معالم المنهج الاجتماعي القويم في المنظور الإسلامي

● توطئة:

الإنسان خلقه الله سبحانه، جسماً ونفساً، وله متطلبات جسمية، ومتطلبات نفسية؛ فالأكل والسكن والراحة واللباس، ونحوها من الأول، والعلم والأدب والاجتماع والفضيلة، ونحوها من الثاني، ثم إن الله سبحانه هيأ للإنسان حاجياته – سواء حاجياته التي لا تحتاج إلى العمل كالهواء والأرض ونحوهما، أو التي تحتاج إلى العمل كالدار والمأكل والملبس – من ناحية، كما بيّن له بقوانين سماوية كيفية حركته وسكونه وتفكيره وعمله، من ناحية ثانية، حاله في ذلك – في مثال بسيط – حال صانع معمل ما، حيث يهيئ لوازم المعمل، ويبين قوانينه؛ فهناك في الخلقة تعادل بين الإنسان في حاجياته وقوانينه.. والانحراف عن تلك القوانين يوجب العطب والهلاك؛ ولذا قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) طه – 124.

وقال سبحانه وتعالى: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف – 157، وقال على لسان نوح (ع): (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) نوح – 10.

فإن الإعراض عن القوانين الصالحة يوجب ارتطام الإنسان بالحواجز، كالذي يسير في الطريق المسدود، حيث يرتطم بالجدار.. كما أن اتباع غير السنن الإلهية يوجب ثقل الحياة على الإنسان؛ ثقلاً على نفسه (إصرهم) وثقلاً على أعضائه وجوارحه (والأغلال التي كانت عليهم)... أما الاستغفار بالسير في طريق الله – وهو الاستغفار الحقيقي – فإنه يوجب تدارك نقص السابق (إنه كان غفاراً) كالمريض إذا شرب الدواء، حيث يستعيد صحته، وإذا مشى الإنسان في طريق الله سبحانه؛ بالتعاون وزراعة الأرض، وشق الأنهار، والتزاوج، والاستيلاد، كان درّ المطر كثيراً، لأنه يتولد من كثرة مياه الأرض، وتكثر الأموال بالتجارة والزراعة والصناعة، ويكثر البنون، وتكون الجنات والأنهار.. فالآيات الثلاث هي بيان لطبيعة عدم سلوك، أو سلوك القوانين الصالحة، التي جعلها الله سبحانه، هذا بالإضافة إلى الأمر الغيبي الذي يجريه سبحانه ما ورائياً؛ فإن الحياة يسيرها أمران: (القوانين الطبيعية المودعة في الكون بإذن الله سبحانه) و(الأمور الماورائية التي يجريها الله سبحانه، بدون أسباب ظاهرة).

أما من يقول بالإنسان الأول المنحدر من نسل الحيوان، وبالاشتراكية الأولى، وبالاجتماع لأجل الاقتصاد، وإن الاقتصاد هو البناء التحتي لكل القوانين والأنظمة والأخلاق والآداب والأديان... وما إلى ذلك، فإنه ليس فقط لا يعوزه الدليل، بل الدليل على خلافه في كل خطوة خطوة.

● بين الترابط والتباعد  ●

ثم إن الإنسان حيث خلق اجتماعياً بالطبع، لا لحاجاته الجسدية فحسب، وإنما لحاجاته النفسية أيضاً، وحيث أن الإنسان يستأنس بالإنسان، ويستوحش لفقده، فهو يؤثر في الإنسان الآخر – سواء كانا فردين، أو مجتمعين، أو بالاختلاف – والتأثير قد ينتج الإيجاب بـ (الترابط)، وقد ينتج السلب بـ(التدابر).

والترابط:

1- قد يكون لأجل هدف واحد؛ فيجتمعان للوصول إليه، بدون أن يكون للمجتمعين لون واحد، وهذا يسمى (الترابط الهدفي).

2- وقد يكون من أجل وحدة اللون التابعة لوحدة الثقافة، في الأخلاق والآداب والدين والمراسيم، وهذا يسمى (الترابط الاجتماعي).

كما أن التدابر، بانفصال أحدهما عن الآخر، على ثلاثة أقسام؛ لأنه:

1- قد يكون لأجل وصول أحدهما – منفرداً – إلى الهدف، بدون عمل ما يوجب تأخير الآخر، وإن كان الآخر أيضاً يريد نفس الشيء – سواء في فردين أو جماعتين – وهذا يسمى (الاستباق)؛ حيث أن كلاً منهما يستبق الآخر في نيل هدف خاص، كالمسابقة بالخيل.

2- وقد يكون كالأول، ولكن مع عمل ما يوجب تأخير الآخر؛ فهو إيجابي بالنسبة إلى نفسه، وسلبي إلى الآخر؛ ويسمى (المنافسة) كمنافسة التجار وسائر الحرفيين.

3- وقد يكون الثاني، بإضافة كون المنافسة بالعداء والبغضاء؛ ويسمى (المحاربة) كما في القتال والحروب.

ثم إن كلاً من الترابط والتدابر ينتهيان – غالباً – إلى المسالمة، وهي العيش الاجتماعي بين فردين أو طائفتين بسلام؛ فالمسالمة في الترابط، قد تكون مسالمة (الآمرية والمأمورية) حيث يتسلط أحد الطرفين على الآخر، فيسلم الطرف الثاني بآمرية الطرف الأول، وقد تكون مسالمة (التوافق الاجتماعي) بدون الآمرية والمأمورية، والتوافق قد يكون (بالعدل) بأن يُعطى كل طرف حقه، وقد لا يكون بالعدل؛ مثلاً: نهر بين قريتين، نفوس إحداهما ألف نسمة، ونفوس الأخرى ألفا نسمة، فإن قسم النهر بينهما نصفين، كانت مساواتهما بدون عدل، وإن قُسّم للأولى ثلثه كان عدلاً؛ فإن بين اللفظين عموماً من وجه.

وكل من الآمرية والمأمورية، والتوافق، قد يكون مع الرضى الباطني، وقد يكون بدونه، وأهم القسمين ما يكون بالرضى – إذْ المقسر لا يدوم – ولا يحصل الرضى الباطني أبداً، إلا إذا صادف التطبيق الأصول المقبولة، وبعبارة أخرى (إذا كان النظام مطابقاً للأيديولوجية) كأنه بدون ذلك يقع التدافع الخفي، ثم الجليّ، بين النظام والأصول، وينتهي أخيراً إلى الانفصام، سواء في الحقل السياسي أو الاقتصادي أو غيرهما.

مثلاً: إذا كانت الأمة تعتقد أن السياسة الحقة في قيادة الأمة هي السياسة المتخذة من الشريعة الإسلامية (بالنحو الاستشاري)، وكانت القيادة الديكتاتورية مفروضة على الأمة؛ يقع التصادم بين معتقد الأمة، وبين نظامها السياسي، وذلك ينتهي – إن عاجلاً أو آجلاً – إلى التضارب والانفصام؛ ولذا قالوا: خير القيادات وأطولها عمراً ما نبع من باطن الأمة.

وكذلك في الاقتصاد؛ فإذا كان الاقتصاد الإسلامي أمراً وسطاً بين إفراط (الرأسمالية) وتفريط (الشيوعية)، كان الاقتصاد السليم القابل للتطبيق ما كان وسطاً بينهما؛ فإذا جعل النظام الاقتصادي مائلاً إلى أحدهما، أوجب التصارع بين الأصول (الايديولوجية الاقتصادية) والتطبيق (النظام المجعول)؛ الأمر الذي ينتهي أخيراً إلى التعارض والانفصام.. وكذلك الحال بالنسبة إلى الثقافة وغيرها.

أما (المسالمة) التي ينتهي التخالف إليها، فالغالب أن تكون بسبب المصلحين، بعد تهيؤ الطرفين نفسياً لها؛ حيث أن الإنسان مغرور غالباً، فيزعم أنه بإمكانه أن يخرج خصمه من الساحة، وبعد تجربة العداء، يرى أنه لم ينفعه ذلك، وقد أخذ من طاقاته الشيء الكثير، بالإضافة إلى ما حط من سمعته، بما لو صرفها في البناء لكان أجدى له؛ وذلك هو المناخ المناسب للتعايش السلمي، وحينذاك ينشط المصلح لجعل شروط تقارب وجهات النظر والتوافق بين الجانبين إما على نحو (المهادنة)، أو على نحو (المعاهدة)، أو على نحو (المصالحة)، أو على نحو (المعايشة)، وهذه مراتب متدرجة؛ فالمهادنة عدم الخصام، والمعاهدة تضاف إلى المهادنة؛ بأن يتعهد كل طرف بعدم الاعتداء، ثم يأتي دور المصالحة، حيث يصطلح الطرفان ويكونان كإخوة، وأخيراً يمتزجان كجماعة واحدة، وهي المعايشة.

● الاجتماع وشعبه ●

(الاجتماع) مركب من أناس كثيرين، وغالباً يكون لهم منظمات، وجماعات، وجمعيات، ومؤسسات، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية.

والاجتماع يشتمل على (الأخلاق الاجتماعية) و (الآداب الاجتماعية) و (المواثيق الاجتماعية) و (القوانين الاجتماعية) و (المواريث الاجتماعية) و(الشعائر الاجتماعية) و (المقررات الاجتماعية).

فالأول: صفاتهم النفسية كالكرم، والبخل، والشجاعة، والجبن، وحب الضيف وكرهه وما إلى ذلك.

والثاني: آدابهم في بناء الدور، والسلام، والمجالسة، وصلة الرحم، وكيفية اللبس، وما أشبه.

والثالث: ما يحصل من العهود بواسطة جماعة من كبار المجتمع مع آخرين منهم، أو مع مجتمع آخر.

والرابع: القوانين المرعية في بيعهم ونكاحهم ومواريثهم ومرافعاتهم؛ مما جعل العقاب لمن خرقها.

والخامس: ما ورثوه من الآباء والأجداد من الرسوم والآداب وغيرها.

والسادس: ما يظهرونه من الأعمال في فترات خاصة بحسب عقيدتهم.

والسابع: ما كان من القوانين المرعية، مما يحسن اتباعه ولا يصل إلى مستوى القانون الذي يُعاقب مخالفه، فإذا لم يسر فرد وفق هذه الأمور، سُمي (شاذاً)، فإن استمر على خلافه، سُمي (منحرفاً).

ثم إن الحالة التي تظهر في الاجتماع، وتشمل قطعة كبيرة منه، بما فيها من حركة واضطراب، إن كانت سريعة الزوال سُميت (هوساً اجتماعياً)، وإن كانت بطيئة الزوال سُميت (جداً اجتماعياً)، فإن رافق ذلك هرج ومرج وحالات غير عادية سُميت بـ (الجنون الاجتماعي)، فإن كان مثل ذلك حصل من حادث مخوف، كسيل أو حرب فجائية أو زلزال شديد، سُميت بـ (الوحشة الاجتماعية).

والروابط التي تحكم أفراد الاجتماع، إن كانت سماوية، سُميت (ديناً)، كما أن الروابط سواء أكانت سماوية أم لا، تسمى (أنظمة) و(مناهج) و(قوانين)..

● علاقة الفرد بالمجتمع ونحوه في ضوء الإسلام 

ثم لنشبع هذا القسم من الموضوع، بكلمات للإمام علي بن أبي طالب (ع) في نهج البلاغة:

قال (ع) في وصية له للحسنين(ع): (أوصيكما.. بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم (1)، فإني سمعت جدكما (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) (2).

وقال (ع): (وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع) (3).

وقال (ع): (وإنما أنتم أخوان على دين الله، ما فرّق بينكم إلا خبث السرائر وسوء الضمائر، فلا توآزرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادون،وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخالف من عيبه، إلا مخافة أن يستقبله بمثله) (4).

وقال (ع): (فإن الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة، التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر) (5).

وقال (ع): (والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب) (6).

وقال (ع): (الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة) (7).

وقال (ع): (فإياكم والتلون في دين الله، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل، وإن الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى ولا ممن بقى) (8).

وقال (ع): (فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء (جمع ملأ) مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحازبين) (9).

● المجتمع المتخلف بؤرة للرذائل الخلقية ●

إن الاجتماع إذا انحرف، صار مركزاً للرذائل الخلقية والعملية؛ حيث أن الاجتماع هو الجهاز الضاغط على الأفراد والجماعات في الاستقامة أو الانحراف. والفرقة من مواليد الاجتماعات المنحرفة.

فإن الاجتماع إذا كان مستقيماً، اشتغلت جماعاته وأفراده بالبناء، فتوجد المؤسسات البانية، والجمعيات الخيرة، والمنظمات العاملة في سبيل التقدم، وهي تجذب أكبر قدر من الأفراد؛ فيعّج الاجتماع بالفضيلة، ويأخذ سبيل الرقي والتقدم، والسير في مدارج الكمال.

بينما الاجتماع إذا كان منحرفاً، أخذت الجمعيات فيه بالتحلل والتفسخ، وتفشت البطالة، وكثر الجهل، وشاعت الفردية، وصار مركزاً للجمود والتأخر، وشاع فيه الفساد والإفساد.

أما اختلاف الاجتهادات، ففي الاجتماع المتقدم يعالج بسيادة الكلمة، والبحث الحر، والانتقاد النزيه، وحتى في الحقول السياسية، نجد الأحزاب الحرة، تحاول كل واحدة منها التقدم بكثرة العمل وحسن الخدمة، ويقع التنافس في البناء، والاستباق إلى الفضيلة، وقد أكد القرآن الكريم على ذلك؛ حيث قال سبحانه: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) آل عمران – 133، وقال: (استبقوا الخيرات) البقرة – 148، وقال: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) المطففين – 26.

وعلى العكس من ذلك، الاجتماع المتخلف، حيث تأخذ القوة مكان الكلمة، والسيف والسجن والسوط مكان الانتقاد البنّاء والبحث الحر، ويتسلط الأشرار، حيث أنهم أقدر على الفتك والإرهاب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تكثر فيه العزلة والانزواء، حيث لا يجد الصالحون مجالاً للتنفس، وتتفشى البطالة والتزهد والترهب.. وكذلك صار المجتمع المسيحي أبان حكم البابوات، بل والمجتمع الإسلامي في فترات منه، وكان من تلك الفترات، ما قبل خلافة الإمام أمير المؤمنين (ع)؛ فقد ورد أن علياً (ع)، لما جاء إلى الكوفة رأى في مسجدها أناساً لا عمل لهم، يعيشون على صدقات الناس، ويتزهدون في الدنيا؛ فأخرجهم الإمام (ع) من المسجد، ونهرهم، وأمرهم بالعمل.

● أقسام المجتمعات

الاجتماع على أربعة أقسام:

1- المجتمع الجامد.

2- المجتمع المتحرك نحو النقص والانحراف.

3- والمتحرك نحو الكمال بأسس ثابتة.

4- والمتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة.

1) المجتمع الجامد:

وهو الذي يقف في مكانه، بدون تجديد في فكر أو صنعة، وهذا إنما يمكن إذا كان المجتمع في محيط طبيعي وجغرافي خاص، بعيداً عن المجتمعات البشرية، وكان مجتمعاً قليل الأفراد، لأنه إذا توفر فيه أحد الشرطين:

أ- إذا كان قريباً إلى المجتمعات البشرية، فلم يكن محاطاً بالجبال ونحوها مما يقطعه عن الناس، أو كان في السهل، ولكن كان بعيداً عن المجتمعات البشرية لكونه في جزيرة، أو في القطب، أو نحو ذلك... كان لا بد من احتكاكه بسائر أفراد البشر؛ مما يوجب خروجه عن الجمود.

ب- وكذا إذا كان مجتمعاً كثير الأفراد، فإن مثل هذا المجتمع لا بد وأن يظهر فيه المفكرون والنوابغ والتقدميون، ولسعة المجتمع يكون ضبط الجامدين له صعباً، فتظهر فيه الأفكار الجديدة، وتبعاً لذلك تظهر فيه الصنائع الجديدة، ولا يبقى مجتمعاً جامداً.

وعليه فالمجتمع الصغير المنقطع، هو الذي يبقى جامداً؛ لأنه لا تظهر فيه الأفكار الجديدة؛ لقلة أفراده وانقطاعه، ولو ظهرت خُنقت، لقوة المسيطرين عليه.

2) المجتمع المتحرك نحو النقص والانحراف:

والمراد به المجتمع المتحرك في الصنعة ونحوها، إلا أن الفلسفة التي ينطلق منها هي فلسفة التردي والهوى، كما لو كان منطلقاً من فلسفة دكتاتورية أو وجودية أو قومية متعصبة، أو ما أشبه.

3) المجتمع المتحرك نحو الكمال بأسس ثابتة:

وهو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة؛ كالتعاون، والعلم، والفضيلة، والتقوى، وحب الناس، والإنسانية، وابتغاء الخير، والحرية، ونحوها...وأخذ يعمل بتؤدة واتزان ومثابرة... ومثل هذا المجتمع سيبقى ينمو ويزدهر ويتوسع إلى ما شاء الله.

4) المجتمع المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة:

وهو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة بالنسبة إلى السمو والإنسانية، ولكن لا يراعي سلسلة الرتب والدرجات، والعمل بتؤدة ومثابرة. ومثل هذا المجتمع خليق بالسقوط؛ لأن العمل إذا لم يكن عن إتقان، لم يبق راسخاً، بل ينهار بعد مدة من الزمان، وقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: (رحم الله أمرءاً عمل عملاً فأتقته) (10).

● سبب اختلاف المجتمعات

إذا رأينا اختلاف مجتمعين من المجتمعات البشرية في بعض الأمور، فلا بد أن يعلل ذلك بأحد أمرين:

1- انحراف أحدهما عن الحقيقية، إذا كان بين الأمرين تناقض، وإلا أمكن انحراف كليهما، مثلاً: لو رأينا بعض المجتمعات كالرأسماليين والشيوعيين يحسنّون الحرب والاستعمار، ورأينا العالم الثالث يقبحّهما، فإنه لا بد وأن يكون أحد الطرفين باطلاً؛ إذاً لا يعقل أن يكون شيء واحد حسناً وغير حسن – كما ثبت في المنطق-.

ومثال انحراف كلا الطرفين، مثل كون المال بيد الدولة – كما يقول به الشيوعيون – أو بيد زمرة خاصة من الأثرياء – كما يقول به الرأسماليون – فإن كليهما باطل؛ حيث اللازم كون المال بيد من يحصل عليه بدون إجحاف.

2- أو اختلاف الظروف في المجتمعين، مما لا يكون اختلافاً في الحقيقة؛ فإن أي واحد من المجتمعين لو كان في ظروف الآخر، لكان يعمل كما يعمل المجتمع الواجد للظروف، وبالعكس مثل: (عمل الأطفال) فإنه يحسّنه المجتمع الفقير، ويقبّحه المجتمع الغني؛ ذلك لأن الأول محتاج إلى عملهم – بما يجعل العمل أحسن من باب الأهم والمهم – بينما المجتمع الثاني (الغني) لا يحتاج إليه، فالأمر يبقى على أصله من قبح استعمالهم؛ لأنه يذوي شخصيتهم، ويعقد نفسيتهم، فيما لم يكن عملاً ترفيهياً مثل سقي الحدائق، وإطعام الحيوانات، وما أشبه.

● المؤسسة الاجتماعية بين الصحة والسلامة

إذا كانت المؤسسة الاجتماعية قد رُكّبت صحيحاً، وكانت (الفرضية) التي ينتهجها الإنسان في حياته فرضية صحيحة، كان الفرد صحيحاً، وكان الاجتماع – المركب من اللبنات الفردية الإنسانية الصحيحة – صحيحاً أيضاً، وإلا كان الفرد والاجتماع منحرفين ومريضين.

فمثلاً إذا كانت هنالك آلهة متعددة – كما قال الكفار عن الرسول (ص): (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (ص: 5)، فمن الطبيعي أن يقع بين عبّاد الآلهة التحارب والتضارب؛ لأن هذا يقول: إلهي أفضل، وذلك يقول: إلهي أفضل...

وكذلك إذا لم يكن الإنسان يعتقد بالله واليوم الآخر، ولم ير رقيباً على نفسه وعمله، فإنه سيكون منحرفاً تلقائياً؛ فلا مانع عنده من السرقة أو القتل أو أي شكل من أشكال الانحراف..

وهكذا، فإننا نشاهد أن المؤسسة الاجتماعية إذا كانت صحيحة، فإنها تعطي للإنسان الحريات المعقولة، كحرية الزراعة والتجارة والصناعة والسفر والإقامة وتحصيل العلم والزواج والمسكن... ومثل هذه المؤسسة توجب صحة الأفراد جسمياً، وتوفر لهم العمل، حتى لا يكونوا عاطلين، كما أنها توفر للإنسان المسكن والملبس والمأكل والمشرب والزواج وغير ذلك.

أما إذا كانت المؤسسة الاجتماعية منحرفة، فإنها لا توفر الحريات للإنسان، أو إنها توفر له حريات منحرفة، كحرية الزنا، وحرية الربا، وحرية الاحتكار، وما أشبه، وفي كلا الحالين، يسبب ذلك مرض الاجتماع، ومرض الاجتماع يسري إلى الفرد؛ فإنه قد ثبت (في علم الاجتماع) أن كل واحد من الفرد والاجتماع يؤثر في الآخر؛ فمثلاً الفرد الصحيح في مؤسسة تعليمية يسبب رقيّ الطلاب، كما أن العكس كذلك، فإذا كان الاجتماع فاسداً، فإنه يؤثر في أفراده تأثيراً سيئاً.

فمن هاتين الناحيتين – ناحية (الفرضية الذهنية) وناحية (النظام الحاكم على المؤسسة الاجتماعية) – تفرز صحة الاجتماع أو فساده، فإذا كانت الروح السائدة في المجتمع حب الآخرين والتعاون معهم، وساد في الاجتماع القانون الصحيح، عاش هذا الاجتماع بخير جسماً وروحاً، وأخذ في التقدم وإلاّ كان العكس.

● الثقافة العامة

لكل إنسان ثقافة دينية أو دنيوية، ورثها أو اكتسبها من مجتمعه، أو اخترعها. وثقافات الأفراد تتجمع حتى تُعطي لوناً خاصاً للمجموع، ثم تتجمع ثقافات الجماعات في وحدة أكبر، ويتغير اللون إلى المتوسط بين تلك الألوان، وهكذا تتجمع الوحدات الكبرى في وحدة جامعة تشكل ثقافة المجتمع..مثلاً: إذا اجتمعت عائلة كرمها مئة في المئة، وعائلة كرمها عشرون في المئة، وعائلة كرمها ثلاثون في المئة، كان المجتمع من هذه العوائل كرمه خمسون في المئة، وإذا جمعت وحدة كبرى بين هذه المجموعة، ومجموعة أخرى كرمها عشرة في المئة، كان الاجتماع كرمه ثلاثون في المئة.

وكذلك الحال في الثقافة، والأخلاق، والشجاعة، وغيرها، ولذا كان في الثقافة الاجتماعية جهات اجتماع وجهات اختلاف، وكلما كبرت الوحدة الجامعة، كان الرقي أكثر؛ حيث أن الفضائل في الأفراد والجماعات تجد متنفساً أكثر، وظهوراً أقوى؛ ولذا حيث جمع الإسلام بين الشعوب المختلفة من عرب وفرس وقبط وهنود وغيرهم، وصلت الأمة الإسلامية إلى أكبر قدر من النضج في مختلف ثقافات الحياة.

لكن إنما يكون ذلك إذا توفر مناخ الحرية الكاملة للأفراد، وإلا فلم تكن حصيلة الاجتماع الكبير إلا التأخر؛ فإن الثقافة بحاجة إلى تحرك وانتشار، وهما لا يتوفران إلا في مناخ الحرية، وكذلك ما يتبع الثقافة، من فروسية وصناعة وزراعة وتجارة وغيرها.

ثم إن الثقافة مادية ومعنوية؛ فالمادية ما يرتبط منها بالجسد، والمعنوية ما يرتبط منا بالنظام والعقيدة ونحوهما، وكلتاهما في عرض واحد، أما قول جماعة من الماديين بأن (الاقتصاد) هو البناء التحتي للدين والأخلاق والأنظمة وغيرها – مما هي في نظرهم بناء فوقي – فهو قول خال عن الدليل، بل قام الدليل على خلافه.

والفرد في الاجتماع، وكذلك في الجماعة المترابطة – في وحدة منظمة واحدة – له: (1) مكانة و(2) عمل اجتماعي.

(فالأول): عبارة عمّا له في الاجتماع من الشخصية الموجبة لاحترامه، ولسهولة نفوذ أوامره. وهذه المكانة الاجتماعية تابعة للمال والسلاح والعلم والعشيرة ونحوها، والأخلاق والأعمال، وأحياناً الصفات الجسدية كالإنسان الجميل أو الإنسان القوي البنية.

بينما (الثاني): عبارة عمّا يزاوله الشخص من الأعمال، وكلما كان عمل الإنسان أكثر وأحسن – كماً وكيفاً – زاد ذلك من مكانته الاجتماعية.

● الخاتمة

إن ما نشاهده الآن في المجتمع الإنساني من الاضطراب والقلق والتحير والتهديد، ليس لأن الإنسان وصل إلى طريق مسدود، وإنما لأن الإنسان بقدر ما تقدم في ميادين العلم والصناعة، لم يتقدم في ميدان الإيمان والتقوى، وكما أنه إذا بدل السيف في يد اللص بالبندقية صار خطره أكثر، صار العلم هكذا، حيث أن التقدم العلمي والفني أدى إلى قوة الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يتصفون بالفضيلة والتقوى.

فإذا تمكن عقلاء العالم من تأمين كيان الناس، وإرجاع تعاليم الأنبياء إلى البشر، زال هذه الخطر، وذلك لا يمكن إلا بزوال الرأسمالية وبقايا الشيوعية، حيث أن رؤساء ورموز هذين النظامين ذوو أطماع، ومن المعلوم أن الطامع إذا صارت لديه قدرة مادية، فسد وأفسد، وإزالة هذين النظامين لا ينجي العالم الثالث فحسب، بل ينجي نفس العالمين الشرقي والغربي من مآسي هذين النظامين، وإلا فلا ينبغي الإشكال في أن البشرية تقدمت تقدماً كبيراً؛ فالمواليد كثرت والأمراض تعالج بسرعة، والأمراض التي كانت تحصد البشر حصداً، كالوباء والطاعون، أزيلت كلية أو قّلت إلى حد كبير، والسفر صار سهلاً، وساعات العمل تقلصت، والعلم أخذ في الانتشار، وصعوبات العمال والفلاحين قّلت – بسبب التقدم العلمي والتقني – والأعمار طالت إلى حد ما، بسبب الوسائل الصحية الحديثة، ووسائل راحة الإنسان كثرت، وأسباب الترفيه ازدادت، والمجتمعات تقاربت...

وقد أخذ الاجتماع يتحول إلى التجديد بسرعة كبيرة؛ إذ من الواضح أنه كلما تقدمت العلوم، تسارعت خطى التقدم أكثر، لتراكم المعلومات السابقة.

غير أن المتحصل من تجارب الاجتماع الإنساني، ومما يقوله العقل، أن جملة أسباب الرخاء والتقدم المادي، التي أصاب منها الإنسان المعاصر قدراً غير يسير، وإن بصور متفاوتة، لا تلبث أن تتحول إلى أسباب تدميرية أكثر منها بنائية، إذا ما غلبت نوازع الشر في النفس الإنسانية؛ ذلك أنه من البديهي أن التأثير، والفعل والانفعال، متبادل بين الاجتماع والفرد؛ حيث أن الأول مركب من اللبنات الإنسانية، فإذا مرضت هذه اللبنات مرض الاجتماع، والعكس صحيح.

إذن، نتخلص من جميع ما تقدم إلى نتيجة مفادها أن البنية الاجتماعية العامة تتوقف – صحةً وسقماً – على مجموع بنيات أفرادها؛ فالعلاقة بين سائر هذه الأطراف تستمر على هيئة علاقة طردية، تترشح منها متانة أو هشاشة البناء الاجتماعي..

وفي الحق أن الأمر بالكلية إنما يقوم على نوع الفرضية الاجتماعية (المنهج) التي توجه النفوس، بحسبها، إما إلى الهدى، وإما إلى الضلال؛ ومن هاهنا نبّه الدين الإسلامي القويم بقوة، إلى خطورة المنهج ودوره في المسيرة الاجتماعية، حيث ورد عن رسول الله (ص) قوله: (من سنّ سنّة حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنّةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهو القول الواضح، الذي يطبق المفصل، في هذا المضمار الخطير.

وأخيراً، لا بد من التأكيد أنه لا نُدحة للاجتماع الإنساني، إذا ما أراد أن يسير سيراً تصاعدياً، من أن يتجه الوجهة التي أرادها البارئ عز وجل، حيث قال: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) طه – 124.

مصادر البحث ..

1- موسوعة الفقه: ج109 كتاب الاجتماع، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

2- موسوعة الفقه: ج110 كتاب الاجتماع، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

3- الصياغة الجديدة: آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

الهوامش:

(1) نهج البلاغة: صالح ص 421.

(2) نهج البلاغة: صالح ص 421.

(3) نهج البلاغة: صالح ص 422.

(4) نهج البلاغة: صالح ص 168.

(5) نهج البلاغة: صالح ص298.

(6) نهج البلاغة: صالح ص 184.

(7) نهج البلاغة: صالح ص 211.

(8) نهج البلاغة: صالح ص255.

(9) نهج البلاغة: صالح ص 297.

(10) الأمثال النبوية: ج2، ص103. وأنظر الوسائل: ج2، ص883، الباب 60.