عبد المجيد العصفور

حسب القرآن الكريم فإن هنالك ثلاثة مستويات للاستجابة النفسية لما يواجه الإنسان من إثارات متنوعة ومتعددة:

الأول: الاستجابة الغريزية: وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) (يوسف:53).

الثاني: الاستجابة القلقة: وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) (القيامة: 2).

الثالث: الاستجابة المطمئنة السوية: وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة) (الفجر: 27).

في المستوى الأول يستجيب الإنسان غريزياً لما يواجهه من إثارات الحياة، باعتباره كائناً طبيعياً بدائياً، يعطي لنفسه المجال للتمدد كحالة غازية، لايمكن أن تحد بحد أو تقيد بقيد.

وغالباً ما تكون هذه الاستجابة خاطئة لكونها استجابة غريزية فطرية، لم تأخذ بعين الاعتبار إنسانية الإنسان التي تميزه عن الكائنات الأخرى، ولا البيئة الإنسانية والطبيعية التي تشاركه الحياة، ناهيك عن التكاليف الدينية، التي يراد لها إعطاء الإنسان معاني غائية لحياته المؤقتة على وجه الأرض.

هذا المستوى من الاستجابة، أكده القرآن الكريم في تثبيته لقول زوجة العزيز حين سئلت عن موقفها من يوسف، أو لقول يوسف في تبرئة موقفه من نساء مصر، على اختلاف أقوال المفسرين

يقول تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف:53).

ويلاحظ في هذه الآية المباركة أنها استثنت فئة،من النفس الأمارة (إلا ما رحم ربي) وهذا الاستثناء لربما يرشدنا إلى أن التخلص من الاستجابة البدوية الطبيعية بحاجة الى تأهيل خاص يتحصل عبر التعرض لمناخات معينة، نستكشفها في الأسطر القادمة في استقراء سريع لآيات القرآن الحكيم التي تتحدث عن مناخات الرحمة.

ويمكن لنا أن نجد الاستجابة الغريزية عند الإنسان من خلال القرآن الكريم، حينما نراه يصف طريقة استجابته للإثارة السارة والإثارة الضارة.

(إذا مسّه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً) (المعارج: 20-21).

فالجزع ليس هو دائماً الاستجابة الصحيحة للإثارة الضارة، كما أن المنع ليس هو الاستجابة الصحيحة لكل إثارات الخير.

كما يمكن لنا أن نفهم هذا المستوى من الاستجابة من خلال الأحاديث والروايات التي تصف النفس باعتبارها خطراً على مستقبل الإنسان في الدنيا والآخرة.

قد تكون الاستجابة البدوية الطبيعية باعثة على الشعور بالرضى في المراحل الأولى، لكنها تستدعي فيما بعد إثارات جديدة من الذات أو الآخرين أو حتى البيئة المحيطة، تكبل الإنسان من كل ناحية،فتبدد طاقته الحيوية.

من هنا أصبح من واجب الإنسان السعي لتأهيل نفسه، للتغلب على ميله الطبيعي إلى الوقوع في السوء، وكما أن القرآن الكريم كشف له عن هذه الحقيقة، كذلك أرشده لمناخات الرحمة التي يمكن له من خلالها تعديل استجابته وتصحيح سلوكياته وردود أفعاله.

بين أيدينا مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدد لنا هذه المناخات:

1) الوحي السماوي:

متمثلاً في القرآن الكريم والكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، وغير خاف أن التعرض لمناخ هذا الوحي يعني استلهام طريقة الحياة من خلاله؛ ويمكن لنا مراجعة الآيات التالية لمعرفة هذا المناخ:

يقول تعالى:

(وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (الأعراف: 203).

ويقول في الآية التي بعدها: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) (الأعراف:204).

ويقول في سورة يونس: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) (يونس:57).

وفي سورة النمل يقول جل وعلا: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) (النمل:76-77).

وفي سورة القصص في إشارة إلى وجود الرحمة الإلهية في الكتب السماوية التي نزلت على الرسل قبل نبينا محمد (ص) كالنبي موسى يقول تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) (القصص:43).

ويقول تعالى في سورة العنكبوت: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) (العنكبوت:51).

وفي سورة الدخان يقول تعالى عن القرآن الكريم: (رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) (الدخان:6).

وفي سورة الجاثية يقول تعالى: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) (الجاثية:20).

وفي مطلع سورة لقمان، يؤكد القرآن الكريم على أنه رحمة للمحسنين، يقول تعالى: (ألم، تلك آيات الكتاب الحكيم،هدى ورحمة للمحسنين) (لقمان:1-3).

والحق أن القيمة التي يوفرها هذا المناخ تتمثل في المعنى الذي يسبغه الوحي على حياة الإنسان، ومن ثم تتحول كل إثارة من إثارة ساذجة أو إثارة ذات معنى سلبي يهدد النفس إلى إثارة إيجابية معمقة لإيمانه، ودافعة له نحو مزيد من الاطمئنان.

2) التمسك بالنبي محمد وآل بيته الطاهرين (ع):

يتبين لنا هذا المناخ من خلال الآيات التالية:

يقول تعالى في سورة التوبة:

(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (التوبة:61).

وفي سورة النور يقول تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) (النور:56).

وفي سورة الحديد يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) (الحديد:28).

ويقول تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء:107).

ويقول عن أهل البيت(ع)، في سورة هود: (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) (هود:73).

إن ما يوفّره مناخ التمسك بالنبي المصطفى محمد وآله الطاهرين(ع) يتمثل في الأسوات النموذجية، التي واجهت أشد إثارات الحياة قسوة بكل رحابة صدر واطمئنان،ولاشك أن الإنسان بحاجة إلى قدوات يتعلم من خلالها الاستجابة المثلى لما يتعرض له من إثارات، وإذا كان القرآن الكريم قد قدم التصور الغائي للحياة،ليعطي الإثارات فيها معاني إيجابية، فإن النبي محمداً (ص) وآله الطاهرين من خلال سيرتهم الذاتية قدموا النموذج الإيجابي للتفاعل مع إثارات الحياة.

كما أن تتبع سيرة الأنبياء في تاريخ البشرية يدعم المناخ الرحماني في الاقتداء بالنبي وآله الطاهرين. تراجع الآية111 من سورة يوسف.

3) البناء الأسري:

في مناخ الأسرة المستقرة يمكن للإنسان أن يشعر بالاستقرار النفسي، وهذا الاستقرار سينعكس على طريقة مواجهته لإثارات الحياة، وفي هذا المناخ بالإضافة للإشباع الجنسي الذي يؤدي جوعه إلى الكثير من المزالق النفسية والاجتماعية، فإنه يوفر للإنسان غطاء عاطفياً يستوعبه في لحظات الشدائد النفسية الحرجة.

في سورة الروم يرشد القرآن الكريم للتعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى في مناخ الأسرة المستقرة، يقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الروم:21).

ولابد من الإشارة هنا إلى أن عدم الإشباع الجنسي أو الإفراط فيه خارج الأطر المشروعة، وكذلك الفراغ العاطفي، كثيراً ما يؤدي إلى الإصابات النفسية العميقة التي تحتاج إلى علاج طويل الأمد.

4) بناء المجتمع الإيماني المتعاضد:

وهذا المناخ يوفر أجواء حماية للفرد والأسرة،ويخفف من حدة الإثارات الموجهة لهما،كما أنه يقدم آليات مواساة ومعاضدة للفرد والأسرة، للتغلب على الضغوطات النفسية التي تفرضها إثارات الترغيب أو الترهيب. وغير خاف أن المجتمع الذي يتوفر على ذلك، يشعر أفراده بالأمان النفسي،ومن ثم الاستقرار الاجتماعي.

يقول تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة:71).

ومما لاشك فيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله من أبرز سمات المجتمع الإيماني التي يرسمها القرآن الكريم.

بل إن القرآن الكريم يعتبر السعي لاصلاح العلاقات داخل المجتمع المؤمن مما يوفر مناخاً اجتماعياً يستمطر الرحمة الإلهية.

يقول تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (الحجرات:10).

وهكذا يفعل أيضا الإيمان والعمل الصالح.

يقول تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين) (الجاثية:30).

5) بناء علاقة منسجمة مع الطبيعة:

إنّ العلاقة بين الإنسان والطبيعة علاقة كونية توافقية، فكما أنه يؤثر فيها كذلك هي تؤثر فيه، وإن عدم الانسجام بينه وبين الطبيعة يؤدي إلى اختلال في هذه التوافقية الكونية، وهذا الاختلال ينعكس أولاً على الاستقرار النفسي، فيبدأ الشعور بالتوتر بالتسرب إلى داخل الإنسان، ومن ثم ينعكس على طريقة مواجهته لإثارات الحياة. وهذا ما يلاحظ على الذين يتعرضون إلى حرمان من النوم ليلاً أو على أقل تقدير عدم الإشباع منه، أو الذين تضطرهم الظروف للعمل ليلاً والنوم نهاراً.

إن التوافق مع الطبيعة أحد المناخات التي توفر الاستقرار النفسي، ومن ثمة تؤدي إلى ردود فعل إيجابية في مواجهة إثارات الحياة.

يقول تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) (القصص:73).

ومن الحسن الإشارة هنا إلى أن التكاليف الدينية اليومية التي ألزمها الله سبحانه وتعالى لعباده جاءت متوافقة مع النظام الطبيعي للكون،فالإنسان المسلم يبدأ نهاره بالصلاة ويستفتح ليله بالصلاة، وفي الوقت الذي فرض عليه العبادة ظهراً وعصراً، لم يفرض عليه ذلك ليلاً، بل ترك الأمر لتطوعه، وهذا الفعل له تأثير عميق على النفس في علاقتها بالله سبحانه وتعالى.

ومن التوافق مع الطبيعة تعريض الإنسان نفسه لحركة الرياح المتغيرة، لأنها تحمل في هبوبها ذبذبات رحيمة حسب ما يفيده القرآن الكريم، يقول تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) (الروم:46).

6) الاستغفار والإحسان:

من المناخات التي تستمطر الرحمة الإلهية،والتي تخلق مقاومة نفسية للاستجابة الخاطئة لما يواجه الإنسان من إثارات في حياته، طلب الاستغفار من الله سبحانه وتعالى، والإحسان في التعامل مع الناس.

يقول تعالى: (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون) (النمل:46).

ويقول تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) (الأعراف:56).

والخلاصة أن التغلب على الاستجابة الغريزية،والتي يغلب عليها طابع عدم الاستواء، بحاجة إلى التعرض إلى مناخات الرحمة، وإن مزيداً من التعمق في التدبر في آيات الكتاب الحكيم كفيل باستكشاف هذه المناخات، بل واستنباط آليات المعالجات النفسية للانحراف، في مواجهة الإثارات اليومية التي تجابه الإنسان في حياته.