على أمل اللقاء

أن يكونوا عبرةً خيرٌ من أن يكونوا مفتخراً

كلمة سماحة آية الله السيد صادق الشيرازي بعد يوم من تشييع المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (قده)

بالنسبة للفقيد العزيز الكبير الجليل الراحل هو ليس فقيد بيت أو أسرة أو بلد أو دولة، وأتصور في هذا المقام أنني أودي واجباً شرعياً من الله سبحانه وتعالى تجاه هذا الأخ الأكبر، الذي هو بمنزلة الأب، وإنني لم أفقد أبي حينما فقدته، وإن كان فقد أبي عظيماً علي، ولكن كنتُ ألمس كل ما يلمسه الابن من أبيه، ألمسه من هذا الأخ الأكبر، وفقدت اليوم أبوين.

فقد كان بمنزلة الأب بل كان هو الأب، حسب الحديث الشريف: (الآباء ثلاثة، أب علّمك... ) فكان المعلم الأكبر والأجمع والأوسع لي، وعشتُ معه هذه الفترة الطويلة والقصيرة (في نفس الوقت)، فلم أر منه إلا ما يراه الابن المحتاج إلى أبيه يراه من أبيه العالم البارَ العطوف.

بالنسبة لهذا الفقيد الراحل (أعلى الله درجاته) أذكر لكم موضوعين أحدهما ما لمسته خلال هذه العشرات من السنين وعلى طول الخط بلا فتور ومن ابتداء هذا الخط إلى أن أراد الله (ولا راد لإرادته) أن يأخذ أمانته:

أحدهما: شدّة إخلاصه لله سبحانه وتعالى ولأهل البيت (ع)، إن الفقيد الراحل كان حريصاً جداً على تعبئة المجتمعات الدينية بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية والتربوية وغير ذلك، وقد تصدّى مباشرة أو مع مجموعة من الإخوان أو بأمره، أو بإجازته تصدّى للعشرات والعشرات من المؤسسات من مسجد أو مكتبة أو حسينية أو غير ذلك، وفي كل هذا لا تجدونه في واحدة من هذه الحسينيات أو المساجد أو المكتبات أو دور النشر أو الحوزات العلمية التي أسست بإجازته لا تجدون واحدة منها باسمه فكان يؤكد على أنه (أنا أرحل والله وأهل البيت باقون) وعليه فالحسينية يجب أن تكون باسم الله أو باسم رسول الله وأهل بيته(ع).

ورأيت أكثر من مرة أن مجموعة أو أفراد كانوا يؤكدون له وبعضهم أنفق كل ثمن المؤسسة كانوا يطلبون منه ويلحّون عليه أن تكون هذه المؤسسة باسمه، فكان رده: إذا كان باسم رسول الله فأنا ابن رسول الله، وإذا كانت تحمل اسم الله فأنا عبد لله وإذا كانت تحمل اسم فاطمة الزهراء فإنها أمي ولم يرض حتى في مورد واحد أن تكون حوزة علمية أو مؤسسة باسمه.

الأمر الثاني: الذي عرفته ولمسته منه بكل وجودي منذ نعومة أظفاري وشعوري والى ليلة العيد والى سويعات قبل أن تلم بنا هذه المصيبة أني لمست منه أنه كان بركاناً من النشاط، وأنني في نفسي أعتبر تشبيهه بالبركان مجازاً لا حقيقة، فالبركان تكون له فترات يخمد فيها وأحياناً يكون ثائراً ولكن الذي لمسته بكل وجودي منه أنه كان لا يفوت فرصة صغيرة.. على نفسه، إلا أن يقدم شيئاً حسب ما يعتقد هو من كتابة، أو كلمة، أو نصيحة، أو إرشاد، أو عمل، أو أي شيء كان يعلم أنه من القربات إلى الله كان هذا يكفي لتحريك كل وجوده، دماغه، وفكره، وأعصابه، ويده ولسانه. هاتان الخصلتان من الخصال البارزة التي لمستهما فيه في كل حياته، وأتصور أني لا أجد واحداً ممن عاش معه (ولو أياماً فقط) ينكر هذين الأمرين، وكل من عاش معه وجد هذين الأمرين.

الكلمة الثانية إذا فقدتم عزيزاً، أو من تعتبرونه عظيماً جليلاً فبدل أن تجلسوا وتفتخروا به تعلموا منه. يقول الإمام علي(ع): (أن يكونوا عبرة خير من أن يكونوا مفتخراً) فالفقيد الراحل مفتخر بلا شك، مفتخر لي أولاً ومفتخر لكل من تعلم منه أو درس عنده أو عاشره سواء في بيته من عائلته أو في الخارج من أصدقائه وتلاميذه والمؤمنين، ولعل من أوليات ما أذكره في هذا المقام (ما نعتبر به) هو أن نصمم ونحن في هذا المكان أن نسير على دربه كل بمقدار ما يعلم منه أو سوف يتعلم منه، فما مات من مات وخلف علماً، أو سوف نتعلم منه عبر النكات التي تنقل عنه أو عبر القصص التي ينقلها الأصدقاء أو عبر كتبه (هذا التراث الضخم الذي تركه) هنا وفي قرارة أنفسنا نعاهد الله تعالى ونصمم على أن نسير على دربه في كل ما تعلمناه منه أو سوف نتعلم من تراثه.

وأتذكر منذ أكثر من خمسين سنة وحتى آخر يوم من شهر رمضان كان (فقيدنا) عندما يكتب وينتهي حبر القلم يطلب قلماً آخر، وعندما يأتون إليه بالقلم كان يكتب كلمة بهذا القلم الجديد، فإذا رأى أن كتابة القلم خشنة يطلب قلماً آخر تكون كتابته دقيقة (أنعم) وأحياناً يأتونه بقلمين أو ثلاثة فينتخب أدقّها (أنعمها) كتابة؛ وفلسفة ذلك – كما سمعته منه مراراً – أنه كان يقول: إن الكتابة الخشنة تأخذ مساحة أكثر، فكتابة (الله) مثلاً أو (الإمام الحسين) أو (الإمام المهدي عج) قد يأخذ الحرف سنتمترين بينما الكتابة الناعمة قد يأخذ الحرف فيها سنتمتراً واحداً!.

هكذا كان يغتنم الفرص حتى في هذه الأمور الدقيقة، كان يكتب بالقلم لمدة أسبوع ثم يقدمه لي أو إلى أحد أولاده وعندما نسأل عن ذلك أو يُقال له إن هذا القلم ما يزال يكتب؟ كان يقول (وقد سمعت ذلك منه مكرّراً) إنه بكثرة الكتابة صار خطه خشناً ثم يطلب قلماً آخر، فلم يكن ليفوت فرصة واحدة وكان يقول: قطرة.. قطرة تكون بحراً.