أخلاق مرجع.. مرجعية أخلاق

الشيخ كاظم السباعي

عادةً: كيف ومن يؤرخ للرجال العظام؟.

من خلال سيرتهم الذاتية، أم من خلال ظروفهم أو كلاهما معاً؟.

ثم إن الكتابة المبكرة لسيرة العظماء – خصوصاً بعد رحيلهم المفجع، له دور إيجابي قبل انتظار المراحل اللاحقة لتموج أفكارهم، وكذا مطلوب لتوالد الآثار المتتالية من بعدهم أن يؤرخ بدقة عنهم، وتلتمس النقاط المضيئة في حياتهم وسيرتهم، قبل أن ينقرض الجيل ويأتي عليها الإهمال والنسيان والتحريف والزيادة والنقصان.

ولسيرة سيدنا الفقيد الراحل الإمام الشيرازي – تغمده الله برحمته – العطرة نكهة خاصة من حيث الشكل والمضمون فهي من السير العصامية الممتزجة بالأصالة والعمق التاريخي، وهي جزء من تاريخ مرحلة حساسة من واقع الأمة كما هي تشكل نادرة فريدة في تاريخ المرجعيات اختلفت وتميزت عن النمط التقليدي الموروث.

ولا أدري من أين أبدأ بمسك الخيط ولململة أطراف الحديث!؟.

فلأبدأ من أخلاقيات الفقيد الراحل فإنها الحجر الأساس في هذه السيرة – أو على الأقل في إنطباعي المبكر عنها-.

فالميزات المتعددة لشخصيته والجوانب العظيمة المختلفة في سيرته في جانب ولكن في جانب آخر تقف أخلاقيات المرجع الراحل لتكون الشاخص الكبير والمعلم البارز في حياته كما تشكل السر الأعظم في تفوقه وعظمته.

وللعلم:

أن تقرأ وتسمع شيء.

بينما أن تلمس وتعايش وترافق المسيرة، شيء أخر يمتاز بأنه مصحوب بالإحساس ومفعم بالحيوية والدفء.. ولكني أحاول جهد الإمكان أن التقط الصور من قريب.

وأنقلها بلا رتوش.. هذا أولاً.

كما أنه ثانياً:

قد نرى نحن العظيم متربعاً على القمة.. أما كيف كان وهو يغزل الطريق إلى القمة؟.

وكيف ترى كانت البدايات وهو يتخطى السهول والصعاب، ويستسهل الوعور والصخور، ثم كيف قاوم الظروف وتمرد على الضغوط أقلها الجاذبية نحو السفح وأثر الصعود على الانحدار والتقدم على التقهقر برغم المعاكسات الكثيرة كل هذا وغيره.. حاولت تسليط بعض الضوء عليه، مستعيناً بارشيف من الذكريات العزيزة، بمقدار ما تسمح به الرقابة على الخواطر أو تجود به الريشة على الورق:

بما تعود بي الذاكرة إلى البدايات.. واقتضى – لها – بعض الذكريات – لتشكل دائرة منوعة على ملامح السيد الأخلاقية فأذكر حيناً – وأنا يومئذ طالب في المدرسة الأبتدائية وكنت اقرأ القرآن – في مجلس حسيني يرتقي فيه المنبر الشيخ عبد الزهراء الكعبي (ره) وقد شدني نغم صوته الناعم وكان البارحة ينبهني وأنا أتلو الآية في سورة يوسف: (إذ قالوا ليوسف أحب إلى أبينا).

فقال: - وهو جالس على مقربة من المنبر ولا زال نغمه في إذني: ليوسف –وكنت قد تلفظت (لام التأكيد) بالكسر–

في الحديث من علمني حرفاً صيرني عبداً..

وربما كان أقل من حرف علمني وشدني إلى القرآن طوال حياتي..

وتبدأ العلاقة المبكرة في اليوم الثاني، وقد اتفق أن رأيت السيد خارجاً من بيته بينما كنت واقفاً مع أترابي صادف وأنا واقف مع أترابي في الطريق وسماحة السيد كان خارجاً من بيته بقصد الصلاة بشارع البلوش – الإمام علي (ع)– فيمر ويسلم علينا ونسارع إلى تقبيل يده بشغف كاستنشاقنا رائحة العطر ممزوجة بطيب الخلق وحسن الاستقبال.

وكنت ألاحظه – مراراً – راجعاً من صلاة الجماعة في الصحن الحسيني الشريف – ظهراً أو مساءً – أو عائداً من الدرس – في مقبرة الشيرازي وهو مار بسوق العرب التجاري – فأراه يسلم على كل مار في طريقه، وكذلك على أصحاب المحلات الواقعة على الجانبين.

هذا الخلق – التواضع لم يقتصر على المجاملة والتحية والمحيا الطلق، بل شدني إلى العلم والتعلم ما لقيته من ترحيب سماحة السيد بأي استفسار وجوابه على كل سؤال حتى لو كان من طفل – في مثل عمري آنذاك.

فأذكر سؤالاً طرح علينا في مسابقة علمية في المدرسة: عن عدد آيات القرآن الكريم، فسارعت – وكان بيتنا القريب مقابلاً من بيته – إلى طرق الباب، ففتح سماحة السيد الباب في وجهي دربا سبقني إلى السلام والترحيب بلطفه فقلت: سيدنا كم مجموع آيات القرآن؟.

فقال لي على البديهة: 6666، (وأضاف): أربع ستات.

وما أسرع ما حفظت الجواب وشكرت السيد.

(آغا محمد)

كان العلم الذي يطلق عليه والاسم الذي يذكر به لدى الكسبة والشارع الكربلائي خاصة والعراقيين عامة: (آغا محمد) إلى أن صرت أذهب إلى صلاة جماعة السيد في الصحن الحسيني فأسمع من الطلبة والمتعلمين: السيد الشيرازي، لأنه كان في الصحن أئمة جماعة آخرين ونحن نصلي خلفه صلاة الجماعة وكانت أضخم صلاة جماعة على الإطلاق، وعلى الهامش كانت تقام صلوات جماعة أخرى.

وكنا نحن نصلي خلفه أكثر الأوقات.. ونحضر المجالس الأسبوعية أيضاً.

فلا زال أذكر إلى الآن وأنا – يومئذ في مقتبل العمر أذهب ليالي الخميس إلى مسجد العطارين وأتذكر كان الوقت صيفاً وفوق السطح في الهواء الطلق تعقد محاضرات أسبوعية وعظية - لسماحة السيد – كان يحضرها طبقات شعبية متدينة من كسبة وطلبة فعندما جاء السيد وصعد المنبر فتح القرآن وقرأ آية واحدة ثم أطبق المصحف، وبدأ بشرح الآية ثم تحدث بأسلوب قصصي شيق أحاديث أخلاقية واجتماعية، و حتى علق على أحداث تاريخية واستعبر منها العبرة المفيدة.

وتحدث باللغتين العربية والفارسية، وسوف أذكر شيئاً من مجالس ليلة الجمعة الخاصة بطلبة الحوزة – تباعاً –.

أخلاق المصلحين

هذا بشأن البداية المبكرة وبخصوص ابتداء العلاقة بسماحة السيد والتعرف عليه:

وعندما اقترب – في مرحلة لاحقة انتمائي إلى سلك الطلبة – لأتميّز الملامح المميزة للسيد واكتشف الصفات الخاصة أكثر وأعايش الظروف المحيطة بالسيد رحمه الله، فإني اذكر عن كثب التزامه بإلقاء دروس الخارج يومياً في مقبرة الشيرازي كل يوم صباحاً..

وكان يلقي محاضرات أخلاقية على الطلبة أسبوعياً وفي ليالي الجمعة في مدرسة ابن فهد الحلي – فوق السطح في أيام الصيف، - وفي إحدى القاعات – أو المدرسة شتاءً.

وكان لأسلوبه الشيق أكثر الأثر في شد الطلاب وبعث روح الحماس والأخلاق والأنضباط فيهم، وكثيراً ما كان يأتي بقصص العلماء ويستشهد برياضهم وسيرتهم العرفانية، وحتى قصص العظماء، أو أساليب المبشرين النصارى وفعالياتهم وكان كثير الأطلاع واسع المعلومات، ويحاول أن يوسع أفق التفكير والطموح لدى رجال الدين وطلاب الحوزة ويحفزهم على العلم والعمل والجد والاجتهاد. هذا أولاً.

وثانياً: الملاحظ – بأن لم يعهد في أحد من المراجع أنه عاند الظروف وعادى الأيام، واستلان الصعاب وخرج على المألوف والعرف التقليدي للمرجعيات السائدة – ولكنه بخلقه العجيب وصبره المتواصل واستمراره وإصراره استطاع أن يتحدى الواقع ويواجه الأعاصير.

وهذا درس عملي آخر يعطيه لنا في الأخلاق وفي سيرته القيادية:

أي إنه لم يعطنا دروساً في الأخلاق التي كان يلقيها على الطلبة، بل كان سلوكه أكبر درس لنا، وكان بسيرته مدرسة أخلاقية ظلت في كل الفترات والمراحل تعلمنا الكثير وتعطينا الدروس عملاً لا قولاً فحسب، وتكسب قلوب الناس والأصدقاء، وتحول الأعداء إلى أصدقاء أيضاً.

فربما رأيت كثيراً من وكلاء المراجع يتحولون إلى مريدين وبعضهم شاهدته يصلي العيد خلف السيد جماعة، وهو كما قيل ممن كان بالأمس يسحب البساط من تحت رجل السيد كي لا يدعه يصلي بالناس جماعة – بعد وفاة والده السيد ميرزا مهدي الشيرازي(قده).

أو ممن قد رأيتهم أولاً كانوا يقذفون السيد بالسباب والتهم، ثم شاهدتهم أخيارً يجثون على ركبهم أمامه معتذرين وتحولوا من أعداء منافسين إلى أصدقاء مخلصين.

لم يكن يحقد على أحد، ولم يعر اهتماماً لمسائله الشخصية.

اذكر ما سمعته – في تلك الأيام الأولى – بأن أحد السادة المعممين كان في الطريق قد اعتدى على سماحة السيد صادق وصفعه، أما لضرورة أو حاجته إلى المال، فما كان من السيد إلا أن يتحمل ويتجاوز عنه وكأن لم يكن شيء!.

لكن لو كان أحد رجال الأمن يريد مثلاً أن يتعقب أحد الطلبة في الحوزة ليلقي القبض عليه فأنه كان يصرخ بوجه رجل الأمن (سيد ناظم): قل لأسيادك كفى استفزازاً.

ثم أن السيد بنفسه تمكن أن يخلص ذلك الشخص المطلوب للمخابرات من قبضتهم، وأركبه معه في واسطة النقل التي استأجرها (الربل) وهربه بعيداً عن عيون رجال الأمن وأوصله إلى مأمن.

في استثمار الوقت تميز سماحة السيد بميزة عظيمة شاهدها كل المقربين إليه وتلاميذه ومعاصريه.

واستفرغ وقته في تقديم أكبر قدر ممكن من العطاء الفكري والخدمات الاجتماعية وبناء العلاقات الواسعة لكن كيف استطاع أن يوزع وقته على كل المجالات.

هذا هو السر الذي جاء على كشفه أكثر من واحد، وكشف هذا الستار نجله السيد مرتضى الشيرازي قائلاً:

(السيد الوالد – كما رأيته – يستثمر كل لحظات حياته، ولذلك أعطاه الله هذا التوفيق العظيم، فمؤلفاته تجاوزت الآن الـ (1200) كتاب، وذات مرة قال لي كلمة جعلتني أكبر فيه هذه الروح العظيمة، وكشفت لي سراً من أسرار توفيقه، حيث قال: أنا عندما كنت شاباً صغيراً طلبت من الله سبحانه ثم من الإمام الحسين، أن يوفقني لكتابة ألف كتاب، انظروا إلى هذا الطموح، أنه طلب أن يوفق لكتابه ألف كتاب، فنال ما يريد وزيادة أكبر عدد 71!!!.

ويطلب قلم يكون حاد الرأس، وهذا ما سمعته من السيد المجتبى – ونحن في العراق – وكشف عنه سماحة السيد صادق حفظه الله لنا، أخيراً بقوله:

(أتذكر جيداً منذ خمسين عاماً والى قبل أيام بل حتى آخر يوم من شهر رمضان المبارك إذ الفقيد الراحل كان يكتب، وعندما ينفد حبر القلم، يطلب قلماً آخر، وإذا جيء بقلم وكتب به ولاحظ أن كتابته خشنة يطلب قلماً آخر تكون كتابته أنعم، وفي بعض الأحيان كانوا يأتون إليه بعدة أقلام، ينتخب أنعم الأقلام كتابة وفلسفته كما سمعت منه مكرراً هي قال: أنني أكتب كثيراً، فلما أريد كتابة الألف التي في كلمة، فهذه الألف إذا كانت بالقلم ذي الخط الخشن تأخذ سنتمترين، ولكن إذا كانت بالقلم الناعم فهي تأخذ سانتي واحد، وإن السنتمترين تأخذان وقتاً أكثر من السنتمتر الواحد).

وهذا عن استغلاله الوقت ليتفرغ للكتابة.. حتى أنه يستغل الفراغات والأوقات الضائعة مثلاً – في انتظار الطعام لكي يؤتى إليه، أو انتظار أحد لكي يأتي إليه في موعد معين، بل كما حدثني السيد مجتبى حفظه الله مرة: بأن السيد كان في أغلب الأوقات يفضل أكل السندويش ويقول بأن هذا أكل العمال، ولأنه يوفر على الإنسان الوقت الذي يعرفه في غسل يديه قبل وبعد الطعام.

ومثل اقتصاده في الوقت كان اقتصاده في الورق الذي يستهلكه في كتابة المؤلفات، فأذكر لما كنت أرى كتبه المخطوطة ألاحظ بأنه يكتب بخط ناعم، وبقلم حاد الرأس عادة وفي سطور متقاربة جداً، بل ويبدأ الكتابة من أعلى الصفحة أي من الحافة إلى الحافة لا من والى السطر المخطط في الورق – ولكن كان الخط جميلاً ومقروءاً، وله خط حسن أنيق متميز يمكن أن يكون خطه هو توقيعه ويحمل طابعه الخاص.

إن حرص السيد (قده) على استغلاله الوقت كان له علاقة مميزة ومشهورة في حياته حتى استثارت نظر الكثير من معاصريه، من ذلك:

1- ما نقله لي المرحوم السيد مصطفى الاعتماد (رحمة الله عليه) حين كان يحدثنا في كربلاء عن فضائل السيد، فقال، مرة سافرنا مع السيد الشيرازي لزيارة سامراء، فكان حاملاً كتاباً اصطحبه معه يطالعه معه يطالع فيه طيلة الطريق ذهاباً وإياباً، وعند نزولنا في طريق للاستراحة، وعندما وصلنا كان مشغولاً بالكتابة والتأليف أو بطرح مسألة فقهية للمناقشة مع مرافقيه.

2- كما نقل أحد الشيبة (هو الحاج محمد) ممن أدرك حياة السيد في زمان والده المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قده) يقول: كلما دخلنا على السيد الميرزا، كان السيد ربما فتح لنا الباب، وكان فيما يساعد والده في استقبال أو توديع الزائرين قد وضع طاولة وراء الباب بين غرفة الاستقبال وصحن الدار، وكلما حصلت له فرصة أو فرغ المكان من المراجعين يواصل دراسته وتأليفه إذا لم يكن منشغلاً مع والده.

3- كذلك نقل السيد مصطفى الاعتماد مرة بأنه خرج في رحلة ترفيهية إلى ناحية الحُر على بعد كيلو مترين من كربلاء، وهو مرقد الشهيد الحر الرياحي كان يذهب إليه الطلبة عادة للزيارة ولتغيير الهواء والترويح، وكان سماحة السيد مرة ذاهباً مع أصدقائه وطلابه، فلما وصلوا إلى الحر وزاروا ثم ذهب البقية إلى التجول والتفسح جلس السيد وقد أخذ كتبه ودفاتره معه يكتب ويطالع وينتظر رفاقه حتى عادوا إليه.

4- أقول: وبهذه الطريقة في استثمار الوقت، كنت ألاحظ أنا شخصياً بأن عند السيد متسعاً من الوقت للاهتمام الشديد بالعلاقات الاجتماعية وزيارة الناس والحضور في المجالس، يعني كان قد قسم وقته بشكل جيد، بحيث لا يضيع من وقته ولا دقيقة واحدة وبحيث يتمكن من تخصيص جزء من وقته يومياً، لحضور مجلس أو زيارة شخصية قادمة من الخارج، أو إستقبال الزائرين، وربما زرت معه بعض الشخصيات الدينية التي تزور البلاد – كما أذكر أيام السيد في الكويت أو رافقته إلى زيارة بعض الديوانيات بل كان بهذه الطريقة يؤدي حقوق الناس ويحسن المجاملة والمداراة على أحسن وجه، ولا يترك زيارة أي قادم من السفر حتى طلابه، فأذكر بنفسي كلما قدمت من سفر الحج أو عدت من سفراتي التبليغية، وبعد الانتهاء من الدروس ربما قال لي: آتي لازورك.

إنه فن القيادة الحكيمة كان يتقنه السيد (قده) وساعدته أخلاقه العالية وسعة الأفق ورحابة الصدر كما سوف نرى.

الاستمرار سر النجاح

كانت للتجربة القيادية التي طافها الإمام الشيرازي(قده) دروساً وعبراً كثيرة خلفت تراثاً فكرياً واجتماعياً ينبغي الاستفادة منه لجيلنا، لكن لم تكن مثل هذه المسيرة بلا ثمن، ولم تخل من معاناة صعبة.

كما أن السر في نجاح هذه التجربة – المسيرة - هو الصمود العجيب وروح الاستمرارية. فبالنسبة لنا نحن الذين عايشنا السيد من قريب، وتمثل لنا حياته كشريط كامل عن تلك المراحل التي رافقت حياته، فإننا عندما نتذكر منها فصولاً مثيرة، يسجلها القلم هنا للعبرة والتذكرة.

فمثلاً: أمامنا تجربة الكويت؛ فقد رأيت أنا شخصياً العجيب العجاب من هدفية السيد (قده) واستمراريته وسعة صدره وصبره فكم كانت الكويت أرضاً جدباء، وكم سعى السيد أن يحولها إلى أرض خصبة.

فقد قدم – أول ما حط رحله هناك – إلى شعب لم يألف غير الترف والحياة المادية والطبع الجاف، ثم أنه في خلال سنوات استطاع أن يؤثر ذلك التأثير السحري في تلك النفوس، ويغير نمط التقاليد والعادات أو يقلبها رأساً على عقب، أنهم حقاً تأثروا بأخلاق السيد، ورأوا فيه تجسيداً عملياً للخلق الرفيع والزهد وبساطة العيش.

1- أذكر جيداً الحاج جمعة السلمان (رحمه الله) جاء إلى زيارة الأربعين من الكويت وذلك بعد سنة من انتقال السيد إليهم، فكان ينقل عن أخلاق السيد بلهجة ملؤها الإعجاب والاستغراب:

نحن نتعجب من سماحة السيد كثيراً، كيف أنه كلما بعثنا إلى بيته فرش أو سجاد ليفرشه في داره يبعث به إلى بيت أحد من أصدقائه أو أحد العلماء والطلبة الموجودين في الكويت، وكم مرة كنا نرسل بأكياس الطحين أو الرز أو ما شابه لمؤونته الخاصة، وإذا به رأساً يرسله إلى أحد السادة المحترمين المجاورين له.

2- وأذكر من مشاهداتي الشخصية وملاحظاتي المتكررة خلال إقامتي في الكويت - ما يشبه المفارقة – وأنها حقاً لمفارقة، حيث أنه في البداية وحتى بعد كم سنة من إقامة السيد في الكويت – كنت ألاحظ في ديوانية السيد، وكان يعقد كل ليلة مجلس تفسير، وكان على حسب العادة المتعارفة في الديوانيات، يأتي هذا وذاك وكان في أي ديوانية من الديوانيات، لمجرد قضاء الوقت والتلهية، أو لغرض الالتقاء مع بعضهم البعض والتحدث في الشؤون الشخصية وما أشبه..

حتى أنه قد يتحدث السيد – وهم في عالم آخر ولا يتجاوز الحضور عدد الأصابع – ثم أنه صار التحول التدريجي لدى أولئك الاتباع وبكثرة الإقبال من السيد عليهم والاحترام الزائد لجلسائه فتراه يقوم لكل وارد عليه، ويستقبل كل قادم بالترحاب والبشاشة، ويستعمل الأدب مع كل صغير وكبير، حتى كسب القلوب وروض الطباع..

وحتى حدث – بعد سنوات زرت الكويت وزرت مجلس السيد في ديوانيته العامرة الخاصة بالحضور – شباباً وشيوخاً – وهم ينتظرون قدوم السيد في الساعة المقررة ليلياً وكان السيد منضبطاً جداً فيأتي ويلقي حديثه – في التفسير – ولكن هذه المرة لاحظت وكأن على رؤوسهم الطير.

3- أو كما قال السيد فاضل الميلاني – في كلمته التأبينية التي ألقاها في مركز الرسول الأعظم بلندن -: لقد كانت ديوانيات الكويت قبل ذلك مجالس يتداول فيها الناس حديث اليوم، وحديث الأخوانيات، لكن السيد الشيرازي غيرها إلى مدارس ومحاور للثقافة وتبادل الأفكار وجعلها منطلقاً لتزويد الناس بالثقافة والفكر المنير وفعلاً حول السيد ديوانيات الكويت إلى مجالس حسينية يرتادها خطباء المنبر الحسيني كل ليلة من ليالي الأسبوع وفي أكثر من مجلس قراءة – سواء في الحسينيات أو الديوانيات والبيوت – فكانت هناك عشرات المجالس أسبوعياً، بالإضافة إلى المحافل والهيئات الدينية والندوات والمحاضرات والسفرات التثقيفية أو ما يسمى بـ (الكشفات) وكان السيد يزور أغلب تلك المجالس بشكل دوري ويحضر فيها – ويتردد على الديوانيات لزيارة أصحابها.

4- لا أعرف ما إذا كان لهذا الأسلوب تأثيراً أكثر من الكلام؛ فقد رأيت وهو يباشر بنفسه بعض الأعمال، في الاحتفال بمواليد الأئمة، فكان يعمل كواحد من الأفراد في تعليق الزينة أو الإمساك بطرف الحبل أو النشرة الكهربائية التي يراد تعليقها فلما رأيته في مكتبة الرسول الأعظم، خلع عباءته وصار يعاون الشباب ويعمل أيضاً معهم، عرفت أن تأثير هذا السلوك العملي أكثر من ألف محاضرة وألف كتاب.

5- والأندر والأعجب من كل هذا ما سمعته من قصة الخلاف الذي أثاره بوجه السيد وكيل أحد المراجع والذي دام سنوات طويلة، وكان الشغل الشاغل للناس، ولما كان السيد طيلة فترة الصراع هادئاً لا يرد على الطرف المقابل الذي كان يعج ويفج ويكيل سيلاً من السباب والتهم والإشاعات وإعلان ذلك على الملأ العام في الخطب والمجالس، إلى أن تدخل كبار المسؤولين والوجهاء لإخماد الفتنة وطلبوا من هذا الطرف – الخصم أن يلتقي بالطرف الآخر – السيد وفي جلسة مكاشفة ومصارحة تحل المسألة، أي أرادوا نزع الفتيل ولكي لا يبقى حجة أو مبرر لهذا الشخص للتمادي في نزاعه مع السيد.

وفي الجلسة المقررة حضر (فلان) عند السيد وجلس في مقابله، ثم بدأ بإلقاء الإشكالات التي عنده والسيد يستمع إليه حتى انتهى من كلامه، ثم أجابه بكلمة واحدة وبهدوء تام قائلاً:

إن غاندي يقول: (يستطيع الأعداء أن يوجهوا إلي مائة تهمة ولكن لا يستطيعون أن يثبتوا تهمة واحدة علي).

وخرج من عند السيد، ولم يفلح في صراعه ذاك لأنه انتهى به الأمر إلى ترك الكويت وانسحب وأعلن فيما بعد وسمعت أيضاً أنه كان قد أقر على نفسه بالخطأ في تلك الحملة ضد السيد.

صفات شخصية ووراثية

وأما نبوغه المبكر.. و جده واجتهاده، فأظن الحديث عنه من نافلة القول:

وأظنني سمعت منه مباشرة – عن برنامجه الدراسي أيام شبابه – يقول: كنا في كل يوم من أيام التحصيل عندنا 27 درساً وتدريساً ومطالعة في المكتبة الدراسية للحوزة العلمية ومباحثة مع الطلاب.

كنا نصلي صلاة الصبح جماعة خلف والدي أي السيد مهدي الشيرازي – ثم نبدأ بمباحثة الدروس التي أخذناها في اليوم السابق مع زملائنا في الدراسة إلى طلوع الشمس أربع دروس.

ثم نذهب إلى البيت ونتناول طعام الإفطار قليلاً، ثم نرجع ونحضر دروس الصباح حوالي خمسة أو ستة دروس إلى آذان الظهر، فنذهب بعدها إلى صلاة الجماعة والغداء والاستراحة قليلاً، ونبدأ بعد الظهر برنامج المباحثة في نفس الدروس الصباحية إلى أذان المغرب ثم من بعد أن نصلي المغرب والعشاء جماعة نبدأ بتدريس بعض الدروس للطلبة المبتدئين في الحوزة بين أربعة إلى خمسة دروس ليلياً – إلى أن تمر أربع ساعات من الليل ثم نعود إلى البيت لنطالع ونراجع الدروس السابقة أو اللاحقة.

وكان يقول (رحمه الله) أيضاً: إن الواحد منا كان يكرر الدرس – أو الكتاب الذي يدرسه – أكثر من خمس مرات يومياً، فيطالع القسم المقرر قبل أن يحضر الدرس، ثم يأتي عند الأستاذ ليستمع إليه عنده، ثم يطالع الموضوع بعد ما سمعه، ثم يتباحث ذلك الدرس مع زميله، ثم يطالعه بعد المباحثة ليتأكد من فهمه آخر مرة بشكل صحيح وبهذه الطريقة – يؤرخ الكتاب – والدروس – أي يتقنه جيداً.

وحدثني أستاذنا الشيخ الثقفي الطهراني (رحمه الله) عن سماحة السيد بأنه منذ كان عمره ثلاثين سنة وكان قد بلغ مرحلة الاجتهاد والفقاهة، فسأل جماعة والده عما إذا كان يجوز تقليد ولده السيد الشيرازي؟.

فأجاب الميرزا مهدي (رضوان الله تعالى عليه) بهذه العبارة: محمد مجتهد، محمد مجتهد.

وليس المقصود نقل شهادة العلماء على اجتهاده، فهذا مسلم، لا سيما من مثل والده المعروف بالتقوى والورع – لدى الخاص والعام – وليس هذا فحسب بل كان مسلم اجتهاده بشهادة العلماء وأهل الاختصاص بحقه.

بل مضافاً إلى تضلعه العلمي كان يتميز بذلك النشاط التجديدي في نمط الاجتهاد والتصدي للمرجعية – منذ عهد مبكر – والذي كانت تظهر آثاره يوماً بعد يوم كلما صعد نجم السيد وأطلع أهل الخبرة، وأستيقظ المهتمون بالشأن المرجعي على إنتاجه وأفكاره وطموحاته.

- وقد كان همّه أن تنفتح الحوزة العلمية على الحياة العصرية ويمد الجسور بين الأمة والقيادة المرجعية، ويبعث النهضة في الشباب المسلم المتعلم والمثقف.

ولهذا أهتم كثيراً بتثقيف المجتمعات، وانفتح على أساليب التثقيف الحديثة، وحاول أن يفتتح إذاعة ويمد نشاطه الفكري إلى كل مكان والى الأجيال القادمة، وأن يعدد اهتماماته الثقافية على كل الأصعدة الممكنة، من قبيل المشاريع والمؤسسات والأنشطة الاجتماعية المختلفة فكان اللولب الفعال والديناميكي المتحرك، وكان يحاول أن يستقطب الطاقات الشابة والمندفعة لتتحرك معه وتصنع التيار والأمواج المتوالدة.

فكان لا يهدأ له بال، ولا يكل عن الحركة الدائبة، وكان لا ينقطع لحظة عن النشاط، ولا يتوقف عن متابعة إخوانه في العمل وبعث الروح والحماس والحركة فيهم.

ينقل المرحوم السيد كاظم القزويني (رحمه الله): أنه وفي يوم من أيام الصيف الحار وبعد الظهر – ربما بقليل – جاء سماحة السيد (قده) إلى دارنا – وعادة ما كان يزور أصدقاءه في بيوتهم – وجلس معنا يتحدث عن هموم المسلمين، وأخبارهم هنا وهناك خصوصاً عن مشاكل المسلمين في أفريقيا وغيرها.

فقلت للسيد وأنا متعجب من تضحية السيد براحته في مثل هذا الوقت يستريح فيه الناس عادة في البيوت المكيفة ولا يخرجون: سيدنا كم تفكر في مشاكل المسلمين، والآن وقت الاستراحة.

فلم يجب السيد على سؤالي واسترسل في حديثه وفي سرد الأخبار المتعلقة بالمسلمين، وظل ينصحني بضرورة السفر إلى أفريقيا..

وعلى أثرها سافر السيد القزويني إلى بلاد شمال أفريقيا ونظر عن كثب حاجة المسلمين الملحة إلى الكتاب حتى المصحف والفراغ الشديد من الوعي والإرشاد.

فرجع من السفر وفكر بتأسيس رابطة النشر الإسلامي الذي كان يزود مناطق العالم الإسلامي خصوصاًً شمال أفريقيا بالكتب والوسائل التوجيهية..

وبالمناسبة، فإن السيد كان على اتصال دائم بشؤون المسلمين في كل مكان ويتابع أخبارهم فيحاول من خلال الزيارات المتبادلة وعندما يلتقي بالوفود والزوار القادمين إلى العتبات المقدسة من مختلف أنحاء العالم، أن يتتبع المعلومات ويلتقط الأخبار ويتعرف على أحوالهم وأوضاعهم.

وأيضاً لشدة اهتمامه ورغبة في الإطلاع وسعة صدره واهتماماته بالشؤون العامة والثقافة الحديثة والتعرف على مشاريع المسلمين والشعوب المتقدمة – حتى من خلال الصحف والمجلات الحديثة –.

وأذكر كانت تأتي وفود من بلاد أوربا وأمريكا والقارات المختلفة، ثم يسألهم عن أحوالهم ونشاطاتهم فتحصل عنده معلومات واسعة وأخبار كثيرة، يستشهد بها في أحاديثه التوجيهية مع الذين يلتقي بهم من الطلبة والعاملين.

فكان هاجسه الإسلام.. وإيصال صوته إلى كل مكان.. فلهذا كان يهتم باستخدام الوسائل الحديثة من كتب ومجلات وإذاعة وأندية وسينما ومسرح، وإصدار الدوريات الثقافية، وإرسالها إلى أغلب الأماكن في الداخل والخارج.

فكان: أول من أسس حركة التبليغ الإسلامي السيار وحث رجال الدين والعلماء على التجول باستمرار على كل القرى والتردد على المناطق النائية داخل وخارج العراق، وكان كثيراً ما يحث أخوته وزملاءه وطلابه على ارتقاء المنبر والسفر إلى التبليغ كل خميس وجمعة وفي مواسم عاشوراء أو شهر رمضان.

حتى قال مرة لأحد زملائه عندما برر عدم قدرته على الخروج في موسم التبليغ بانشغاله بالدرس : كما حدثنا الشيخ عبد الحسين الحائري بأن الهدف من الدرس هو التبليغ.

وكأن سماحة السيد كان هو المرجع الميداني الوحيد الذي له حضور في الساحة، حتى أني سمعت من السيد هاشم رسولي المحلاتي عندما كنا نذهب إلى بيت الإمام الخميني في جمران ونلتقي به وكان مرة مع السيد مرتضى القزويني (حفظه الله)..

فقال السيد رسولي محلاتي: نحن عندما كنا في العراق ونأتي من النجف إلى كربلاء في زيارة الأربعين مشياً على الأقدام، فكنا نمر على القرى والمضائف العربية في الطريق، فنسمع من الناس كثيراً يرددون أسم الشيرازي أو يتداولون مؤلفاته، ولا نراهم يعرفون كثيراً أسماء المراجع الآخرين.

وكما ينبغي الإشارة إلى استفادة السيد من الوسائل الحديثة لنشر الفكر الديني والوعي الإسلامي واستنارته بتجارب العظماء والمتفوقين، وكذلك الانفتاح على الشعوب المتقدمة ووسائل المدنية.

كذلك – أذكر – كان كثيراً ما يؤكد خصوصاً في الفترات الأخيرة من الأحداث المعاصرة: كان يؤكد على هذه النقطة ويرددها في أحاديثه العامة وتوصياته الخاصة: إن المسلمين بحاجة إلى الفهم أو يعانون من أزمة الفهم.