقال لي: عد إلى ذلك الباب، فتمسكت به وقلت له: يا فلان أوجد لي حلاً، فقال لي: ليس لدي من حل، وفي المرة الثالثة تمسكت به أكثر وتوسلت له أن يبحث لي عن حل، فقال لي: ليس هناك من طريق إلا أن أجلس وأنت الآن وفي هذه الحالة تقرأ مصيبة الحسين(ع) ببركة هذه المصيبة في هذه الحالة ستدخل من هذا الباب.

يقول العالم الذي أعادته الحياة من جديد إلى أهله: بمجرد أن قال لي هذا الكلام وإذا بي استعدت صحتي وعافيتي فقرأت على مسامعكم مصيبة الحسين(ع) وذكرت لكم هذه الحادثة.

بعد أن أكمل الكلام وإذا به يسقط وينتقل إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، لقد منحه الله هذه الفرصة، فرصة دقائق لكي يسجل اسمه في ديوان الذين يذكرون الحسين(ع).

إمامنا الراحل كان إضافة إلى صفاته كلها يتحلّى بأفضل الصفات؛ صفة حب أهل البيت(ع) بأسمى المعاني ويتحلى بصفة أنه خطيب وأنه من الذين يرثون سيد الشهداء.

شذرات عطرة

أذكر لكم بعض الصفات والمميزات التي كان يتحلى بها الفقيد السعيد؛ فأولاً التوكل على الله سبحانه وتعالى كان شديد الارتباط بربّ الأرباب وإله السماوات والأرض، ذات مرة كنت أمشي إلى جواره، والوقت كان قريباً من منتصف الليل في ساحة الدار، وقد تراكمت المشاكل، وأنذر الجو بعواصف شديدة، وطوقتنا وطوقته الهموم والغموم والمآسي من كل حدب وصوب، وتخلى عنه العديد، قلت له: أبتاه تركوك وحيداً هكذا!. كان الإحساس أنه ترك وحيداً في المعمعان، فنظر في تلك اللحظة نظرة هزتني من الأعماق، نظر إلى السماء ودمعت عيناه، وقال: من كان مع الله فليس بوحيد، من كان مع الله فليس بوحيد.. قلت له: أقصد أنك أصبحت كأبي ذر الغفاري حيث ورد في الحديث: (يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك وتدخل الجنة وحدك).

كان عظيمنا الراحل وحيداً لأنه كان عظيماً، كان وحيداً في أمته، رغم كثرة الأتباع، وكثرة المقلّدين، إلا أنه كان في مستواه السامي والرفيع والعظيم وحيداً كان عزاؤه الوحيد التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، كان يتميز أيضاً بشدة الإخلاص لأهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام، وبتلك الرابطة الروحية الوثيقة التي تشده إلى سيد الشهداء، والتي تربطه بسبط الرسول الإمام الحسين بن علي عليهما الصلاة وأزكى السلام، وكان هذا أهم سر من أسرار توفيقاته اللامتناهية.

وقال لي مرة: إنني طلبت قبل حوالي خمسين سنة أو أكثر من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام أن يوفقني لكتابة ألف كتاب.

وقد أعطاه سيد الشهداء (ع) ما أراد، وزاد له على ذلك أيضاً، حتى تجاوزت مؤلفاته الألف.. هكذا كان شديد الصلة بأهل البيت(ع) وكان شديد الثقة بهم، وكانوا له بمثابة الكهف الذي يلجأ إليه، والركن الذي يستند إليه، ولم يخيبوا ظنه، فقد أعطوه فوق ما يعطى للكثير من العظماء على مر التاريخ.

ذات مرة أيضاً كنت أتمشى معه في باحة المنزل، فقلت له: أحمد الله سبحانه وتعالى على أن وفقك لتقديم خدمات كثيرة لأهل البيت؛ هذه الكتب والمؤلفات التي كانت قد وصلت في ذلك الوقت إلى ثمانمائة وثلاثين كتاباً، وعشرات بل مئات بل ربما الألوف من المؤسسات التي تأسست بتشجيعه أو مباشرته وتنفيذه شخصياً.. قلت له: لقد قدمت خدمات كثيرة فهنيئاً لك هذا التوفيق، أجابني بجواب عرفت منه سراً آخر من أسرار توفيقاته، فقد كان يحمل في قلبه ذلك التواضع وذلك الخشوع المتميز، وتلك العبودية المطلقة لله ولأهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام.

التفت إليّ وقال بكل صدق وإخلاص: إنني لم أصنع شيئاً..

هكذا كان إحساسه؛ إذ كل ما قدم في سبيل أهل البيت(ع) فهو لا شيء في مقابل عظيم فضلهم علينا.. أليسوا هم أولياء النعم؟ أليس كل ما لدينا أليست حياتنا ووجودنا وأرزاقنا ببركتهم وبلطفهم بإذن من الله سبحانه وتعالى؟!.

هكذا كان إحساسه الذي يعايشه لحظة بلحظة؛ إنني لم أصنع شيئاً؛ لذلك كان (رحمه الله) دؤوباً، كثير الحركة والتحرك بشكل لا يصدق.

رائد الإصلاح

كان شهيدنا الراحل يتميز بأنه كان يجسّد مدرسة فكرية نظرية وعملية متكاملة؛ كان هو رائد الإصلاح، رائد المسيرة الإصلاحية طوال أكثر من نصف قرن، كان يدعو إلى السلم، كان يدعو إلى شورى الفقهاء، ويدعو إلى التعددية ويدعو إلى سعة الصدر، ويدعو إلى الحرية، ويتحدث ويكتب؛ يكتب عن طريقة التعامل مع المعارضة، وعن كل قضية تهم الإنسان شيخاً كان أم شاباً، رجلاً أو امرأة. وقد خلّف من التراث في هذا الحقل الشيء الكثير الكثير، كان (رحمه الله تعالى) تلك المدرسة الفكرية المتميزة، ولكن بعد عمر من المعاناة، فقد كانت حياته سلسلة من المعاناة، سلسلة من المشاكل، سلسلة من الضغوط، وسلسلة مستمرة من الأزمات.. لكنه كان ذلك الصابر المحتسب، فكانت حياته تجسيداً حياً للمعاناة والألم.

مات (رضوان الله تعالى عليه) وفي قلبه حسرة، بل حسرات، وفي قلبه آهة، بل آهات.. وقلبه معتصر من آلام كثيرة تواترت عليه طوال أكثر من نصف قرن، مات (رضوان الله تعالى عليه) وارتحل إلى جوار ربه وهو يعاني أشد المعاناة.. اتصلت بالوالدة يوم وفاته (رحمه الله) عبر الهاتف، وكانت تبكي وتقول: كان يود أن يرى أبناءه الذين حُرموا من رؤيتهم له طوال سنين، وحتى اللحظة الأخيرة كان بانتظاركم، كان يأمل نظرة واحدة.

كانت حياته كلها معاناة، لكنه مع ذلك لم يتغير ولم يتبدل وبقي ذلك الصابر المحتسب المجاهد في سبيل الله، الراضي بقضائه سبحانه وتعالى.

وماذا نصنع وإنني مأمور بالصبر ولا أستطيع أن أتكلم؟ لقد أمرني السيد العم شخصياً بالصبر، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجىً، كما قال أمير المؤمنين(ع)، لقد مات رضوان الله تعالى عليه، لكنه مع ذلك لم يمت، وكيف يموت من يعيش في قلوبكم جميعاً؟ كلكم أبناؤه، لم أفقده أنا وإخوتي فحسب بل فقدتموه أنتم، أنتم الذين عايشتموه طويلاً وكان لكم أباً رحيماً، كان يعطف على جميع أبنائه، كان يحب لهم كل خير، كان يتمنى لهم أن يرتقوا ويرتفعوا في سلم الكمال والخدمات والعلم والعمل، كان أباً لكم جميعاً؛ إنه لم يمت ما دام حياً في قلوبكم.

الصادق.. النموذج المصغر للإمام الصادق

يقول أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين: (يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر).. لقد غيب الثرى جثمان إمامنا الراحل (رضوان الله تعالى عليه) وغاب عن أعيننا، ولكنه لا يزال حياً، وسيبقى حياً في قلوبنا جميعاً، أنا أعرف تماماً أن كثيرين منكم كانوا يحبونه أكثر مما يحبون آباءهم؛ كان الأب الروحي لهم، الأب الذي وهبهم الحياة الحقيقية، الحياة الإيمانية، الحياة الخالدة، (أعيانهم) (العلماء) (مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة)؛ لم يمت (رضوان الله تعالى عليه) حيث خلّف ثروة كبيرة لا تقدر بثمن، لم يمت (رضوان الله تعالى عليه) حيث خلّف عالماً كبيراً ورجلاً ورعاً وعبداً صالحاً من عباد الله، نعم لم يمت السيد الوالد (قدس الله سره)؛ لشد ما يحزّ في نفسي ذلك، حيث كنت أقول للسيد الوالد دام ظله هكذا كنت أقول لسنين طويلة، والآن أجدني في موقف صعب اضطر لكي أقول قدّس سره، وأنتم جميعاً تجدون الحزازة في أعماق قلوبكم، لم يمت حيث خلّف أخاً ورعاً تقياً عالماً فاضلاً تركن إليه النفس ويطمئن إليه القلب، لم يمت حيث خلّف آية الله العظمى المرجع الديني السيد صادق الشيرازي (دام ظلّه الوارف)؛ هذا الرجل العبد الصالح المؤمن الصابر المحتسب الراضي بقضاء الله الذي كان أسمى نموذج للوفاء لأخيه الأكبر عقود متمادية، طوال خمسة عقود تقريباً كان إلى جواره لحظة بلحظة، كان يشدُّ من أزره، وكان ركنه الأيمن الذي يستند إليه بعد الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه)، لم يمت حيث خلّف هذا الإنسان الرباني هذا الرجل الذي قال فيه أحد أكبر علماء إيران، هو آية الله المرحوم المقدس السيد أحمد الإمامي الرجل المعروف بتقواه وبزهده وورعه وعلمه، وتشهد له أصفهان وإيران كلها بالفضل والتقوى والخشوع، هذا الرجل السيد الإمامي قال بحق السيد صادق: إنني أتمنى أن يهبني الله متسعاً من الوقت، أن يعطيني سنة أو سنتين أتفرغ فيهما من كل أعمالي وأكون بخدمة السيد الصادق، لكي أنهل من نمير علومه، ولكي أتزود من تقواه وورعه.

هذا كلام عالم كبير تشهد له كل الحوزات بالعلم والتقوى والورع، كان يتمنى أن يوفقه الله لكي يتفرغ للاستفادة من نمير علوم السيد الصادق، ولكي يتزود أكثر من ورعه وتقواه، وهو يقول أيضاً: إنني عندما أفكر في صادق أهل البيت الإمام الصادق (ع) أفكر في هذه القمة الشامخة التي لا يرقى إليها عقل بشر، وأبحث في هذا العالم عن نموذج مصغر يجسد سيدنا الصادق(ع)، فلا أرى إلا السيد الصادق؛ إذ كان يعتبر السيد صادق النموذج المصغر لإمامنا الصادق(ع) ؛ نعم أنه لا يمكن لأي إنسان أن يصل لمرتبة المعصومين، كما هو واضح، إلا أن الله سبحانه وتعالى أودع بين ظهرانينا أشخاصاً يذكروننا بعظمة المعصومين، ويعدون بحسب تعبير الإمامي النموذج المصغر لذلك العملاق الإلهي؛ نعم لم يمت السيد الشيرازي (قدس الله سرّه) وقد خلّف رجلاً بهذه المثابة، رجلاً تشهد له الحوزات العلمية بالعلم، كما تشهد له بالورع. وتشهد له بسعة المعلومات وبالإحاطة بشتى الفروع الفكرية..

ويمكن التحقق من مجموعة من كبار العلماء من الذين كانوا يعرفونه في كربلاء المقدسة، أو من الذين تعرفوا عليه في قم المقدسة، من أمثال آية الله العظمى السيد الفاطمي الأبهري وهو رجل مجتهد وله رسالة عملية مطبوعة منذ زمن طويل، ويعد من كبار العلماء، ومن مراجع التقليد أيضاً، هذا الرجل الجليل يعرف السيد صادق معرفة تامة، ويشيد بعلمه أكبر إشادة، كما يشيد بورعه، ويشيد بأخلاقه وتقواه الكثير من العلماء من القدامى ومن الجدد، من الذين عرفوه في كربلاء أو في قم أو في مشهد أو في الكويت وفي سائر الدول.. كما أن آية الله السيد مرتضى القزويني يعرف السيد صادق منذ الأيام التي عاشوها في كربلاء منذ حوالي خمسين أو أكثر من السنين، كنت أتحدث مع هذا الرجل تلفونياً فسألته عن السيد الصادق وعن الرجوع إليه، سألته مع أنني أطمئن إليه تماماً، لكن لمزيد من الاطمئنان سألته عن هذا الموضوع وعن معرفته الشخصية بالسيد صادق، فكان نص عبارته أن السيد صادق أهل لذلك من جميع الجهات، علماً وعملاً وتقوى وورعاً وإدارة و.. إلخ، الحوزات العلمية تعرفه أيضاً، وتقدر عظيم حقه؛ فهذا آية الله النمروري من كبار العلماء في تبريز يقول عن السيد صادق: إنني أعتبره أعدل من في الأرض على الإطلاق. أعتبره أكثر أهل الأرض عدالة على الإطلاق.. هذا فضلاً عن العشرات من كبار العلماء مما لا يسمح المقام بسرد أسمائهم.

وكتبه العلمية تشهد بمقامه العلمي السامي؛ كتاب لا ضرر وكتاب الاجتهاد والتقليد، وكتبه الأخرى.

نعم لم يمت السيد المرجع حيث خلّف هذه الثروة الكبيرة، حيث خلّف هذا العبد الصالح هذا الورع الخاشع الراضي بقضاء الله وقدره.. الكثير من مريديه يعرفون بأن السيد صادق كان محلاً لأشد أنواع الامتحان، اُمتحن في نفسه وفي أهله وعياله وفي أسرته، إضافة إلى الامتحانات الأخرى، ولكن مع كل ذلك كان هو الذي يعطي للآخرين الروح، يعطيهم الأمل، كانت البسمة ولا تزال لا تفارق شفتيه؛ رضى بقضاء الله صبراً على بلائه، هذا الرجل لم يمت، المقدس المرحوم لم يمت وقد خلّف هذه الثروة..

هناك من تلامذة السيد صادق مجموعة تدرّس حالياً الخارج، ومجموعة أخرى في مستوى تدريس الخارج، وربما أكثر من تسعة عشر من تلامذة السيد صادق بين مدرّس للخارج فقهاً أو أصولاً، وبين مَن هو في مستوى التدريس، ومنهم آية الله الأخ الأكبر السيد محمد رضا الذي تعرفونه جميعاً، تعرفونه بالورع وشدّة التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، إضافة إلى معرفتكم بعلمه وسعة معلوماته وتواضعه الجم وأدبه الكبير، والحديث في هذا الحقل يطول.

نحن جميعاً نعيش ذكرى رحيل عظيم من العظماء، رجل عاش حياته كلها، وقد جند طاقاته كلها في سبيل أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام، فقبل وفاته (رضوان الله تعالى عليه) بساعة أو ساعتين كان يلقي محاضرة على مجموعة من النساء تحدث فيها وبعدها بما لفت الأنظار وأثار الاستغراب ما الذي وراء هذا الحديث؛ تحدث عن نقطتين؛ الأولى عن التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، ثم تحدث عن الموت، وقال أذكركم بالموت.. الموت هذا هو دربي ودربكم جميعاً، فكروا في ذلك العالم الآخر..

وتحدث عن الموت حديثاً لم يسمعوه منه بهذه الطريقة؛ فكأنه كان قد ألهم بأنه على وشك الرحيل.

أحد العلماء وهو السيد جعفر الخونساري ابن المرحوم المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد الخونساري وهو في مشهد المقدسة ويعد من العلماء الأخيار رأى في ليلة دفن الوالد في المنام أن جنازة الإمام الكاظم(ع) تحمل على أكف المشيعين إلى حرم السيدة المعصومةu، ثم يطاف بنعش الإمام الكاظم حول الضريح، وبعد ذلك يدفن خلف الشهيد السيد حسن الشيرازي(ره). لم يكن يعرف عن الحدث شيئاً، وعندما استيقظ وسأل، وإذا به يرى الحدث كما رأى في المنام تماماً، السيد الوالد (رضوان الله تعالى عليه) يُحمل على أكف عشرات الألوف من المشيعين، ثم يُطاف به حول الضريح، ويدفن خلف أخيه الشهيد السيد الحسن رضوان الله تعالى عليهما.

نحن لا نملك في هذه المأساة وفي هذه المصيبة الكبيرة النازلة إلا أن نعزي سيدنا وإمامنا دائرة الإمكان الإمام الحجة(عج).

وجميع المؤمنين جميع أبنائه الروحانيين الذين عاش الإمام الراحل بين ظهرانيهم أياماً ربما كانت من أحلى أيامهم، كانت أيام طيبة عرفوه معرفة جيدة، بأدبه، بأخلاقه، بتواضعه، بعلمه، وبرأفته، وبما له من مقام ومكانة سامية، نعزي المؤمنين جميعاً بهذه المصيبة النازلة ولا بأس أن نطلع على جانب مما كان يكنه إمامنا الراحل لأخيه السيد الصادق من ثقة ومعرفة ومكانة.. نقرأ نص الكلام الذي كتبه الوالد عن السيد العم:

(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين، وبعد فإن جناب آية الله الحاج السيد صادق الشيرازي دامت تأييداته بما لمست منه من بلوغ مرتبة راقية في الاجتهاد، (ليست اجتهاداً فحسب، بل مرتبة راقية من الاجتهاد)، ومقام سام في التقوى والعدالة، وجدته أهلاً للفتيا والتقليد والتصدي لما هو شأن الفقيه العادل؛ فيجوز تقليده والرجوع إليه في كل ما يشترط به من إذن المرجع العادل، وإني أوصيه بمزيد التقوى والاحتياط الذي هو سبيل النجاة في عامة الأحوال كما أوصي إخواني المؤمنين بالالتفاف حوله والاستفادة منه في شتى المجالات، والله ولي التوفيق والتسديد وهو المستعان)..

الختم الشريف

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أجمعين.

فرضوان الله عليه ووفقنا جميعنا لكي نهتدي بهديه ونبقي ذكره وولاءه ومحبته وخدماته لأهل البيت(ع) على مدى التاريخ.

الهوامش:

(*) مسجد الإمام الشيرازي الواقع في منطقة بنيد القار في دولة الكويت.

(**) أول كلمة ألقاها سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام عزه) بعد مرور أسبوع على وفاة الإمام الراحل (قده)، وذلك في مسجد الإمام الشيرازي (قده) في بنيد القار بالكويت في 6/شوال/1422هـ